بالاجمال لم تتطور بنى الأحزاب العراقيَّة، ولم تنمُ فكريًّا ولم يحصل تحديثٌ في الخطاب ولم تراجع برامجها وبناها التنظيمية، وظلت تدور في نطاق عقليَّة ما قبل الدولة الحديثة الراهنة وأحلام دولة الأيديولوجيا الطوباويَّة، وفوق ذاك صارت الأحزاب أملاكًا خاصة يملكها زعماء ووارثون ويخدمها مال يجنى من اقتسام السلطة والثروة...

تعاني أحزاب عراقيَّة من الشيخوخة ومن ضمور متزايد في دورها السياسي، وتراجع قدرتها على الاحتفاظ بصورة الحزب الفاعل ذي القدرة على كسب اجيال جديدة إلى صفوفه، تكافح هذه الأحزاب للبقاء في ساحة العمل السياسي، اعتمادا على ماض طويل وتاريخ من النشاط الحزبي، وولاء افراد من جيل أو اجيال سابقة.

التاريخ وحده لم يعد كافيا لتدعيم الصورة الآفلة لهذه الأحزاب، ما يعني ضرورة البحث عن أسبابٍ عميقةٍ لأزمة الأحزاب السياسيَّة في العراق في بيئة شديدة الاضطراب والانتقال من نمط إلى آخر، تواجه الأحزاب العراقيَّة وتحديدا، الشيوعي العراقي، الدعوة الاسلامية، الديمقراطي الكردستاني، الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب الاسلامي، وهي الأحزاب ذات البنى التنظيمية السياسيَّة والحزبية الراسخة تحدي الحفاظ على تماسكها الداخلي وجاذبيتها الشعبية، بعد سلسلة من الهزات الداخلية والتراجعات والانقسامات، الناتجة من تبدل أولويات العمل وأخلاقياته ومتطلبات المرحلة الجديدة.

مرحلة بناء الدولة وتغير الخطاب السياسي والتعديل القسري، الذي دخل على الأيديولوجية الثوريَّة وحلول أولويات وطنيَّة جديدة، لم تكن هذه الأحزاب مستعدةً استعدادًا فكريًّا وسياسيًّا وتنظيميا وجماهيريا لصدمة استلام السلطة والمشاركة فيها دفعة واحدة، فالانتقال من المعارضة إلى السلطة، ومن أخلاقية النضال ومشاقه إلى رفاه المشاركة السياسيَّة ومكاسبها، ومن الوحدة الحزبيَّة والتضامن الداخلي والانضباط الحزبي إلى مغريات الزعامة، وتعدد الرؤى ومطامح السلطة أدخل متغيرات كبرى على سلوك هذه الأحزاب، وجعلها تواجه تحديا داخليا ومنافسة خارجية ومزاحمة على مساحة القوة والنفوذ، بظهور لاعبين سياسيين جدد وناشطين وحركيين وحركات جنينية آخذة في النمو داخل الأحزاب نفسها.

كان من أبرز عيوب هذه الأحزاب، هو عدم قدرتها على المواكبة بسبب جمود الفكر وتصلب الرؤى وشيخوخة القيادات والفشل الذريع في اجتذاب الجيل الجديد وفهم أولوياته.

لقد أظهرت هذه الأحزاب عجزًا عن تجديد خطابها والمواءمة بين مبادئها وأفكارها وأيديولوجيتها، وبين متطلبات الواقع الجديد، وكان لتغلب وتصلب الجانب الأيديولوجي سببا لتراجع هالة هذه الأحزاب وذهاب بريقها في مساحة عملها، فلم يعد جيل العراق الراهن مجذوبًا إلى فكرة الدولة الإسلاميَّة، بسبب تراجع الفكرة والنموذج، ولم يبق للأحزاب القومية من يدعمها في فكرة الدولة القوميَّة أو الوحدة القومية، رغم أن هذه الفكرة ما زالت تداعب أحلام الكرد مثلا، لكنها تراجعت عربيَّا وأصبحت الدولة الوطنية القطرية وسيادتها ورفاهها ومصالحها هي الاولوية، وبتراجع الفكر اليساري والاشتراكي عمومًا في جميع انحاء العالم، لم يعد للتنظيمات الماركسيَّة والشيوعية ما يغري غير الرواد وإتباع الحلم القديم في مواصلة المشوار، وبتراجع الأيديولوجيا واقتراب موتها، حلٌّ بديلٌ أيديولوجيٌّ خلاصيٌّ آخر من نوع المقاومة والمقاومة الذكية، يقوم على فكرة تعبئة الشباب بسلاح الرفض، وليس بسلاح البناء للدولة المأمولة، فاجتذبت هذه الستراتيجية الحماسيين من الباحثين عن مساحة عمل سياسي في قبال أحزابٍ تاريخيَّةٍ عتيدة وتعددت مشارب وأسباب الانقسام بتعدد المقولات والراعي والداعم في ساحةٍ محتدمةٍ مخترقةٍ تردد أصداء مشاريع الآخرين بغياب مشروعٍ وطني متكامل.

كشفت الحياة الحزبيَّة العراقيَّة عن فشل تاريخي في الاستجابة لداعي التطوير الداخلي، والاستعداد للتعاقب الجيلي والانسجام مع الأولويات الجماهيريَّة وتنظيمها وقيادتها، بينما تكرست شخصانيَّة تاريخيَّة ووارثة للمشاريع الفكرية أو السياسيَّة وتأصل تقديس خطير يقوم على الدوران حول محورية الفرد وكاريزماه، وتوظفت الطاقات في سبيل مشروع هذا الفرد، وليس مشروع الحزب العصري المواكب لمسيرة بناء دولة عصرية.

بالاجمال لم تتطور بنى الأحزاب العراقيَّة، ولم تنمُ فكريًّا ولم يحصل تحديثٌ في الخطاب ولم تراجع برامجها وبناها التنظيمية، وظلت تدور في نطاق عقليَّة ما قبل الدولة الحديثة الراهنة وأحلام دولة الأيديولوجيا الطوباويَّة، وفوق ذاك صارت الأحزاب أملاكًا خاصة يملكها زعماء ووارثون ويخدمها مال يجنى من اقتسام السلطة والثروة، ثم يُعاد استثماره وفق نمطٍ تقليدي من الزبائنيَّة القائمة على التخادم. وبينما كرّست هذه الأحزاب أنموذجًا للانقسام السياسي والأزمة المستدامة، بسبب تناقضات المصالح، فإنها استعاضت عن ذلك بالتوافق، وفق اسلوب الصفقة لإدارة السلطة، ما جعل مفهوم الائتلافات السياسيَّة يتراجع لصالح مفهوم الصفقة السياسيَّة، وارتهن مصير البلاد بالقدرة على إنتاج صفقة سياسية تتدخل فيها قوى خارجية، ويتم إخراجها بصعوبة بالغة. فكان ذلك سببًا إضافيًّا لتراجع الثقة بالأحزاب واتساع الفجوة بين تصوراتها وبين تصورات الجمهور.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق