نستغل ضعف السلطة فنمارس هواياتنا في العبث بالحياة العامة، نتخلف عن إداء مسؤولياتنا، نخالف القوانين الأساسية التي تحفظ حياة الناس، ونتخلى عن أخلاقنا التي ننادي بها في مواقع التواصل الاجتماعي. أين دورنا ومسؤوليتنا في حماية المجتمع من الانهيار؟ ...
في مستشفى حكومي عراقي، تتوافد السيارات الحاملة للمرضى مسرعة لتقف أمام ردهة الطورائ، ويخرج منها مرافقي المريض والصراخ لغة التفاهم بينهم وبين عمال عربات نقل المرضى.
يدخلون تحت سقف ردهة الطوارئ، حيث يتصادم الناس من شدة الخوف والذهول والزحام، المكان مزدحم وسريع بحركة المواطنين، لكنه يفتقد للأطباء الخافرين أو المقيمين.
يجلس المريض على السرير المخصص له، فنسأل أحد أقاربنا الذي يعمل في المسشتفى، أين الطبيب؟ هناك، ويشير إلى غرفة يتجمع فيها ثلاثة أشخاص، (شاب في منتصف العشرينيات وفتاتان تقاربانه العمر)، يتسامرون ويلعبون في شاشات هواتفهم.
ذهبت إليهم، وطلبت منهم المساعدة في علاج المريض، فطلب مني الطبيب الشاب أن أشرح له الحالة، فقلت له لا أعرف بالضبط، هو سقط فجأة والجزء الأيمن من جسمه توقف عن الحركة، أخشى أن يكون قد أصيب بجلطة؟
لا شيء، يجيب الطبيب وهو يحدق في هاتفه، ثم يكتب لي علاجاً ويختمه بسرعة ليعود إلى ممارسة هوايته في تقليب الموضوعات والصور على شاشة هاتفه.
غضبت بشدة، لكنني كتمت خشية أن يموت المريض على يدي طبيب يكتب العلاج بيد وهاتفه باليد الأخرى، فماذا عرف الطبيب من المريض ليكتب له هذا العلاج؟ وأي علاج يكون؟
اكتشفت فيما بعد أن غالبية العلاجات التي تعطى لمرضى طوارئ هذا المستشفى هي مسكن للآلم لكي يهدأ المريض وتتخلص منه المستشفى في هذا الوقت المتأخر من الليل.
واكتشفت فيما بعد أن مريضنا يعاني من مرض لا يمكن علاجه بمسكن الألم الذي أعطاه إياه الطبيب صاحب الهاتف الذكي.
كما اكتشفت أن الرعاية التي يقدمها الطبيب داخل عيادته الخاصة تختلف بشكل غير قابل للمقارنة عن تلك التي يقدمها داخل المستشفى الحكومي.
واكتشفت أن بعض الأطباء لا يذهبون للمسشتفى في أوقات دوامهم الليلي، وهذا الاكتشاف شاهده أيضاً رئيس الوزراء الحالي بعينه عند زيارته المفاجئة لمستشفى الكاظمية.
واكتشفت واكتشفت واكتشفت.
وتساءلت أيضاً، لماذا تختلف الرعاية بين العادة الخاصة والمستشفى الحكومي؟
أمور كثيرة يعرفها المواطن أكثر مني، ولا تحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل، وفي مجملها تتعلق بحس المسؤولية لدى الموظف الحكومي الذي يمثل في النهاية لسان حال المواطن العراقي باعتباره جزءاً من هذا الشعب.
لنناقش الموضوع بتأنٍ، نحن متفقون على أن السلطة الحاكمة فشلت في أمور كثيرة، ولم تنجح في أداء وظيفتها في إدارة الدولة العراقية، وما تزال حتى هذه اللحظة، إلا أننا كمواطنيين وموظفين أيضاً نعتبر أنفسنا ضحايا لسلطة غير كفوءة، ما هو دورنا؟ وما هي مسؤوليتنا؟
هل يحق للطبيب الذي يمثل الانسان المواطن أن يقصر في عمله داخل المستشفى لأن السلطة ضعيفة في الرقابة ولا تجيد ضبط أوضاع المستشفى؟
من واجبه الأخلاقي والديني والوطني، أن يكون الإنسان في هذه المواقف صاحب مسؤولية عالية، وأن يضمد جراء البلد بتفانيه وجهده المتواصل، لا أن يستغل الفوضى ليهرب من دوامه وينام في البيت بينما هناك أناس مرضى يرقدون في ردهة الطوارئ ينتظرون من يعالجهم.
نعم، نعيد التأكيد على أن الإدارة الحكومية فاشلة، وغير قادرة على ضبط الأوضاع، وهذا لا يحتاج إلى كثير من الحجج لإثباته، إلا أننا يجب أن ننتبه لأنفسنا، أين نحن من هذه الفوضى، هل نؤدي مسؤولياتنا بتفانٍ وإخلاص، أم نستغل الأوضاع للهروب من واجباتنا.
ليس المطلوب منها إصلاح الوضع بشكل عام، بل علينا إيقاف النزيف على أقل تقدير وضمان عدم توسعه حفاظاً على ما تبقى من جسد الدولة والمجتمع، ففي أوقات الأزمات يبرز الجانب الأخلاقي للإنسان ليكون هو المحرك الأساسي لأفعاله.
وفي بلادنا المتأزمة يتضح إن كان الإنسان العراقي يحمل بداخله أخلاق سقراط أو نفعية ميكافيلي، وفي العمل الوظيفي نشتم ميكافيلي لكننا نسير على خطاه.
نستغل ضعف السلطة فنمارس هواياتنا في العبث بالحياة العامة، نتخلف عن إداء مسؤولياتنا، نخالف القوانين الأساسية التي تحفظ حياة الناس، ونتخلى عن أخلاقنا التي ننادي بها في مواقع التواصل الاجتماعي.
أين دورنا ومسؤوليتنا في حماية المجتمع من الانهيار؟
اضف تعليق