الغرب تاريخيا ظل دائما بإزاء العالم في كل حروبه وصراعاته فهو لم يسعى الى دمج العالم فيه ولم يسعى الى اندماجه بالعالم رغم نجاحه في الكثير من هذه الحروب في احتلال واستعمار أراضي الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية، وقد عبرت عن تلك الحالة من انفصال الأوربيين...
لقد خاضت أوربا حروبها عبر التاريخ كأكثر أمم العالم خوضا للحروب وأكثر أمم العالم أيضا خاضت حروبها خارج أراضيها، وكانت تنشر تلك الحروب في الأرض سعيا الى انجاز السيطرة على الأراضي والشعوب والهيمنة على القرار في العالم، ذلك أنها لم تكن مبشرة بعقيدة ما أو نظام سياسي محدد المبادئ والأهداف.
وأما الحروب الكنسية والصليبية فلم تكن لغرض التبشير بقدر ما كانت احدى وسائل ممالك أوربا وإماراتها في مد النفوذ والهيمنة على خطوط التجارة في الشرق، وقد أدت تلك التراكمات التاريخية للحروب الأوربية وأثارها الثقافية والاجتماعية الى بلورة مبادئ القوة والهيمنة كإحدى أهم موجهات الشخصية السياسية والثقافية الأوربية، وبينهما تتمدد فكرة الآخر – العدو الذي شغل الذاكرة الأوربية منذ عصر الإغريق في قبالة الأخر البربري ثم الرومان الوثنيين في قبالة الفارسي الشرقي ثم الرومان المسيحيين في قبالة العربي المسلم ثم أوربا الحديثة في قبالة الشرق غير الحديث ثم أوربا وأميركا حلفاء إسرائيل في قبالة العرب والفلسطينيين وأخيرا أوربا وأميركا في قبالة روسيا والصين.
هكذا يبدو تاريخ علاقة الغرب بالعالم وهو يتنقل في صراعاته وحروبه من جيل الى جيل ومن عصر وثني الى عصر ديني الى عصر لاديني ولكن القاسم المشترك بينهما هو مواجهة الغرب للعالم وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الحروب الجيلية".
نعم إن الحروب حدثت وتحدث في أجزاء متعددة في العالم في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية التي تجمع ما يمكن أن نطلق عليه العالم بإزاء الغرب، ولكن الحروب في هذا العالم لم يكن طرفا فيها يأخذ صيغة هوية جامعة وخاصة بإزاء العالم أو يتحول الى صورة منظومة مكانية – جغرافية وثقافية تجعل منه طرفا في كفة والعالم كله في كفة أخرى، ولئن حدث مثل هذا التوجه في حروب الإسلام الأولى حين خرجت جيوشه الى جهات الأرض واجتاحت مساحات كبرى من العالم إلا انه سرعان ما انخرط اجتماعيا وثقافيا في شعوب تلك الجهات وأجزاء هذا العالم في آسيا وأفريقيا ليكون جزء من هويتها وتركيبتها الثقافية، وكذلك حدث الأمر ذاته مع الحروب المغولية التي ظلت شعوب أقصى الشرق تجتاح العالم في آسيا وأروبا لكنها اندمجت في الأرض والوطن وصارت جزء من تركيبة تلك الشعوب.
إلا أن الغرب تاريخيا ظل دائما بإزاء العالم في كل حروبه وصراعاته فهو لم يسعى الى دمج العالم فيه ولم يسعى الى اندماجه بالعالم رغم نجاحه في الكثير من هذه الحروب في احتلال واستعمار أراضي الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية، وقد عبرت عن تلك الحالة من انفصال الأوربيين عن الشعوب المستعمرة، ورفض سياسة الاندماج هو ما ظلت تتداوله القواميس الأوربية من كلمات وتسميات للشعوب في العالم المستعمر اوربيا مثل عبارة السكان الأصليين او المحليين أو البدائيين أو الأوباش او الهنود الحمر، وظلت تلك التسميات والمصطلحات سائدة في الثقافة الأوربية وتتداولها الأوساط الأكاديمية الى زمن الحداثة، وقد شكلت تلك المصطلحات والمفاهيم القومية التي انخرطت فيها، شكلت الخلفية الفكرية والثقافية لأوربا تجاه العالم – الأخر ولم تتحرر أوربا بشكل يدعها تتطهر بشكل كامل من بقايا تاريخها الاستعماري، يقول محمد عابد الجابري (سنكون مخطئين إذا نحن اعتقدنا أن الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية الدينية التي كانت توجه فلاسفة التاريخ والمستشرقين وأنه صار الآن غرب علماني خالص)[1]،
وفي مناخات الانفصال الأوربي النفسية والفكرية ولدت أفكار القومية والعنصرية والنازية والفاشستية في أوربا الحديثة في القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من القرن العشرين وأخذت صيغها الأيدلوجية في تاريخ الإنسان منذ هذه اللحظة، لقد كانت التمايزات بين الشعوب قائمة وكانت الشعوب تؤمن بما يميزها عن الأخرين ولكن ضمن إطار الطبيعة المناخية والجغرافية ولم تسعى الشعوب القديمة الى التنظير لهذا التمايز وفق الأسس القومية والعنصرية أو الانتخاب الطبيعي للشعوب وهو ما يفسر الى حد كبير غياب مفهوم أو مصطلح الهوية في ثقافة ونظريات تلك الشعوب.
