العلاج يأتي من خلال منهج أهل البيت وهو الإجمال في الطلب، واحتواء شرور الشره من خلال ثلاثية متسلسلة وهي القناعة والكفاف والعفاف. فالقناعة تؤكد على الجانب الفكري والكفاف يؤكد على الجانب العملي، والعفاف يؤكد على الجانب النفسي، بمعنى إن الإنسان يحتاج إلى هذه الثلاثية من أجل بناء أي سلوك...
(وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك)
إذا أردنا أن نتخلص من المشكلات والأزمات والكوارث التي تحيط بنا من جميع الجهات، فلابد أن نلتزم بمنهج أهل البيت (عليهم السلام)، لأنهم الطريق الصحيح السليم المستقيم الذي يوصلنا إلى الغايات المنشودة، وإلى الحياة الطيبة والنعيم والازدهار والتوفيق في حياتنا والنجاة من الكوارث والأزمات التي تحيط بنا.
إن الإنسان اليوم عندما يخرج من بيته صباحا يفكر في ذهنه ماذا يريد من هذا اليوم، إنه يريد أن يكون في هذا اليوم موفقا ناجحا وناجيا، وفي اليوم اللاحق واليوم الذي بعده وإلى أمدٍ بعيد، ولكن السبل تختلف من إنسان إلى آخر، بعض الأحيان لا يفكر الإنسان بالطريق الصحيح الذي لابد أن يسير فيه، ولا يفكر بالعواقب، ولا بالأسباب الصحيحة التي توصله إلى النجاة.
مثَلَه مثل الذي يبني بيتا في منطقة زلازل، ولا يفكر بالعواقب بل يهتم بتقليل التكاليف، وبالنتيجة يبني بيتا لا ينسجم مع المواصفات الهندسية اللازمة التي تتناسب مع حدوث الزلازل، فقد يعيش في هذا البيت عشر سنوات ولا يكون هناك زلزال، ولكن في ثلاثين ثانية أو دقيقة ينهار هذا البيت فوق بعضه بسبب عدم التزامه بالمواصفات السليمة والأسباب الصحيحة.
طريق النجاة في الحياة
إن الحياة كلها عنوان لهذا المسار، في جميع المجالات، فلابد للإنسان أن يختار المنهج الصحيح في الحياة الذي يضمن له النجاة، ولا يسير في ضوء مناهج زائفة ومزخرفة ومزوقة بالأشكال والألوان والأشياء اللامعة التي تغريه، وتخرجه عن التفكير الصحيح والتبصّر الواقعي في حياته.
لابد للإنسان أن يفكر في العواقب التي سوف ينالها عن كل عمل يعمله في وظيفته وتفكيره وكل ما يشكل نمط وأسلوب حياته، الذي يمكن ان يؤدي إلى كوارث هائلة لا نشعر بها، ولكن عندما يحين وقت الكارثة والأزمة، سواء كانت كارثة شخصية، أو جماعية أو مجتمعية، في ذلك الحين لا نسأل أنفسنا لماذا حلّت بنا هذه الكارثة، وإنما نندب أنفسنا ونبكي عليها، لأننا لم نفكر في المقدمات التي سلكناها ووصلنا بها إلى هذه النتيجة.
لذلك لابد أن نفكر بعمق في المنهج الذي نختاره، لأنه يشكل طريقة تفكيرنا واساليبنا في الحياة، وطريقة أكلنا وملابسنا، وتصرفنا مع الدنيا بالطريقة الصحيحة مع زوجاتنا وأبنائنا وأهلنا وأرحامنا، كل هذه السلوكيات إذا التزمنا بها وفق طريقة أهل البيت (عليهم السلام) ومنهجهم، عند ذلك نكون من الناجين في هذه الحياة، لان منهجهم (عليهم السلام) منهج للحياة الصالحة، وطريق للنعيم في الدنيا والآخرة،
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق)، فالذي لم يركب سفينة نوح غرق وهلك في الكارثة والفيضان الذي عم الكرة الأرضية كلها، بينما من ركب سفينة نوح كان من الناجين.
لنركبْ سفينة أهل البيت
لذلك إن ركبنا هذه السفينة وتمسكنا بنهجهم وسرنا في ضوء أفكارهم وأحاديثهم وتوجيهاتهم ومواعظهم، نجينا وكنا من الناجين في هذه الحياة، وكنا من الراكبين في السفينة فعلا، ولكن إن لم نلتزم بكلماتهم ونسير وفق نهجهم، ونقرأ رواياتهم ونجعلها سلوكا وثقافة وفكرا في حياتنا، لتخلفنا عن ركوب هذه السفينة وكنا من الغارقين في الأزمات والكوارث.
