حرية الرأي والتعبير حق من حقوق الإنسان وخاصية من خصائص المجتمعات الديمقراطية الحرة، غير أنه من غير الممكن أن تكون هذه الحرية مدخلا للمتطرفين في استخدام خطاب الكراهية ضد الآخرين. الحد الفاصل بين حرية الفكر والتعبير والتحريض على الكراهية هو حد غير معرف ومبهم، وهذا قد شجع المتصيدين...
كيف تسهم ازدواجية المعايير الغربية في تعميق الشرخ بين الحضارات والثقافات الإنسانية المختلفة؟ وكيف يمكن مواجهة خطاب الكراهية؟
يمكن تعريف خطاب الكراهية حسب القانون الدولي لحقوق الانسان، بانه تهجم بالقول أو التعبير أو التصرف صادر عن فرد أو مجموعة من الأفراد وموجه ضد فرد أو مجموعة من الأفراد، مغلف بمعاني الازدراء والإهانة والسخرية، ومبني على أساس كراهية موجهة تمييزية قائمة على الهوية العرقية أو الدينية أو اللون أو الجنس أو النسب أو العاهة أو الانتماء الطبقي والإجتماعي أو غيرها.
هذا الخطاب العدواني المنبعث عن شعور سلبي مناقض للحس الإيجابي الحضاري ولرشاقة السلوك والأخلاق له أسبابه ودواعيه ولا ينحصر تواجده على مكان أو زمان محدد، بل أن كثافته ودرجته وحالات ظهوره تتباين طبقا لظرف المكان والزمان.
الكراهية بالمعنى العام هي نزعة ذاتية وشعور سلبي يناقض شعور المحبة. لها محفزاتها الخاصة وتختلف الاستجابة لها من فرد لآخر حسب ضوابط فسلجية ونفسية وعقلية وتربوية وثقافية واعتقادية ومصالح شخصية. بنفس هذا السياق وعلى أساس هذه الضوابط تنشأ الكراهية الموجهة التمييزية التي تنبعث عنها خطابات الكراهية التي تنشطها وتحفزها بل تخلقها عوامل وظروف وثقافات تربوية خاصة.
أسباب ودواعي كثيرة تلعب دوراً في تنشيط وتفعيل خطابات الكراهية بين البشر، الخص بعضا منها بما يلي:
أولا/ الجهل وقلة الوعي: رتابة الوعي ونقص الثقافة الإيجابية وهشاشة الإدراك الصحيح لدى المؤثر والمتأثر بخطابات الكراهية تعتبر أرض خصبة ووسط ملائم لنمو هذا التوجه السلبي في المشاعر والتصرف والتفكير. هؤلاء الأفراد هم اهداف سهلة للتحريضات الداخلية والخارجية الموجهة بهذا الإعتبار.
ثانياً/ البيئة والنهج التربوي: ما يكتسبه المرء أثناء طفولته من ثقافات إجتماعية سلبية ومن أحقاد وكراهية ينشأ عليها في بيئته والتي تبنى على أسس عرقية أو دينية أو طائفية أو طبقية أو غيرها تعتبر حجر أساس في مستقبل أحاسيسه وتوجهاته. يكون هؤلاء هدف سهل للاستقطاب وأساليب التحريض على الكراهية المنبعثة من جهات سياسية أو سلطوية أو جهات متطرفة أخرى، تسعى لنشر الفرقة والفتنة وخلق حالة عدم الاستقرار في المجتمع.
ثالثا/ الاسلاموفوبيا والهجرة الشرعية وغير الشرعية في البدان الغربية: اثرت الأحداث والأعمال الإرهابية التي قامت بها فئات متطرفة ترفع يافطات إسلامية في الغرب إلى نشر حالة من الرعب والخوف من الإسلام والمسلمين في نفوس الغربيين من جهة والى كراهية موجهة تمييزية شعورية ولا شعورية عند البعض منهم من جهة أخرى. ازدادت الهوة واتسع الضجر بتزايد عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين الذين تركوا بلدانهم خشية الحروب ومصاعب العيش ولم يستطيعوا الإندماج كما ينبغي مع الوسط الجديد. فاقت اعداد المهاجرين طاقات استيعابهم في دول الغرب مما سلط ذلك ضغوطا اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية على الشعوب المضيفة وحكوماتها، في ظل ظروف إقتصادية وسياسية صعبة ومتزايدة التعقيد عقب جائحة كورونا وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية.