ولعل أول من أسس لفكرة الانتخاب الطبيعي للشعوب هم الإغريق واليهود، فالإغريق أول من قسم العالم الى أحرار وعبيد وبرابرة وكان أهل أثينا والإغريق عامة يحظون بقسم الأحرار بينما ينتمي العالم الأخر في نظرهم الى قسم البرابرة، ويعمد اليهود الى تصنيف أنفسهم ضمن فكرة أو عقيدة الشعب المختار بينما الشعوب الأخرى هم الأغيار[2]، وتعتبر الأصول الإغريقية والجذور المسيحية–اليهودية هي المؤثرات الثقافية الصانعة تاريخيا للأفكار والأيديولوجيات القومية الأوربية ومنها أيديولوجيا النازية والفاشستية أو عموما أسهمت تلك الأصول في بلورة مفهوم الهوية أوربيا، وهذه الأصول هي المؤسسة للإنفصال الأوربي عن العالم على جميع المستويات النفسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، وصولا الى الصيغة الحداثية للأفكار الأوربية التي تحولت فيها مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الى متبنيات أوربية خاصة بالغرب وثقافته ومصدرا يزود بها العالم ولو بالقوة والاحتلال.
لقد ظل العالم منظورا إليه دائما في الرؤية الأوربية بأنه الآخر أو الهو الذي تستمد منه الهوية وفق الصياغة الأوربية لها مفهومها والذي يختزن دائما فكرة القلق في نظرية فرويد واحتمالات المواجهة في أيديولوجيات الغرب القومية، ومن هنا نشأت فكرة التحالفات الاستراتيجية في العقيدة السياسية والأمنية الأوربية، وقد أخذت تلك التحالفات صيغة داخلية مثل الاتحاد الأوربي والسوق المشتركة وأخرى داخلية-خارجية بالنسبة للغرب مثل حلف الناتو أو تحالفات عسكرية أخرى أبرمتها دول الغرب مع دول في آسيا وأفريقيا والتي هي محاولة أوربية في استقطاب العالم نفسه ضد نفسه.
لقد أصبح العالم خارج أوربا والغرب يعاني من الانقسامات والحروب الإقليمية وأمست شعوب هذا العالم على خطوط النار فيما بينها مع كونها وفي الكثير منها ذات انتماءات قومية ودينية واحدة، وحيثما تلتهب خطوط النار يكون الغرب لا سيما الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد في تزويد الحروب بوقودها والسعي المبكر الى التحكم في نتائجها وارساء الصلح وفق مصالح الغرب إنه نوع من التوكيد العملي على انفصال الغرب عن العالم.
