كثرة التساؤلات حول الانتقائية وعدم كفاءة المنظومة الحاكمة يولد ردة فعل رافضة لأي إجراء تقوم به السلطة، حتى وإن كان الإجراء سليماً من الناحية الشكلية، لأن الشعب بالأساس لا يثق في حكامه، إنهم أساس الهبوط في جميع مجالات الحياة العراقية، ومن المنطق معالجة أساس الهبوط لا نتائجه...
إذا شعرت بوجود خلل في جسمك يجبرك على مراجعة الطبيب، فهل تذهب إلى طبيب تشك في أمانته؟ من منا يستطيع تسليم جسده إلى طبيب لا يثق به لأنه أشار إليه بضرورة إجراء عملية جراحية؟
لنقلب الأمر إلى شأن آخر، إذا شعرت أن رجل الأمن متعاون مع سارق بيتك، فهل تستنجد برجل الأمن الذي سهل دخول السارق إلى منزلك؟
هل تدعوه لاعتقال السارق، أم يكون لك رأي آخر؟ رغم أن القانون يفرض عليك تبيلغ الشرطي ليقوم بالإجراء اللازم وفق الضوابط والتعليمات.
وماذا لو كان القانون المتاح لدى رجل الشرطة هو قانون غير منصف، أو تم تشريعه من قبل نظام سياسي ديكتاتوري لا يتناسب مع الوضع الذي تعيش فيه عام 2023؟
أود إكمال المقال على شكل تساؤلات لكنني أخشى أن تتركني صديقي القاريء وتشعر بأنني لا أملك موضوعاً سوى طرح التساؤلات، إلا أن المسألة بحاجة إلى التساؤل فعلاً، فالوضع العراقي بدأ يثير الكثير من الاستفهامات لا سيما مع حجم التناقضات في الواقع الذي نعيشه خلال السنوات الأخيرة.
الجسد العراقي مريض حقاً، والمجتمع العراقي هو هذا الجسد الذي يتطلب إجراء أكثر من عملية جراحية، ومن بين الأمور التي نحتاج فيها إلى إصلاح هو انتشار المحتوى الفارغ عبر مواقع الاجتماعي الذي أصبح البديل الموازي أو الفعلي للمؤسسات التربوية والاجتماعية الرسمية وغير الرسمية.
كلنا نشكو من تراجع المؤسسات التربوية ومؤسسات الضبط الإجتماعي سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، وكتبنا وتحدثنا بضرورة عدم ترك الأمور تهبط إلى مستوريات متدنية، لكنها هبطت إلى القاع.
فمن يصلحها اليوم؟
هذا السؤال الذي كان مطروحاً في السابق، وما يزال، هل يمكن لمن تسبب بالوصول إلى هذا الحال أن يصلحه، لا سيما مع عدم وجود أي مؤشرات على قيام المتسبب بخطوات تثبت أنه قد أصلح نفسه أولاً، وأقصد هنا مؤسسات الدولة التي تقر بتقصيرها، بل وتنتهك الدستور علانية وبما يخدم مصالحها فقط، بينما تزجرنا لأننا اعترضنا على حملة التبليغ عن ما يسمى بالمحتوى الهابط.
نحن متهمون بمنع تطبيق عدالة القانون، لكن فكرتنا الأساسية التي نقولها دائماً إن من تسبب بانهيار الوضع العراقي لا يمكنه إصلاح، ومن شهدت له المواقف بازدواجيته وانتقائيته في تطبيق القانون لا يمكننا الثقة به.
نصل في النهاية إلى أننا نعاني من انتشار المحتوى الفارغ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ونمني النفس بارتقاء هذا المحتوى إلى مستوى أفضل، لكننا في الوقت ذاته لا نثق في النظام السياسي، لأنه سوف يستخدم المواد القانونية بطريقة انتقائية وحسب مقاساته الخاصة وبما يخدم مصالحه.
فجوة الثقة التي صنعها الفاعل السياسي وإدخال أنفه في كل صغيرة وكبيرة وخارج قواعد القانون جعلنا في حيرة من أمرنا، نريد إصلاح الوضع، لكن ليس على يد القوى والأحزاب الحاكمة، بل نعتقد بأن الخير الوحيد والسليم لإصلاح الوضع يأتي من خلال القضاء على مسبباته.
ما هي مسبباته؟
الهبوط السياسي أحد أكبر المتسببين في هبوط التربية والأخلاق والمحتوى وكل شيء آخر، عندما وضعت السياسة أنفها في كل صغيرة وكبيرة، وسحقت القوى الحاكمة الدستور والقانون تحت أقدامها جعلت الكثير من أصحاب الغايات الدنيئة يشعرون بالقوة في مواجهة القيم الاجتماعية والقانونية.
من هنا بدأت الحكاية ومن هنا يجب أن تنتهي، يجب أن نعود إلى رشدنا عبر تطبيق قواعد العدالة في كل مجالات العمل السياسي، وأن نضمن التداول السلمي للسلطة، وليس التدوال بالمؤامرات وتهديدات السلاح والوصول إلى مرحلة الانسداد السياسي.
لمحاربة الهبوط علينا أن نتوقف عن الهبوط بالقانون العراقي وأن نسمح للقواعد القانونية بأن تأخذ مساراتها السليمة لا أن نسلم رقاب مؤسسات الدولة لشخصيات وعوائل وجماعات انتهازية تحمل السلاح خلافات لما أقرته المادة التاسعة من الدستور العراقي.
من أجل إصلاح الوضع العراقي نحتاج إلى استعادة الثقة المفقودة بين الشعب والسلطة الحاكمة، وهذه مسؤولية السلطة ليس عبر تطبيق بعض الفقرات القانونية بشكل انتقائي وحسب ما يخدم مصالح بعض المتنفذين، بل عبر تشريع قانون انتخابي ثابت وعادل، وتشكيل هيأة انتخابية مستقلة تماماً تشرف على انتخابات نزيهة تفرز لنا نواباً في البرلمان ينتخبون حكومة تلبي مصالح الشعب، ويعيدون النظر في قانون العقوبات الذي لا يتناسب إصلاقاً مع دستور عام 2005.
فمن تناقضات العراق أن دستوره أقر عام 2005 واعترف بحرية الرأي والتعبير بينما قانون العقوبات أقر عام 1969 على يد نظام انقلابي ديكتاتوري لا يؤمن بحرية الرأي والتعبير، فكيف يمكن مزج قانون العقوبات الديكتاتوري مع الدستور الديمقراطي؟
كثرة التساؤلات حول الانتقائية وعدم كفاءة المنظومة الحاكمة يولد ردة فعل رافضة لأي إجراء تقوم به السلطة، حتى وإن كان الإجراء سليماً من الناحية الشكلية، لأن الشعب بالأساس لا يثق في حكامه.
إنهم أساس الهبوط في جميع مجالات الحياة العراقية، ومن المنطق معالجة أساس الهبوط لا نتائجه.
اضف تعليق