كان هدف الإستراتيجية الطموحة لإدارة بوش لتغيير الشرق الأوسط بعد غزو العراق، على الأقل جزئيًا تحسين موقع إسرائيل الاستراتيجي. باختصار، دعم أمريكا لإسرائيل فريد من نوعه: مثل هذا الدعم قد يكون غير مفهوم لأن إسرائيل لم تكن رصيداً استراتيجياً حيوياً أو أن هناك حجة أخلاقية مقنعة لمواصلة الدعم الأمريكي...
يصادف مارس 2023 الذكرى العشرين للغزو الأمريكي لجمهورية العراق. وفي هذا العام، مارس 2023، وبعد التقارب السعودي الإيراني، بدأت انتكاسة الهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ونأمل أن يكون انهيار الكيان الصهيوني قريبًا.
أولاً: سقوط النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة (1945-1991)
إن التفرد الجغرافي والاستراتيجي للشرق الأوسط جعل كل قوة عظمى في التاريخ تسعى إلى تعزيز مصالحها في المنطقة. علاوة على ذلك، يعد الشرق الأوسط مركزًا روحيًا للأديان التوحيدية للمسيحية واليهودية والإسلام ويحتوي أيضًا على أكبر احتياطيات نفطية في العالم. لذلك، فإن أي صراع ينشأ في المنطقة لأسباب داخلية أو خارجية له آثار لا تزعزع استقرار المنطقة أو تخل بالتوازن الإقليمي فحسب، بل تؤثر أيضًا على الاستقرار العالمي. لهذه الأسباب، كان الشرق الأوسط مركزًا مهمًا للشؤون العالمية، اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، وحجرًا أساسيًا للنظام الدولي. اللاعبون الدوليون الرئيسيون هم الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي.
سنتحدث بإيجاز عن النظام الدولي حتى سقوطه: أنشأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بالعمل مع المملكة المتحدة ودول أخرى، النظام العالمي الليبرالي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. الهدف هو ضمان عدم تكرار الظروف التي أدت إلى حربين عالميتين. ولهذه الغاية، شرعت تلك الدول في إنشاء نظام دولي ليبرالي قائم على مؤسسات للحفاظ على سيادة القانون واحترام سيادة الدول وسلامتها الإقليمية، حيث كانت المشاركة فيه مفتوحة وطوعية للجميع. وهكذا، تم إنشاء مؤسسات دولية لتعزيز السلام (الأمم المتحدة)، والتنمية الاقتصادية (البنك الدولي)، والتجارة والاستثمار (صندوق النقد الدولي، وبعد سنوات، منظمة التجارة العالمية).
كان هذا النظام مدعومًا بالقوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، وشبكة من التحالفات في أوروبا وآسيا، والأسلحة النووية كرادع للعدوان. من المؤكد أن هذا النظام العالمي الليبرالي لم يكن موجودًا اليوم، مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. بدأ العنف يسيطر على النظام العالمي (الليبرالي سابقًا)، ونمو التيارات الشعبوية اليمينية، والنازية، وما إلى ذلك لأن النظام العالمي السابق فقد أهم ثلاث لبناته: 1- الليبرالية، 2- العولمة، 3- القدرة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. يواجه النظام العالمي اليوم تحديات غير مسبوقة. تلك المؤسسات الدولية التي تم بناؤها كركائز للنظام الدولي، مثل (الأمم المتحدة)، (البنك الدولي)، (صندوق النقد الدولي)، تحولت إلى مؤسسات تابعة لـ الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت دولة استبدادية.
بدأ النظام الدولي في الانهيار عندما استخدمت إدارة بوش ومجموعتها الصغيرة من المحافظين الجدد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر لإعادة تحديد مكانة أمريكا في العالم وفقًا لما يسمى بـ "عقيدة بوش". أوضح سوروس أن عقيدة بوش تقوم على ركيزتين: أن الولايات المتحدة يجب أن تفعل كل ما في وسعها للحفاظ على تفوقها العسكري دون منازع، ثانياً أن لها وحدها الحق في اتخاذ إجراءات وقائية. وفقًا لهاتين الفكرتين، يتم إنشاء فئتين من السيادة للدول: سيادة تلتزم بموجبها جميع الدول بالمعاهدات الدولية المعترف بها، وأخرى تلتزم جميع الدول بـ "عقيدة بوش"، والتي ترفع شعار " من ليس معنا فهو ضدنا". مذهب بوش سائد حتى خلال الإدارة الحالية، التي أقامت مراسم جنازة للنظام العالمي الليبرالي من خلال الحرب الأوكرانية.
