يجب أن نُغادر الأساليب والآليات القديمة والمعقدة في إدارة شؤون الدولة، والتي كانت السبب في وقف عجلة التنمية في البلاد، ومنها هذا الخلط العجيب والتداخل بين المصالح الذاتية وبين المصالح الاستراتيجية العليا للبلاد، التي تتوقف عليها التنمية الشاملة والمستدامة، وهذه الظاهرة من الأمور التي لم تستطع بعض الأطراف السياسية التخلص منها...
من خلال الإطلاع على تجارب البلدان التي حققت قفزات نوعية في سلم تطورها الاقتصادي والتنموي، يتبين لنا مدى التخطيط السليم والنهج المبرمج، الذي تمَّ تبنيه من قبل هذه البلدان للوصول إلى مرحلة التقدم والرقي، وعلى جميع المستويات والصعد. ويقف في مقدمة ذلك تبنيها للخطط التنموية الشاملة والمستدامة، والمتمثلة بالخطط الخمسية والعشرية.
إضافة إلى امتلاكها رؤية مستقبلية ناضجة، تمتد إلى عشرات السنين تعمل على تحقيقها والوصول إليها. وهي بالمحصَلة عبارة عن مجموعة من الإجراءات، التي تضعها الحكومات لتنفَّيذها في بحر سنوات معدودة، من أجل تطوير فروع الاقتصاد الوطني، وتحسين البنى التحتية، وتنظيم الأعمال والنشاطات التربوية، والعلمية، والثقافية، وكل ما يُسهم بشكلٍ فعّال في تطور البلدان وتقدمها.
والسؤال الذي يُطرح أين نحن من هذه الإجراءات، ومن مفهوم التنمية المستدامة، وهذا التصور المستقبلي للنمو الاقتصادي والتنموي؟ من المعروف أن الكثير من الأخطاء الجسيمة قد ارتُكبت بعد عملية التغيير، سواء كان ذلك عن قصد بسبب طغيان الفساد والمحاصصة، وما قد يترتب على ذلك من غياب المحاسبة، وسوء الإدارة، أو نتيجةً لعدم الكفاءة، وقلة الخبرة من قبل الجهات التي تولت زمام الأمور في إدارة مؤسسات الدولة، حيث أُسند الأمر إلى أشخاص لا تربطهم صلة بما أُسند إليهم سوى الولاء للجهة التي جاءت بهم.
ومن تلك الأخطاء، التي يمكن أن تُؤشر إلى الوضع الذي أعقب عملية التغيير في البلاد، هو غياب الخطط التنموية الشاملة والمستدامة، فقد جرت العادة أن تقوم الحكومة المركزية بتقديم موازنة سنوية، تُحدد من خلالها الإيرادات والنفقات المقترحة من قبل هذه الحكومة لمدة سنة مالية، وبعد المصادقة عليها يتم إرسالها إلى مجلس النواب للتصويت عليها وإقرارها، وهذه الآلية التقليدية مُتبعة منذ بداية التغيير والى يومنا هذا.
وقد رافق طرح الموازنة خلال السنوات المنصرمة الكثير من المشكلات والتعقيدات، ولعل المشكلة الأبرز تكمن في آلية طرح الموازنة، فمن المعروف أن هذه الموازنة تستغرق عدة أشهر في كواليس الحكومة قبل أن يتم رفعها إلى مجلس النواب، ثم يُضاف إليها أشهر أخرى في أروقة مجلس النواب قبل إقرارها، عندها نكون قد تجاوزنا منتصف السنة المالية، مع كل ما تعنيه من شلل للحياة الاقتصادية في البلاد، وانعكاس ذلك على الواقع الاجتماعي والمعيشي للمواطن البسيط. وهذه الحالة تتكرر مع بداية كل سنة مالية جديدة، ناهيك عن عدم إقرار أي موازنة لسنواتٍ خلت بسبب الخلافات السياسية بين الكتل المؤثرة.
واليوم وبعد الموافقة الحكومية على مشروع قانون الموازنة لهذا العام، ورفعها إلى مجلس النواب للتصويت عليها، نلاحظ أن هذه الموازنة تختلف عن الموازنات السابقة من حيث النفقات التشغيلية، والاستثمارية، ونسبة العجز، فهي مُثقلة بالنفقات التشغيلية، والتي تجاوزت أكثر من 150 ترليون دينار، في حين بلغت الموازنة الاستثمارية 47 ترليون دينار، وبنسبة عجز تجاوزت 63 ترليون دينار.
ومن الملاحظات الأخرى، التي يمكن أن تؤشر إلى هذه الموازنة هو هذا الفرق الهائل بين الموازنة التشغيلية والاستثمارية، إضافة إلى العجز الكبير وغير المسبوق، ولذلك فهي بحاجة إلى إعادة نظر، والى مراجعة مستفيضة من قبل أعضاء مجلس النواب قبل إقرارها، ولعل أهم الفقرات التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار، هو التركيز على المشاريع الاستثمارية ذات الطبيعة الاستراتيجية، فهي الكفيلة باستحداث تنمية شاملة ومستدامة.
وهناك فقرة مثيرة للانتباه أيضاً تلك التي تشير إلى مشروع قانون الموازنة لثلاث سنوات قادمة، وهذه خطوة قد تكون إيجابية، إذا كان الهدف من ورائها إحداث تنمية اقتصادية مستدامة، ومقدمة للخطط التنموية الخمسية والعشرية، المفترض تبنيها الآن وفي المستقبل.
ما نريد قوله إننا يجب أن نُغادر الأساليب والآليات القديمة والمعقدة في إدارة شؤون الدولة، والتي كانت السبب في وقف عجلة التنمية في البلاد، ومنها هذا الخلط العجيب والتداخل بين المصالح الذاتية وبين المصالح الاستراتيجية العليا للبلاد، التي تتوقف عليها التنمية الشاملة والمستدامة، وهذه الظاهرة من الأمور التي لم تستطع بعض الأطراف السياسية التخلص منها، والتي ظلت كصفة ملازمة لهذه الأطراف، وقد أثبتت الأحداث فشلها على أكثر من صعيد، ومنها الإخفاق في تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
اضف تعليق