رابعاً/ السياسات المحلية المتطرفة: في ظرف متشنج إقتصاديا واجتماعياً ونفسيا وبظل تأثيرات الاسلاموفوبيا وكثرة المهاجرين، تسلل السياسيون المتطرفون إلى اركان الحكم في الحكومات الغربية وصار لهم شأنا لا يستهان به. صعود نجم الأحزاب المتطرفة واليمنية إلى سدات الحكم تعني قطعا تشنج الخطابات السياسية وتحفيز خطابات الكراهية ضد الأجانب والمختلفين وهذا هدف وغاية لهذه الاحزاب وشعار من شعاراتهم الستراتيجية.
خامسا/ تقاطع المفاهيم: تقاطع مفهوم خطاب الكراهية مع مفهوم حرية الرأي والتعبير، أدى إلى اختلاط في اوراق تفسير احكام القانون الدولي لحقوق الإنسان. حرية الرأي والتعبير حق من حقوق الإنسان وخاصية من خصائص المجتمعات الديمقراطية الحرة، غير أنه من غير الممكن أن تكون هذه الحرية مدخلا للمتطرفين في استخدام خطاب الكراهية ضد الآخرين. الحد الفاصل بين حرية الفكر والتعبير والتحريض على الكراهية هو حد غير معرف ومبهم، وهذا قد شجع المتصيدين بالماء العكر بخلط الأوراق في مواقع ازدواجية المعايير ومثابات صنع المغالطات.
هذه الشعارات المتضاربة باتت ترفع حسب الوضع والحالة، إذ سرعان ما تنقلب تسمية التحريض على الكراهية إلى حرية فكر في نظر البعض، وحرية الفكر والتعبير إلى خطاب كراهية في موقف آخر وذلك حسب الظرف وحسب الميول والأهواء!. هذا التمييز بالأحكام لا يصدر فقط على صعيد الأفراد والجماعات وانما على صعيد المجتمعات والدول، متحضرة كانت أم غير متحضرة، فللسياسة اراداتها وأحكامها!.
التعامل الناجز والممكن في مواجهة ظاهرة خطاب الكراهية، يبدأ بمعرفة الدواعي والأسباب الفاعلة في صيرورتها وانبعاثها اولا، فدواء الداء يكمن بمضادات أسبابه. نستطيع التركيز على الأمور الممكنة في التعامل مع الحالة ونوجزها بالنقاط التالية:
اولا / مركزية التصدي لخطابات الكراهية
التصدي لهذه الظاهرة السلبية يتطلب عملا دؤوبا وجهدا استثنائيا يشارك فيه الجميع دون استثناء وكل من خلال مكانته وموقعه، فرغم أن الجهد الفردي في بناء خطاب مضاد للكراهية هو أمر أساسي وممارسة فعالة وهامة، غير أن علاج الخلل يتطلب البدء من القمة إلى القاعدة. قادة الأمم السياسيين والدينيين والتثقيفيين لهم القدح المعلى في إنجاز هذه المهمة، فهم من يجب أن يقود حملة التصدي ضد لغة الكراهية. الحكومات يجب أن تسلك سلوكا يقتدى به في هذا المضمار وألا تكون جزاء مسؤولا في بناء هذه الظاهرة وبشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال الصمت أو بالتحفيز الخفي أو المعلن لها.