فمنهج أهل البيت (عليهم السلام) يؤدي بنا إلى الطرق الصحيحة في الحياة، الطرق التي توصلنا إلى أهدافنا، مثل الخريطة التي يرسمها خبير محترف ودقيق، فهذه الخريطة إذا مشينا في ضوئها سوف نصل إلى الهدف المطلوب.
أما إذا رسم هذه الخريطة إنسان ليست له خبرة في رسم الخرائط ولا يعرف بالطرق ولا يعرف بسبل السير والمسير ومواقع المدن وإلى أين توصلنا الطرق، فهذه الخريطة الفاشلة غير الصحيحة سوف تؤدي بنا إلى الضلال وعدم الوصول إلى أهدافنا في الحياة. لذلك إذا أردنا أن نعيش الحياة الطيبة، الحياة الجميلة، الحياة اللذيذة، لابد أن نسير على مناهج أهل البيت.
مصابيح للظلام
عن الإمام الصادق في ذكر حال الأئمة وصفاتهم (عليهم السلام): (جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام)، حياة الأنام تعني الحياة الجيدة، الصالحة، النظيفة، المزدهرة، السعيدة، فبعض الناس يتصور إنه إذا امتلك الأموال والقصور والسيارات سيكون سعيدا في حياته، لكن مناهج السعادة قائمة على قيم عميقة ترتبط بتفكير الإنسان وأخلاقه ونفسه وروحه.
الروح الطيبة والقلب المنير هو الذي يكون ممتلئا بالأفكار الجيدة، والسلوكيات الصحيحة، والانبعاثات الصالحة، في نفسيته وروحه، وهذا يتوفر له من خلال الالتزام بروايات أهل البيت (عليهم السلام)، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأئمة حياة للناس ومنارا للشعوب والمجتمعات.
هذا الظلام الذي يلف البشرية لقرون عديدة، بسبب التخلف والأمية والجهل والأفكار المنحرفة والحروب والصراعات والاقتتال، ظلام دامس يسكن في قلوب البشر وأنفسهم وأفكارهم وارواحهم، نلاحظه في القلق والتوتر وعدم الشعور بالسكينة والاطمئنان، وفقدان الشعور بالثقة في الحياة، وهيمنة اليأس والإحباط، وهذا الظلام الداخلي يؤرق الإنسان يوما بعد يوم، ينام الليل ولا يستطيع أن يغفو بسبب قلقه، ويعيش الأرق بسبب هذا القلق، لأنه يعيش الأفكار السوداوية الظلامية في داخله.
لكن أهل البيت (عليهم السلام) ينيرون قلب الإنسان، وروحه ونفسه، ويقتلع منهجهم تلك الظلامية الموجودة في داخل الإنسان، من خلال إنارة الطريق، وتقديم الأفكار الصالحة، فهم مصابيح للظلام تنير الطريق الصحيح للوصول إلى الغايات الإنسانية الجميلة الجيدة اللذيذة التي تعطي وترسم عواقب صالحة، فهم مفاتيح الأفكار السديدة.
كيف تصبح أسعد السعداء
بينما يشعر الإنسان يوم بعد آخر بأن أفكاره عشوائية وغير واضحة، وعندما يفكر لا يعرف بماذا يفكر، ولا يعرف كيف يدير حياته، ولا يمتلك شيئا يفتح له باب الحياة من خلال أفكاره وتفكيره، لكن عندما تقرأ كل رواية من روايات أهل البيت (عليهم السلام) ستقدم لك مفتاحا فكريا يدخلنا في عالم رحب يقودنا إلى الحياة الصالحة.
إذا وضعنا برنامجا يوميا لقراءة ولو رواية واحدة من روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ويبرمجها كمنهج في حياته، فإنه سيصبح أسعد السعداء.
على الإنسان أن يقرأ أكثر ويجعل الرواية مفتاحا لنفسه وروحه، فيبني حياته، وينقذ نفسه من تلك السلبية والسوداوية والقلق الذي يعيش في داخله، فيفتح له الطريق حتى يسير بصورة صحيحة فيها توكل على الله سبحانه وتعالى، وفيها تفاؤل ونجاح وفلاح في الحياة.
الروايات مفاتيح الكلام
(ومفاتيح للكلام)، وفعلا يقوم الإسلام الصالح الحقيقي على منهج أهل البيت (عليهم السلام) لأنه منهج المسالمة والتعايش والتفاهم والأخوة، وتآلف القلوب وتقاربها، وهذا هو المنهج الذي يجمع المسلمين كلهم في بوتقة واحدة، من خلال المحبة والتآلف والحوار والتفاهم. وقد تآلف المسلمون على منهج أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم طريق التآلف.