إن مصير الأمم المتحدة اليوم مشابه لمصير "عصبة الأمم 1920-1946" التي فشلت في منع العدوان الياباني على إقليم منشوريا الصيني عام 1932 والعدوان الإيطالي على الحبشة عام 1936، منع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1938. وتحولت إلى عصبة الأمم المنتصرة وتنفذ أجندة القوى العظمى المكونة لها على حساب السلام العالمي. والآن فشلت الأمم المتحدة الحالية في فلسطين وأفغانستان والعراق واليمن والآن أوكرانيا، الأمر الذي قد يقود العالم إلى الحرب العالمية الثالثة. تنفيذاً لأجندة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الناتو على حساب السلام العالمي.
لقد أصبحت الأمم المتحدة مؤسسة تابعة للبيت الأبيض وقيادة الناتو. ومع ذلك، فإن " المثلث " واشنطن - موسكو - بكين، الذي تشكل في ظل النظام الدولي السابق، لا يزال يحتفظ بمكانته ونفوذه في سياسات العالم الحديث. لكن توازن القوى داخل هذا "المثلث" تحدده قدرة كل منهم على تعزيز مصالحهم في مناطق مختلفة من الكوكب. بالطبع، كان الشرق الأوسط وسيظل واحداً من أهم هذه المناطق، حيث تتعارض المصالح الاقتصادية والجيواستراتيجية والأيديولوجية لمراكز القوة الرئيسية في العالم الحديث.
ثانياً: منطقة الشرق الأوسط والخليج بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003
لا تزال تداعيات غزو العراق عام 2003 حاضرة إلى حد كبير، يتردد صداها في جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم. لقد أحدثت تغييرات كبيرة على الصعيدين الدولي والإقليمي. بما في ذلك الانتفاضات العربية والحروب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن، وكذلك السماح بتدخل ومشاركة القوى الأخرى، خاصة في الخليج العربي مثل روسيا والصين. مهد هذا التدخل الطريق لانتقال أوسع من القطبية الأحادية إلى التعددية القطبية. كان غزو العراق عام 2003 نقطة تحول على مسار جديد لا يسمح بالعودة للنظام الدولي والإقليمي القديم. ولا شك أن هذا الوضع سيجعل علاقات واشنطن مع دول المنطقة "غير مستقرة". وساطة الصين بين السعودية وإيران... ينظر إليها على أنها "اختراق كبير" على حساب واشنطن. كما يمثل تجاوب دول المنطقة وإيمانها بأهمية الدور العالمي لروسيا والصين وكسر القطبية الأحادية.
من الآن فصاعدًا، لم تعد الولايات المتحدة القوة المهيمنة بلا منازع في الشرق الأوسط. أدى الدور المتناقص للولايات المتحدة إلى ظهور قوة إقليمية إيران السعودية وتركيا. وكان الهدف من التحركات الصينية الروسية هو مواجهة الهيمنة الأمريكية في المنطقة والباقية بحجة الحفاظ على الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب ومنع انتشار الأسلحة النووية وأمن الطاقة وأمن إسرائيل.
ثالثًا: السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ومنطقة الخليج ثابتة ومستمرة.
الإدارات الأمريكية المتعاقبة على دراية بمصالح الولايات المتحدة في منطقة الخليج الفارسي. وهكذا، تبنت الولايات المتحدة رؤية تقوم على إعطاء الأولوية لاستخدام القوة العسكرية والتدخل المباشر لمواجهة أي تهديد على النفوذ والمصالح الأمريكية في منطقة الخليج. وهذا ما حدث في حرب الخليج الثانية، على سبيل المثال، في أغسطس 1990. ولا تتغير السياسة الخارجية للولايات المتحدة بتغيير القيادة، وقد تختلف آليات تطبيق هذه السياسة باختلاف الإدارة. بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حدث تحول في سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة. من المنظور الأمريكي، انتقلت منطقة الخليج من منطقة تصدير النفط إلى منطقة تصدير الإرهاب.