على الحكومات أن تتخذ التدابير اللازمة لتعزيز المساواة وعدم التمييز بين أفراد المجتمع من جهة، والى وضع حد فاصل بين حقوق الإنسان في حرية الرأي والتعبير وبين التحريض على الكراهية من جهة أخرى. كما عليها أن تلتزم بفرض العقوبات والإجراءات القانونية التي نص عليها القانون الجنائي الدولي ضد كل من يحرض على التمييز والعداوة والعنف، بحيث تظهر هذه الإجراءات جلية في العلن وعلى أرض الواقع لا أن تبقى حبر على ورق غير قابلة للتنفيذ والتصرف.
ثانيا/ لجم النفاق السياسي:
استنكار خطاب الكراهية يجب أن يتم على الصعيد الداخلي في البلاد وعلى الصعيد الدولي وحسب متطلبات الحالة، كما ان الإجراءات الضرورية لكبح زمام هذه الظاهرة يجب أن تبقى موحدة ومدروسة وصادرة عن منظمات متخصصة عالمية كمنظمة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان. يجب الإتفاق على تعريف ثابت لمعنى خطاب الكراهية والفصل بين التحريض على العنف والعدوان وبين حرية الفكر والتعبير كي لا تبقى الأبواب مفتوحة على مصراعيها لتأويل الحالة وتبرير الأفعال من قبل السياسيين وحسب أهوائهم واراداتهم.
كما يجب ألا تستخدم الدبلوماسية كعذر في لجم الأفواه في انتقاد من يستحق الانتقاد، حيث تطغي المصالح واسس العلاقات الخاصة بين الدول على ما يجب فعله بهذا الشأن. بنفس الوقت يجب عدم السماح للسياسيين المتطرفين في تمرير اجنداتهم الخاصة في هذا السياق من خلال المحاسبة القانونية الصريحة لهم والتي ينص عليها القانون الدولي بهذا المضمار.
ثالثا/ الحوار الهادف:
يجب تشجيع وتنشيط الحوارات والنقاشات الجادة والهادفة في بناء خطاب مضاد للكراهية بين المجموعات المتباينة في داخل البلد نفسه أو على المستوى الخارجي بين حكومات الدول. هذا الحوار قد تقوده هيئات وأطراف رسمية أو منظمات مجتمع مدني أو ممثليات دينية واجتماعية وثقافية وإنسانية وغيرها. تهدف هذه الجهود إلى التقارب والتفاهم والتكافل والتكامل في وضع الحلول الناجعة والإجراءات اللازمة التي من شأنها مراقبة الأفكار والتصرفات والتصدي لكل ما يتعارض مع مقومات المنهج الإنساني الصحيح.
رابعا/ الإعلام النزيه:
للإعلام النزيه والمتحضر دور رائد وفعال في نشر الوعي الحضاري بين الناس ومحاربة الظواهر الاجتماعية السلبية المناهضة للمنطق والإنسانية والأخلاق. كما يجب ملاحقة ومحاسبة الإعلام المتطرف المسيس الذي يستخدم لغة التحريض المحفزة للعنف والكراهية، وعدم السماح لنشاطاته المضللة أن ترى النور وتحت مظلة اي إعتبار أو تفسير أو تبرير لا يتناسب مع أهداف السلم والسلامة وحقوق حماية المعتقدات والأعراف والقيم.
خامساً/ صواب ردة الفعل:
رغم أن خطاب الكراهية له أساليبه الاستفزازية التي تؤجج المشاعر والغضب في النفوس المستهدفة، غير أن ردود الأفعال لهذه الأعمال المشينة يجب أن تتسم بالتروي والتريث والعقلانية. من غير المفيد أن تواجه الأفعال المشينة بردود أفعال تشابهها، فليس من الحكمة أن تنجر الأفراد والجماعات بل وحتى الحكومات والدول إلى ردود أفعال تجعلها تدفع الثمن غاليا أو تكون صيد سهل يقع في فخ أعدائها. التصعيد والعنف المقابل غير المدروس لا يحل المشكلة إنما يعقدها ويجلب الأذى للنفس من حيث تدري ولا تدري، كما يجعل المستهدف جزءا مكملا للفتنة المطلوبة حيث تتحقق اهداف صانعيها...!
اضف تعليق