يعيش الكثير من المثقفين والمفكرين وهم التميّز عن عامة الناس، الأمر الذي يجعلهم بعيدين عن إدراك هموم المجتمع وديناميكيته وتحولاته المتسارعة في ظل العولمة والنظام الدولي الجديد. أن يعيش بعض المثقفين في عوالمهم الخاصة، فهذا أمر يخصهم، ولكن حينما يشعرون بأنها هي العوالم الحقيقية...
يعيش الكثير من المثقفين والمفكرين وهم التميّز عن عامة الناس، الأمر الذي يجعلهم بعيدين عن إدراك هموم المجتمع وديناميكيته وتحولاته المتسارعة في ظل العولمة والنظام الدولي الجديد. أن يعيش بعض المثقفين في عوالمهم الخاصة، فهذا أمر يخصهم، ولكن حينما يشعرون بأنها هي العوالم الحقيقية وعلى الآخرين الاعتقاد بها، فهذا يجعل منهم وكأنهم يُغردون خارج السرب كما يُقال.
واحدة من مهمات المثقف (المفكر) اليوم أن يعيش الواقع ويحاول تفكيكه وفهمه، ليساعد الآخرين في فهم الحياة بطرق أفضل. طرق تساعدهم على فهم قيم الخير والجمال لاستنهاضها في الحياة العامة، وأن يجعل من ثقافته وسيلة فكرية ليفقه الناس محيطهم وما يدور حولهم، لذا أعتقد أن التعقيد والتحذلق في طرح بعض الرؤى واستخدام مفاهيم غريبة، سيُزيد الفكر والحياة تعقيدًا، بدلا من أن يشارك صاحبها في طرح آراء جديدة تعيد إنتاج المعنى للحياة بيسر وسهولة، بعيدة عن التعالي على عامة الناس.
أن يعرف كاتب ما بعض المفاهيم في الفكر والفلسفة، فلا يعني أنه أفضل حال من باقي الناس العاديين وأكثرهم فهمًا للحياة، لأن معرفته ببعض المفاهيم لا تجعله مفكرا، وإن عرف بعض المصطلحات الفلسفية الغربية الحداثية لا تُصيّره فيلسوفًا.
بمعنى: أن المجتمع يحتاج لمثقف (مفكر) يشاركهم همهم، ولا يعيش في (برج عاجٍ) أو في علم يوتوبي.
من حق المثقف (المفكر) أن يمارس النقد والتقويم لبعض ما هو سائد من ممارسات خارج مقبولية العقل السليم، والفطرة السليمة، ولكن عليه أن يعي أن بعض الممارسات العقائدية والطقوسية المرتبطة بتراث الشعوب، تكون مقبولة وفق الرؤية (الأنثربولوجية) لها، بما يعطيهم حقهم في ممارسة العقيدة بانتظام تقتضيه طبيعة الأنظمة الديمقراطية على قاعدة احترام الحريات بما لا يحد من حريات الآخرين.
لا ينفع أن ننبذ المخالفين لنا لأنهم لا يفقهون حداثتنا، ولا يفقهون تصورنا للطقوس والشعائر والعادات الاجتماعية.
ولا تسعف بعض المثقفين نزعاتهم الما بعد حداثية في فتح أفق التفكير للغيب والميثولوجيا، لأنها ستبقى رؤية خارج (حياة المجتمعات) بتعبير (غوستاف لوبون). لنجد مثقفًا يهيم باستخدام ألفاظ لا يفهمها قارئه
لا يعني الغموض وتعقيد الأفكار أن الكاتب يفهم أشياء ورؤى لا يفهمها القارئ في ذات المجال، وبعض الكتاب يتقصد التعقيد في كتابته على قاعد أبي تمام حينما قيل له:
لماذا تقول ما لا يُفهم؟ فأجاب ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟!.
بمعنى: لا ينفع التحذلق عند بعض الكُتّاب بقصد تعمية القارئ عن سوء فهمهم لما يكتبون وعدم وعي بعضهم به. من يظن أنه مثقف (مفكر) لمجرد أنه يكتب بلغة غير مفهومة حتى عند صاحب الاختصاص المطابق له، سيجد أن ما يكتبه أشبه برطانة لا نفع فيها، وقد يكون ضرر ما يكتبه أكثر من نفعه.
ليس المهم أن نكتب بلغة غامضة في الأدب والفقه والفكر، لنظهر عضلاتنا على من لا يعرف تحولات المفاهيم، ولكن المهم أن يكون في ما تكتب قيمة معرفية وجمالية وأخلاقية.
ذكر (جون كيمني) تلميذ (أينشتين) في كتابه (الفيلسوف والعلم) أن من يكتب بلغة غير مفهومة ومعقدة، فإما أنه يكتب باختصاص علمي يحتاج لعدة مناهجية ومفاهيمية، مثل من يكتب في الفيزياء أو الكيمياء، وهذا من حقه. أو أنه لا يفقه شيئًا مما يكتب، حينما لا يستطيع أن يوصل أفكاره إن كتب بمجال في العلوم الإنسانية التي غايتها المشاركة في التغيير والتجديد المجتمعي، هنا يحتاج لإعادة التفكير في أسلوبه وتعبيره الذي اتخذه أداة للتوصيل.
ولا اعتراض في أن يكون للكاتب أسلوبه الخاص في التعبير لتوصيل أفكاره، فهذا أمر ممكن لأنه يُشكل هويته الثقافية، ولكن بشرط قدرته على توصيل معنى يستطيع القارئ المختص مثله إدراكه أو فهم المسكوت عنه فيه.
اضف تعليق