تقول الآية القرآنية حول الحياة الصالحة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، الأنفال 24. على المسلمين أن يستجيبوا لكلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) ولكلمات أهل بيته (عليهم السلام)، وعليهم أن يقرأوا الكلمات التي تمنحهم الحياة، وتضخ طاقة الحياة في الإنسان، في فكره، في قلبه، في عمقه. وهكذا يترجم الإنسان هذه الطاقة إلى سلوك فعال وإيجابي، يقوده نحو الخيرات والبركات.
كذلك التنعّم والسعادة موجودة في طريق أهل البيت (عليهم السلام)، للإنسان الذي يبحث عن النعيم، فالنعيم فكرة يحتاجها الإنسان ويريدها، ويحاول أن يحققها، ولكن ما هو النعيم؟، هل المقصود النعيم المادي أم النعيم المعنوي، وإذا أحرز الإنسان النعيم المعنوي سيحرز النعيم المادي، ولكنه إذا ذهب وراء النعيم المادي لا يستطيع الوصول إلى النعيم المعنوي، ويتجسد في أهل البيت (عليهم السلام)، ومنهجهم الذي يتنعم به الناس عندما يتقاسمون الخيرات، حيث يقوم منهجهم على الإنصاف والرحمة والتفاهم. فمع قيم الإنصاف والعدل والتراحم والتعاطف والتكافل، تبني الحياة المتوازنة المعتدلة فيما بين البشر.
جحيم القلق
يقول الله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) التكاثر 1-8.
إن الإنسان في الحياة يعمل ويعمل حتى يضاعف أمواله، ويزيد من موارده المالية، فيبقى يعمل حتى قد يبلغ الثمانين من العمر لكي يزيد من موارده، فكيف يتنعّم وهو منشغل بجمع الأموال والأملاك فيغفل عن النعيم الحقيقي، فالإنسان عندما يصل إلى عمر معين ويكون قد كسب الملايين والمليارات، ماذا يفعل بهذه المليارات التي جناها؟، هل حصل على الاطمئنان النفسي والاستقرار والروحي؟ وهل حصل على اليقين أم لا زال القلق والجحيم يستعر في قلبه ويؤرقه؟
عندما يفتح الإنسان عينه على العالم الآخر، وعندما يكبر في العمر ويعبر المراحل والسنين، إلى الخمسينات ثم الستينات ثم السبعينات ثم الثمانينات سيرى نفسه مقتربا من الموت، فعندما يقترب من الموت بماذا يفكر؟، وماذا يفعل عند انتقاله إلى العالم الآخر، هنا سوف يتبين النعيم له، هل سيعيش النعيم الحقيقي المادي، أو النعيم الحقيقي حين يكون قلبه مطمئنا، (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، فهل يعيش الاستقرار أم يعيش القلق من العالم الآخر، إنه سيعيش الجحيم وهو يترقب نهاية رحلته بقلق.
فما هو معنى النعيم؟
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم):
(نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألف الله بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للاسلام، وهو النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم، وهو النبي صلى الله عليه وآله وعترته عليه السلام).
النعيم الحقيقي هو في رسول الله وأهل البيت (صلوات الله عليهم)، الله تعالى يسائل هؤلاء الذين تخلوا عن النعيم في يوم القيامة، ويريهم الجحيم، ويريهم النعيم الحقيقي، يحاسبهم ويقول لهم لماذا تخليتم عن النعيم الحقيقي، ونشرتم التخلف والبؤس والتفاوت والفقر والمرض بين الناس، واحتكار الثروات.
ويحاسب الذين نشروا الصراعات والانشطارات والمشكلات والأزمات فيما بينهم، هكذا يحدث للإنسان عندما يتخلى عن منهج أهل البيت (عليهم السلام)، منهج التآلف والتوادّد، فـ(بنا ألَّف الله) منهج ينشر التسامح والتعايش فيما بين الناس، بهم يهدي الله الناس ويجعلهم إخوانا يعيشون النعمة الحقيقية التي لا تنقطع.
نلاحظ العالم اليوم يغصّ بالموارد الكثيرة، من الأموال والموارد الطبيعية والصناعة والزراعة والاقتصاد، ومع هذا كله يعيش العالم الأزمات، الفقراء يزدادون فقرا، والكوارث تتعاظم بحجمها ونتائجها، الناس لا يمتلكون بيوتا ولا يحصلون على الطعام الكافي والمناسب، لماذا مع وجود كل هذه الموارد؟، لأنهم سلكوا منهجا آخر غير منهج أهل البيت، فنشروا البؤس والشقاء فيما بين الناس، لعدم وجود الإنصاف والتراحم والتوادد.