كانت هناك توترات بين الولايات المتحدة وبعض دول الخليج. كما تعرضت دول الخليج لمجموعة متنوعة من الضغوط الأمريكية. لكن النظرة الأمريكية استندت إلى عدد من الثوابت تجاه منطقة الخليج. وأهم هذه الثوابت "استقرار هذه المنطقة الحيوية". وهكذا، ركزت عقيدة بوش في 11 سبتمبر على ثلاث نقاط: الأولى كانت الحرب الاستباقية وردع أي معتد محتمل. والثاني هو العمل من جانب واحد، إذا لزم الأمر، للدفاع عن مصالحها. الثالث احتضن انتشار الديمقراطية والحرية في جميع أنحاء العالم.
لقد لعب المحافظون الجدد دورًا مهمًا في أيديولوجية عقيدة بوش وفي تشكيل السياسة الأمريكية الجديدة تجاه الشرق الأوسط ودول الخليج. اقتصر التغيير على إطار أهداف السياسة الخارجية التكتيكية لاستيعاب نموذج التهديد الجديد. يقول الأمريكيون إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت حافزًا للسيطرة على احتياطيات النفط في العراق والمنطقة، فضلاً عن الحفاظ على هيمنة البترودولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية والسعي لفرض الهيمنة العالمية. كانت هذه العوامل هي السبب الرئيسي لقرار الإدارة الأمريكية بغزو العراق عام 2003. ولم يكن الهدف من "عملية حرية العراق" هو الرغبة في إدخال الديمقراطية وترسيخ الأمن، ولكن العوامل الثلاثة (الموارد النفطية، البترودولار الأمريكي، الهيمنة العالمية ) هي الأسباب الرئيسية.
يبدو أن سياسة الرئيس جورج دبليو بوش قد تحولت من استراتيجيات ضبط النفس إلى استراتيجيات العدوان، مستخدماً قوته العسكرية لحماية مصالحه. لماذا تغيرت السياسة الخارجية بعد وصول الرئيس بوش إلى السلطة متجاهلاً السياسة الخارجية التقليدية؟ نعم، يلعب النفط دورًا مهمًا في غزو العراق، لكن قرار بوش تأثر أيضًا بعوامل أيديولوجية أخرى، بدءًا من حرب الأيام الستة عام 1967، والتي كان جوهرها مصالح إسرائيل وأمنها. وهكذا، أدى الجمع بين الدعم الأمريكي القوي لإسرائيل والجهود المبذولة لنشر الديمقراطية في المنطقة إلى تأجيج الرأي العام العربي والإسلامي وتعريض الأمن الأمريكي للخطر. كان هدف الإستراتيجية الطموحة لإدارة بوش لتغيير الشرق الأوسط بعد غزو العراق، على الأقل جزئيًا تحسين موقع إسرائيل الاستراتيجي. باختصار، دعم أمريكا لإسرائيل فريد من نوعه: مثل هذا الدعم قد يكون غير مفهوم لأن إسرائيل لم تكن رصيداً استراتيجياً حيوياً أو أن هناك حجة أخلاقية مقنعة لمواصلة الدعم الأمريكي.
لقد دمر غزو العراق "المصالح الأمريكية"، ولهذا وقف جورج سوروس في وجه الرئيس بوش ومجموعته الصغيرة من مستشاري المحافظين الجدد. يعتقد جورج سوروس أن "القوة لا تمنح الشرعية. بدون شرعية لا يمكنك أن تقود". قال سوروس: "لا يمكن أن يكون لديك إمبراطورية لا يؤمن بها الناس". "إذا كنت تريد أن تكون القوة المهيمنة، يجب أن يكون لديك عدد كافٍ من المؤيدين الذين يدركون هيمنتك، وإلا ستفقدها." يعتقد سوروس أن السيادة الأمريكية قد تلاشت بسبب الإرهاب والعالم الغاضب من غطرسته. لهذا السبب أطلق سوروس على هذا التفوق والغطرسة الأمريكية "فقاعة الهيمنة الأمريكية" غير الواقعية التي تشبه الأوهام المشوهة التي تغذي تلك الفقاعات. إن عواقب انفجار فقاعة الهيمنة الأمريكية ستكون كارثية، كما يراها سوروس، "العداء والاستياء تجاه الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم". وهذا ما نراه الآن في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، توجه أكبر قوتين إقليميتين، السعودية وإيران، نحو الشرق، والميول والاتجاهات القوية لتركيا والعراق والإمارات وغيرها نحو الشرق.
اضف تعليق