الغرب والأخر–العالم
لقد كان العالم القديم يقوم على عقيدة انتمائه الى الطبيعة ولم يفكر أو يحدد عوامل انفصاله عن الطبيعة بشكل قصدي أو بوعي يجعله الأخر في قبالة الطبيعة، وحتى ثنائية الخير والشر والنور والظلمة كانت تتحدانا بالطبيعة وتتناظران بشكل متواز ضمن قواعد وأصول الطبيعة فلم تكن تفصل بينهما ثنائية الأنا والآخر، بل لم يكن أحدهما ذاتا والأخر موضوعا حتى بالنسبة للإنسان في العالم القديم، لقد كانا فاعلين وأساسيين في تكوين الإنسان من خلال الموقف ومن خلال العمل الذي يتكون كنتيجة للتفاعلات المحركة بواسطة مفاهيم الخير والشر وماتمده أفكار النور والظلمة من طاقة للعمل الإنساني الذي يؤكد الإنسان من خلاله حضوره ووجوده ويستشعر ذاته الممنوحة له في الخلق الأول، وبهذا لم يكن مفهوم الأخر متداولا ثقافيا ومعرفيا في ظل انتماءات العالم القديم الى الطبيعة، إنه عالم ذا وحدة وانسجام مع ما حوله مع الطبيعة مع الوجود وقبل ذلك مع الذات، لذلك كلما أوغلنا في العالم الأكثر قدما تختفي صور السلاح الأكثر عنفا إنه عالم السلام كلما تقهقرنا الى تاريخ العالم الأكثر قدما.
لكن مفهوم الآخر بدأ يبرز ويتجلى في الحديث الفكري والمعرفي كلما زادت الشقة بين الطبيعة والإنسان وبرزت الأنا، وكلما صنع الإنسان المسافات الفاصلة بينه وبين الطبيعة وهي المعنى المؤسس لمفهوم الثقافة تبدأ الأنا تتبلور وتتضح هويتها وبعد ذلك تبدأ مسارات الاستقلال الوجودي ومن ثم الاستقلال العيني للأنا وينمو بالتوازي معها مفهوم الأخر، وإذا كانت تلك المسافات الفاصلة مع الطبيعة ونشأة الفكر الإنساني مع تبلور الأنا واستقلالها قد تطورت مع الفكر الإغريقي الى الجدل في الطبيعة وطبيعة الوجود وماهيته وهو موضوع الفلسفة الأول وكانت ثنائية النفي والاثبات تكلل العقل الإغريقي وتحركه في البحث والنظر في طبيعة وماهية هذا الوجود وهي مغامرة العقل الإنساني الأولى وما نتج عنه من كسر العقل الإغريقي ومن ثم الأوربي العلاقة مع الطبيعة وصيغة الوجود البديهية بابتكاره قاعدة النفي أساسا للإثبات والشك طريقا لليقين يقول الجابري (العقل الأوربي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي)[3] فإنه ومن هنا بدأ النفي للآخر يساوق الانا الأوربي.
فالعدم فكرة فلسفية إغريقية وضعت في قبالة الوجود والشك قاعدة أوربية وضعت على غرارها في قبالة اليقين، وقد نمت الذات الأوربية ونضجت ثقافيا وفكريا من خلال هذه التراكمات الثقافية والمعرفية الأوربية ذات الجذور العميقة وبعيدة الغور في تكوينات أوربا الثقافية والفكرية، وتقود فكرة العدم وقاعدة الشك أو قادت عمليا العقل الأوربي الحديث دائما الى النفي وهو مبدأ عممته الذات الأوربية على كل تصوراتها وسلوكها تجاه كل خارج عن إطارها الثقافي والاجتماعي والقومي واخيرا السياسي والأمني.
هذا الخارج الذي ظل منظورا إليه هو محل الأخر غير الأوربي، فالآخر مفهوما نظريا وعنوانا فكريا هو أوربي المنشأ والابتكار وفي موضوعه ومراقبته نشأت التصورات الأوربية وهي تعتمد آلية النفي والعدم في تقييم الأخر ومحله في الخارج، وعلى سبيل المثال تنفي التصورات الأوربية كل تاريخ للعرب وكل لغة أو أدب أو شعر للعرب بل وتنفي كل دين أو كتاب ديني للعرب وحتى النسب العرقي العربي تضعه في دوائر النفي وفي أحسن الأحول في دائرة التشكيك وما يدخل في تلك الدائرة الأخيرة يكون موضوعا خاضعا للدرس والمراقبة من جانب الذات المركزية التي تتقمص دورها هنا الذات الأوربية.