بمنهج أهل البيت (عليهم السلام) ينتشر الإنصاف، وتسود الرحمة والتآلف، وتتماسك الأخوة فيما بين الناس ويتواصلون فيما بينهم، ويعيشون متنعمين سعداء.
العيش باليقين والاطمئنان
هنا نصل إلى أصل المطلب، وهو أن مناهج أهل البيت (عليهم السلام) تحقق الغايات الأساسية في نفس الإنسان وضميره وفطرته، وفي تفكير المجتمعات، وهذه الغاية هي تحقيق اليقين والاطمئنان، والإنسان يبحث عن اليقين والاطمئنان لكي يستقر، والإنسان الذي يسعى في حياته لأكثر من رزقه ليس عنده يقين ولا اطمئنان، بل يخاف، لأنه ليس عنده توكّل على الله، ولا ينظر إلى الله، بل ينظر إلى ما هو أمامه، عنده قلق على رزقه.
بينما الإنسان المؤمن الملتزم السائر على نهج أهل البيت (عليهم السلام)، يعيش اليقين والاطمئنان، وبالنتيجة يكون مستقرا لأنه يؤمن ويعرف بأن رزقه مضمون وسوف يتحقق، فمناهج أهل البيت تحقق الغايات وتؤدي إلى اليقين والاطمئنان، من خلال مناهج معينة لابد أن نسير عليها.
ثلاثية النعيم
ما هي هذه المناهج؟، منها الاعتدال، والزهد والكفاف والعفاف، وفي عودة إلى أصل موضوعنا الذي طرحناه في مقالاتنا السابقة، وهو موضوع الاستهلاك المفرط والجشع والطمع والحرص على الدنيا، الذي يؤدي إلى المزيد من الأزمات والكوارث وبالتالي تدمير الناس.
والعلاج يأتي من خلال منهج أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الإجمال في الطلب، واحتواء شرور الشره من خلال ثلاثية متسلسلة وهي: القناعة والكفاف والعفاف.
فالقناعة تؤكد على الجانب الفكري والكفاف يؤكد على الجانب العملي، والعفاف يؤكد على الجانب النفسي، بمعنى إن الإنسان يحتاج إلى هذه الثلاثية من أجل بناء أي سلوك داخلي، الفكرة، العمل، الترسيخ في النفس، والنتيجة هي ترسيخ القيمة السلوكية والخلقية في نفس الإنسان.
قيم ثابتة وقيم هلامية
فتصبح قيمة ثابتة راسخة في قلب الإنسان وليست قيمة متغيرة متهلهلة هلامية، فإذا كان صادقا لابد أن يكون مؤمنا بالصدق، ومن ثم يعمل بصدقه ويكون صادقا بشكل دائم، ويحرّض نفسه على الصدق ويتجنب الكذب، حتى يصبح هذا الصدق راسخا فيه فيتحول إلى ملَكَة نفسية في داخل الإنسان، فيكون صادقا دائما ولا يكذب أبدا، فالكاذبون قيمهم سائلة.
برمجة الزهد عبر الثلاثية
اذا اراد الإنسان ان يرسخ في شخصيته سلوكية معينة لابد أن يبرمج فكره عليها ويعمل بها، وبناء سلوكية الزهد يتكون من هذه الثلاثية.
أولا لابد أن يكون الإنسان مقتنعا بفكرة القناعة، فعليه أن يقتنع ويرضى بما عندمه من رزق وأموال، فيكون قنوعا، ويؤمن بأن هذا الرزق يكفيه، ويبرمج فكره على هذه القناعة، فإذا برمج نفسه في الجانب الفكري، فعليه أن يطبّق هذه البرمجة عمليا في حياته.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (إذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه القناعة فاكتفى بالكفاف واكتسى بالعفاف)، هذه الرواية تعطينا هذه البرمجة الثلاثية، من خلال الفكر والعمل والقضية النفسية، لأن هذه القناعة راسخة في داخله، لأنه برمج فكره بالقناعة، ولا يبرمج فكره على الطمع والحرص على الدنيا.
