من الأمراض الخطيرة التي أصيب بها الجهاز الإداري في العراق، هو مرض التعيين في دوائر ومؤسسات الدولة، وانتشار ثقافة البحث عن التعيين بين الصغار والكبار، فحتى أطفال المدارس الابتدائية يحلمون منذ الصغر بالحصول على درجة وظيفية في الدولة تضمن لهم راتبا يعينهم على استمرارية العيش وبناء دار سكن وشراء سيارة فارهة وما شابه...
من الأمراض الخطيرة التي أصيب بها الجهاز الإداري في العراق، هو مرض التعيين في دوائر ومؤسسات الدولة، وانتشار ثقافة البحث عن التعيين بين الصغار والكبار، فحتى أطفال المدارس الابتدائية يحلمون منذ الصغر بالحصول على درجة وظيفية في الدولة تضمن لهم راتبا يعينهم على استمرارية العيش وبناء دار سكن وشراء سيارة فارهة وما شابه.
في حين أن الصحيح هو تعليم الأطفال والمراهقين والشباب إنشاء المشاريع الشخصية الصغيرة الإنتاجية التي تدر عليهم رزقا معقولا، مع ضمان تطور هذه المشاريع وأرباحها، بدلا من تحميل الدولة ما لا طاقة لها عليه، حيث تهب الجموع الغفيرة بحثا عن التعيين هنا وهناك، ومع ذلك هنالك بعض القرارات المفيدة في هذا المجال، حيث تشكل حلا لبعض المشكلات التي يعاني منها الخرّيجون الجدد من الجامعات العراقية.
فمن بين القوانين والتشريعات التي أقرها مجلس النواب العراقي منذ سنوات هو قانون 67 الخاص بتعيين خريجي البكلوريوس الأوائل في مؤسسات ودوائر ومعامل الدولة، وامتصاص الزخم السنوي المتتالي لهؤلاء الخريجين والاستفادة من معلوماتهم ومهاراتهم وخبراتهم العلمية، بعد رحلة دراسية تقارب العشرين عاما موزعة على المراحل الدراسية المتعاقبة.
مخاطر الترهّل الإداري
حدث التفاف على تطبيق هذا القانون، حين تم الاكتفاء بتعيين الطالب الأول فقط على الأقسام والكليات، وحُرم الثواني والثوالث، حدث هذا في سنة 2008، وغالبا ما كانت تذهب تعيينات الأوائل لأصحاب الواسطات ومن لفّ لفهم، في حين أن القانون أعلاه يشمل الثلاثة الأوائل، ولم يتم تطبيقه إلا في هذه السنة (2023) من قبل مجلس الخدمة الاتحادي حين اتخذ قرارا بتوفير 74 ألف درجة وظيفية للأوائل الثلاثة بالتعاون مع وزارتي المالية والتخطيط وشمل الطلاب المتخرجين من 2003 وحتى 2022.
من مجموع الدرجات الوظيفية الـ 74 ألفا توفرت ما يقارب 32 ألف درجة وظيفية ظلت شاغرة، فطالبَ بها المتبقّون من الأوائل العشرة من التسلسل 4 حتى التسلسل 10 باعتبار أن الأول والثاني والثالث تم تعيينهم، واليوم يطالب خريجو التسلسلات من 4 إلى 10 بشمولهم بقانون 67 المذكور في أعلاه بعد إجراء تعديل بسيط عليه ينص على شمول الخريجين العشرة الأوائل كلهم في الجامعات العراقية.
أين تقع المشكلة في شمول العشرة الأوائل؟، بحسب الرؤية الاقتصادية للاقتصاد العراقي، فإن الترهل الإداري الذي بلغته المؤسسات الحكومية يشكل خطرا واضحا على الحاضر والمستقبل الاقتصادي في العراق حيث تجاوزت أرقام الموظفين في الحكومة العرقية أربعة ملايين موظف، وهو عدد هائل تخصص له سنويا عشرات الترليونات من الموازنة التشغيلية، مما يزيد من مرض البطالة المقنّعة، ويهدد بإفلاس خزينة الدولة وعجز الحكومة عن توفير الرواتب لهذا العدد الهائل فيما لو تعرضت أسعار النفط لأية ضربة قادمة ولأي سبب كان.
طلابنا رهن البطالة والفراغ
إذًا فإن إجراء التوظيف في المؤسسات الحكومية للخريجين العشرة الأوائل خاطئ اقتصاديا، ولكن هل من الصحيح أن يبقى طلابنا المتفوقون المتميزون رهن البطالة والفراغ القاتل، وهل يصح تدمير حاضر ومستقبلهم بقتل أوقاتهم في المقاهي أو في ألعاب التسلية أو المخدرات لا سمح الله؟، فإذا كان تعيين هؤلاء يمثل خطأ اقتصادي، فمن الأولى أن يتم النظر إليه على أنه خطأ اجتماعي أيضا يدمر شريحة مهمة جدا من المجتمع العراقي وهي شريحة الشباب من الخريجين المتميزين.
وإذا لجأنا إلى مقارنة الخطأين، خطأ تعيين الخريجين، وخطأ تركهم عرضة لوباء الفراغ، وأيهما أشد خطرا، فإن خطر الفراغ هو الأكثر فتكا وتدميرا، أما إذا اعترفت الحكومة العراقية بعدم قدرتها على تعيينهم على ملاكها الدائم، فمن الأولى بها أن تبتكر الحلول العملية الصحيحة والسريعة لهم، مثل استيعابهم في القطاع الخاص وإعادة فتح المعامل والمصانع، وزجهم في معاهد تطوير المهارات وما شابه.
أما في حال غابت الحلول الحكومية وعجزت عن توفير فرص عمل لهم في القطاع الخاص، وظلت مكتوفة الأيدي في حيال فتح وتشغيل المعامل والمصانع المعطّلة عن قصد، فمن الأولى أن يتم تعديل قانون 67 ويتم شمول الأوائل من تسلسل 4 إلى 10 بالتعيين، لأنهم أحق وأولى بأموال النفط من أن تذهب هدرا أو تبذيرا أو اختلاسا.
اضف تعليق