فالشرق واستنادا الى إدوارد سعيد بالنسبة الى الغرب موضوعا يخضع الى نظام الفصل عن الذات في البحث العلمي حتى تتوفر أكبر مساحة من الموضوعية في تناوله ودرسه، وهي استمرارا للطريقة العلمية المتبعة في الدراسات الميدانية الاجتماعية والانثروبولوجية الأوربية في تناول ودراسة المجتمعات البدائية، وهي الخطوة الأولى بالنسبة للذات الأوربية الدارسة والمراقبة في انفصال التواصل الإنساني على مستوى المشاعر والأحاسيس مع مجتمعات أخرى من البشر بحجة الموضوعية العلمية، وهي في الصميم قطع لعلائق التواصل الإنساني مع مجتمعات الإنسان الأخرى والتي نضجت في أجوائها وتحت تأثير نظرياتها مركزية الذات الأوربية في العالم وصارت معيارا أوربيا–غربيا خالصا في التعامل مع العالم، وإذا كان الكاتب إدوارد سعيد يقتصر على الشرق في إناطة موقعه في الموضوع والدرس والمراقبة من جانب الغرب فإن الغرب أخيرا بدأ يعمم ذلك السلوك المقترن بالاستعلاء والهيمنة وسياسات إخضاع الآخر على العالم كله.
لقد كان الاتجاه السائد في تفسير وتحليل علاقة الغرب بالآخر يتجه الى علاقته بالإسلام والتوكيد من جانب الطرفين الغرب والإسلام والنخب الفكرية فيهما على نقاط الاختلاف والتباين الشديد بين ثقافتين وبين حضارتين الأولى تستمد مقوماتها من الأرض والإنسان والثانية تستمد مفاهيمها من السماء والإله، وعلى مدى القرن العشرين كان الجدل بين الغرب والشرق يتحدد مداه وسياقاته في التناقض بين الحداثة والإسلام حتى كانت دائما تنصرف مقولة الغرب "الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا" الى العلاقة المتوترة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا بين الغرب والإسلام، وهو ما أدى الى التعتيم المفرط على طبيعة العلاقة المتوترة دائما بين الغرب والعالم لا سيما في آسيا وأفريقيا، وفي بعض منها كان التوتر فيها أقدم تاريخيا من توترات العلاقة بالإسلام لاسيما في شمال أفريقيا وقبل دخول الإسلام إليها فقد كانت تلك المنطقة ساحة حروب وغزوات مستمرة بالنسبة للدولة الرومانية ثم توسعت الى أفريقيا كلها في الدول المسيحية الأوربية التي أعقبتها، وفي ظل الدول الأوربية الحديثة اتسعت رقعة الحروب الأوربية لتشمل دول آسيا كافة بدء من محاولات نابليون غزو روسيا الى وصول الجيوش الفرنسية والبريطانية الى دول شرق آسيا والصين والهند ومرورا بالعالم الجديد في أميركا الشمالية والجنوبية، لقد كان الغرب يستعدي العالم كله وعلى مدى القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلاديين والى مطلع القرن الواحد والعشرين ظلت أوربا والغرب على منهجه العام في المواجهة مع الأخر – العالم.
فالعالم القائم على ثنائية التمييز بين المركز والهامش بين الأنا الفاعل والطرف المفعول به تستند مفاهيمه وأفكاره الى الأصول المؤسسة للفلسفة الأوربية في العدم والوجود وفي الشك واليقين وفي النفي والإثبات، والعالم وفق التصورات الأوربية التقليدية والتي لم تخضعها الحداثة والتنوير الأوربيين الى النقد والتمحيص يشكل هامشا يحدد أوضاعه وتقييماته وأساليب تعاملاته هو الغرب، ذلك انه أي هذا العالم يظل وفق السياسات الغربية لا سيما الأميركية طرفا، مجرد طرفا في الصناعة والاقتصاد والأمن والسياسة ولا يحق له شغل المركز الذي استوعبه وحكمه الغرب والقوة الأحادية العظمى في الولايات المتحدة الأميركية وهو ما يقف خلف سياسات الغرب في الصراعات الاقتصادية والسياسية مع الصين والصراعات الأمنية والسياسية مع روسيا والصراعات القومية والسياسية التي بدأت تنمو في أفريقيا ولازالت كامنة في أميركا الجنوبية، مما يكشف عن مواجهة قائمة ويبدو أنها دائمة ومعلنة في بعض صورها وكامنة في صور أخرى بين الغرب والعالم وهي تشكل استمرارا ليس استثنائيا في تاريخ العلاقات الدولية للغرب واستمرارا في تطبيق الأصول النظرية التي يستند إليها الغرب في موضعة ذاته في مركزية الوجود ونفي العالم الى حدود العدم أو في موضعته في نطاق الطرف والهامش.
اضف تعليق