إن الطمع الموجود عند الإنسان ينتج من فكرهِ أولا، لأنه ينظر إلى ما يمتلك بأنه قليل ولا يرضى به، ولذلك إذا لم يحصل على ما يريد بصورة صحيحة، يذهب نحو الطرق الملتوية، طرق الحرام والشر لكي يحصل على ما يريده، فمن يبرمج نفسه على القناعة ويرضى يعرف بأنه عندما يصل إلى المقصد والمطلوب، فسوف يحصل بالنتيجة على العواقب الصحيحة.
برمجة الفكر على الكفاف
الطماع في الغالب لا يفكر بالعواقب، يأخذه طمعه ويلبسه، فيؤدي به إلى السقوط المزري، فالبرمجة الفكرية على الرضا والقبول بالواقع من خلال ما رزقه الله تعالى، وان لا يذهب إلى طريق الحرام، تحتاج إلى ممارسة عملية الكفاف، وأن يكفّ عن أي شيء لا يحتاجه، ويكتفي بالذي يحتاجه فقط.
إذا كنت مثلا تحتاج أن تأكل رغيفا واحدا من الخبز، عليك أن لا تأخذ أكثر، وعلى الإنسان أن يبرمج نفسه جسديا من هذه الناحية، أي أنه يأكل ما يحتاجه فقط، ولا يأكل أكثر من ذلك، ولا يشتري أكثر مما يحتاجه، فالبرمجة السلوكية هدفها بناء ملَكَة نفسية عبر التطبيق العملي بشكل تدريجي متراكم ومتوازن، وقد يخطئ في بعض الأحيان وينتكس، لكنه يراجع نفسه ويحاسبها وينتقدها حتى يصل إلى الملَكة النفسانية حيث تكون ملاصقة له وثابتة في ذاته.
التلبس بالعفاف
فالممارسة العملية تأتي من خلال تعلّم الإنسان للكفاف، فيكتفي بالشيء الذي يحتاجه، ومعنى يكتسب العفاف، أي يلبسه العفاف ويصبح لباسا كاملا له، ويشكل شخصيته ونفسه وذاته، واللباس هو تعبير عن تشكيل شخصية الإنسان الممتزجة بالعفاف، وهذا يعني رسوخ هذه الملَكة النفسانية وهي عفة النفس، وتجنبها للحرام والإسراف والتبذير والطمع، وعدم الحرص على الدنيا.
والبرمجة الفكرية في الرواية السابقة تعني الإلهام الذي يأتي من خلال التفكير والتفكّر والتدبّر والتعقّل، (من عقل قنع) كما يقول الإمام علي (عليه السلام)، فعلى الإنسان أن يتعقل القناعة، فيبحث فيها ويحاول أن يكتشفها، ولماذا يحتاج إلى القناعة وإلى الرضا بما هو له من الرزق، فيتعقّل من خلال فهم الأسباب والمسببات وفهم القضايا والمسائل التي يحتاجها في حياته ويتدبر بالنتائج المنبثقة منها.
بناء النزاهة النفسية الاجتماعية
عن الإمام علي (عليه السلام): (ينبغي لمن عرف نفسه أن يلزم القناعة والعفة)، أي أنه يعرف نفسه من خلال تفكيره، يحاسب نفسه وينتقدها ويراجعها، من الناحية النفسية، فيصل من خلال القناعة الفكرية والعملية إلى القناعة من ناحية عفة النفس وتصبح القناعة ملَكة راسخة في نفس الإنسان.
وعن الإمام علي (عليه السلام) في رواية لطيفة حول الأسلوب العملي في برمجة التفكير، إنه يجب أن تفكر في طريقة حياتك: ("ابن آدم"، إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك)، هذا التفكير يجب أن يعرفه الإنسان، فإنه مهما أراد من الدنيا لا يكفيه.
فالقناعة أن يريد الإنسان ما يكفيه فقط، وأن يبرمج تفكيره على ذلك، لأن الإنسان لا يمكن أن يحصل على كل شيء، بل يحصل على الذي يكفيه، والزائد أو الفائض لا يفيده، لأنه يبقى مخزونا ومكدّسا كما في ثقافة التكديس المرضي عند بعض الناس.
سوف نُكمل البحث هذه الثلاثية في المقال القادم، ونؤكد أن منهج أهل البيت يقودنا إلى بناء الحياة المعتدلة اقتصاديا ونفسيا، وبناء النزاهة النفسية الاجتماعية الاقتصادية التي نحتاجها اليوم لمعالجة الأزمات واحتوائها، وعدم الوقوع في الكوارث الاقتصادية، والمآسي الاجتماعية، من خلال الالتزام بهذا المنهج العلوي المحمدي، وهو منهج أهل البيت (عليهم السلام).
وللبحث تتمة...
اضف تعليق