لم أكن أرغب في دخول المستشفيات الحكومية لأن تجربتي معها سيئة، فقد محوتها من نظام حياتي، لدرجة أنني لم اتوقع أن مواطناً عراقياً ما زال يذهب للعلاج في المستشفيات الحكومية، أنا اعتبر هذه المؤسسات بأنها العمود الفقري لـ"اقتصاد الشفقة" وهو موضوع مقالي لهذا اليوم...
لم أكن أرغب في دخول المستشفيات الحكومية لأن تجربتي معها سيئة، فقد محوتها من نظام حياتي، لدرجة أنني لم اتوقع أن مواطناً عراقياً ما زال يذهب للعلاج في المستشفيات الحكومية، أنا اعتبر هذه المؤسسات بأنها العمود الفقري لـ"اقتصاد الشفقة" وهو موضوع مقالي لهذا اليوم، المهم أنني تراجعت عن قراري بعد نصيحة قدمها لي صديق يعمل داخل المستشفى وأكد أن الخدمات جيدة وتستحق الاحترام، لا بأس سوف أجرب مرة أخرى "مؤسسات الشفقة" لعلي أجد فيها ما لا يستحق الشفقة.
دخلت إلى المستشفى الحكومي لعلاج طفلي الذي يعاني من بعض الأعراض في عينه، الساعة الآن الثامنة والنصف صباحاً، وهو وقت الدوام الرسمي، جميع المرضى ومرافقيهم يملؤون المكان، الجميع تقريباً يستحقون الشفقة، وجوههم عبارة عن لوحات إعلانية للفقر والحرمان، لا تحتاج إلى كثير من التبحر لتكشف عن حالهم، الغالبية العظمى منهم فقراء.
بعض الممرضين والموظفين الصغار يدخلون ويخرجون من الغرف، تسأل عن الأطباء فتأتيك الإجابة بأنهم يتأخرون عن المجيئ إلى الساعة التاسعة أو أكثر.
لا أعرف سبب التأخير، فقد يكون لارتباطهم بعمليات جراحية أو غير ذلك، لكن المنطق همس في أذني تلك اللحظة وقال اسمع: المستشفى مؤسسة صحية قائمة على وجود الطبيب، هي بالأصل مؤسسة الطبيب، وعندما يأتي المريض في الساعة الثامنة والنصف، يجب أن يكون هناك طبيب، ولا داعي للحديث عن أي ذريعة أخرى.
فهمست في أذن المنطق وسألته: ما المشكلة؟
أجاب باختصار، إنه "اقتصاد الشفقة" الذي كنت تهرب منه دائماً وها أنت تعود مرة أخرى مصدقاً بأن الخدمات جيدة.
قلت للمنطق: لا بأس يمكنني الانتظار إلى الساعة التاسعة ما دامت الخدمات مجانية؟
أجاب: من هنا تبدأ مشكلة "اقتصاد الشفقة"، فالخدمات المجانية تعني اعطاء اعذار مجانية لمقدم الخدمة، بل وتجعلك غير قادر على محاسبته لأنك بالأصل لم تدفع ديناراً واحداً، ومقدم الخدمة يعرف بهذه المعادلة، ويستغلها جيداً لصالحه.
فأنت تأتي إليه ليس لأنه أفضل مقدم خدمة، بل تطبق المثل العراقي الشائع "شعرة من جلد خنزير"، والمقصود بهذا المثل أن تحصل على شيء من جهة لا تتوقع منها أي شيء.
وعلى هذا الأساس يمكن تشييد جملة من السلوكيات الشعبية في مؤسسات الخدمة العامة، من بينها تقبل المواطنين الجلوس على الأرض والممرات الضيقة، وعدم رفض الممارسات السيئة من قبل إدارة المؤسسة الصحية، لدرجة أن من ينتقدها يواجه معارضة شعبية بشكل أو آخر بحجة أنهم الأرخص ومراجعاتهم غير مكلفة.
يدفعنا الوضع المعقد لاقتصاد الشفقة إلى مقولة رأسمالية شهيرة "إذا لم تدفع للمنتج فأنت المنتج".
بالضبط هو ما يحدث في العراق، المواطن لا يدفع للمنتجات والخدمات المقدمة في المؤسسات العامة، لكنه هو نفسه (أي المواطن) تحول إلى منتج يباع ويشترى في الأسواق السياسية، لا سيما وأنه بضاعة قابلة للتحول، مرة يستخدم لشراء سكوته عن سوء الإدارة العامة للبلد، ومرة يتحول إلى رقم انتخابي يشيد عليه تحالف انتخابي كبير.
نلاحظ أننا كلما مشينا خطوات في مناقشة مساوئ اقتصاد الشفقة، نغرق في سلبياته على شكل زجاج مكسر للمؤسسات الحكومية، ومواطن يقف في طوابير طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة للحصول على فتات الخدمات، وغيرها الكثير ممن يعرفه الشعب العراقي.
السؤال المحوري في كل ما سبق، من أين تحصل السلطة على المال لتنشئ مؤسسات مجانية كبيرة للشفقة على المواطنين إذا كانت لا تستوفي الأجور منهم؟
الإجابة تعيدنا إلى خمسينيات القرن الماضي عندما تم اكتشاف النفط وبدء العراق بالاعتماد تدريجياً على موارده حتى صارت الموازنة العامة هي المعادل الفعلي لأموال النفط، 95% من دولارات الموازنة فيها رائحة النفط المصدر إلى أنحاء العالم، وفي هذه الأموال حكايات أخرى لست بصدد الحديث عنها.
الملخص مما أريد قوله أن مؤسسات الشفقة المجانية هي جزء أساسي لغياب المحاسبة الشعبية للسلطة، فما دامت الخدمة مجانية تغيب المطالبة بالإصلاح أو تكون ضعيفة، والنتيجة بقاء الوضع سيئاً إلى أمد غير منظور.
اضف تعليق