q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الاعتدال بالاستقامة والنهايات الجميلة

المسلم بين الاعتدال والتطرف (6)

الغاية مهمة جدا والوصول إليها من خلال العمل والاستقامة ورؤية العواقب ورؤية النتائج التي تسلكها في حياتك، فتصل إلى غايتك ونهايتك، فكل إنسان له نهاية، لا يمكن للإنسان أن يقول ليس لي نهاية، الكل له نهاية، فكيف تنتهي، وكيف أنتهي، وكيف ننتهي جميعا؟، لابد أن تكون نهايتنا جميلة...

(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا)

إذا دخلتم أية دولة أو مدينة سوف تعرفون تمدّن هذه الدولة وتلك المدينة، من خلال الطرق التي أنشأتها ووسائل النقل التي تسيّرها، فإذا كانت الطرق منظّمة وميسَّرة من خلال الطرق السريعة والجسور والأنفاق، وسهولة وصول الإنسان إلى مقصده سالما غانما، فتعرف أن هذه الدولة أو هذه المدينة متقدمة ومتمدّنة.

فأساس أي تطور في الدول المتقدمة يعتمد على طبيعة الطرق ووسائل النقل الموجودة فيها، لأن وسائل النقل والطرق تعتبر من البنية التحتية لأية دولة وأية مدينة، حتى تستطيع أن تعمل وتسيِّر أمور حياتها الاقتصادية والتجارية والمعيشية والادارية، وعلى العكس من ذلك، إذا كانت الطرق في الدولة ضعيفة ورديئة ووسائل النقل كذلك أيضا، مع عدم وجود القانون والنظام، سوف تعرف أن هذه الدولة متخلفة في النظام والقانون والاقتصاد والتجارة والصحة والحياة الجيدة.

إن البنية التحتية لوسائل النقل والطرق الجيدة يعبر عن صحة ورفاهية المواطن وجودة الحياة في ذلك البلد، وهذه عبارة عن مؤشرات تُقاس بها جودة الحياة في المدن، فتقسّم هذه المؤشرات وتُعطى المدينة الأفضل نتيجة للبنى التحتية الجيدة الموجودة فيها، طبعا بشرط الالتزام بالقانون مع وجود الطريق الجيدة، فإن هذا يؤدي إلى نظام جيد بعيد عن الفوضى والعشوائية.

الأمم التي لها بنى تحتية جيدة من الطرق، تكون متقدمة اقتصاديا، وتكون التجارة فيها ناجحة، ولا يخسر الإنسان فيها وقته، فهو يكسب الوقت بشكل دائم، ولا يتأخّر بسبب الزحامات المرورية، فحياته سهلة دائما وميسّرة، وبالتالي يكون إنسانا منتجا في الحياة، هذا هو الجانب المادي لقضية الطريق أو الطرق.

الطرق المعنوية

هذه المعادلة تأتي أيضا في الجانب المعنوي والعقائدي والفكري والنفسي، لابد أن تكون هناك طرق جيدة للإنسان حتى يصل إلى غاياته المعنوية في الحياة، ولذلك فإننا نقرأ يوميا في صلواتنا اليومية وفي مختلف الأوقات الآية القرآنية في سورة الحمد، (أهدِنا الصراط المستقيم)، يعني الطريق المستقيم، الطريق الذي تكون فيه استقامة، الطريق الواضح الذي يوصلنا إلى المقصد، أي إلى مقصد الحق، الى الغاية المطلوبة، سهولة الوصول، نجاح الوصول، سعادة الوصول، وتحقيق الغايات المرتبطة بها.

والعكس بالعكس عندما تكون الطرق المعنوية وعرة ومريضة وغير معبّدة، تؤدي إلى سقوط الإنسان وضلاله وانحرافه، كذلك فإن الإنسان الذي لا يسلك الطريق المستقيم وينحرف أو يزيغ عن الجادة الصواب، فهو أيضا لا يصل إلى مقصده وغايته.

من معاني الاعتدال: الاستقامة

الاستقامة يقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، والصراط: الطريق وهو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود، واستقامة الانسان لزومه المنهج المستقيم، وكذلك الاستقامة ملازمة الصراط المستقيم برعاية حد التوسط في كل الأمور، وكذلك تعني البقاء على الطريق المعتدل الواضح. وايضا الاستقامة: الاعتدال، وهو ضد الانحراف إلى اليمين أو الشمال.

فكما يحتاج الإنسان إلى طريق معبّد يسير عليه لبلوغ مقصده المطلوب، فهو كذلك يحتاج أيضا ان يلتزم بهذا الطريق المستقيم وأن يكون مطيعا للنظام والقانون حتى يصل إلى مقصده غانما سالما رابحا.

الاستقامة هي من معاني الاعتدال، والتوسط في الأمور، أي لا ينحرف الإنسان يمينا ولا يسارا، فيسير في الطريق القويم، والطريق الواضح، والطريق المستقيم، فالتوسّط هو البقاء على الطريق المعتدل والواضح.

الانحراف عن اليمين وعن الشمال والخروج عن دائرة التوسّط والاعتدال، والدخول في دوائر التطرف والافراط والتفريط، يذكرها لنا الإمام علي (عليه السلام) في هذه الرواية:

(الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ).

اليمين والشمال يعني اليسار وقد يعني الأمام او الخلف أيضا، فالإنسان الذي يسير في الطريق المستقيم ولا ينحرف لا يمينا ولا يسارا، فهذا إنسان مهتدٍ في الطريق المستقيم، والانحراف عن هذا الطريق ضلال ومضلة، والمضلة تجمع المعنيين، فالطريق هو غير جيد للذي يسير فيه، وكذلك الإنسان نفسه لم يلتزم للسير في الطريق المستقيم.

مضلة أي أن ما زاغ عن جادة الشريعة نحو الإفراط أو التفريط، ضلال وانحراف عن الحق كالطرفين في الطريق إذا سلكهما الإنسان ضل وحاد عن الجادة الموصلة، والطريق الوسطى صفة الطريق.

الطريق الأوسط نحو الحقيقة

ولذلك فإن الطريق الحقيقي هو الطريق الأوسط أو الجادة الوسطى، الذي يكون فيه الاعتدال والتوسط في الأمور وعدم الافراط والتفريط، وعدم التطرف في الأمور، والطريق الوسطى هي الجادة، والجادة هي الطريق الواضح المعبد، الطريق الذي يوصل الإنسان إلى غايته وهدفه في الحياة.

(الجادة عليها باقي الكتاب) لأن القرآن الكريم هو الذي يعطي لك معنى هذا الطريق أو مفهوم هذا الطريق، وإلى أين يؤدي هذا الطريق، (وآثار النبوة) يعني أهل البيت (عليهم السلام)، هم الجادة الواضحة، والإمام علي (عليه السلام) هو الجادة الواضحة، هو الطريق الوسط الذي لابد أن لا ينحرف عنه الإنسان يمينا أو يسارا.

(ومنها منفذ السنّة)، السنّة هي المنفذ بمعنى هي الباب الذي تدخل منه في الطريق المستقيم، والمنفذ الحقيقي الذي تسير عليه السنة والشريعة والطريقة في الحياة وأسلوب الحياة، يتم ذلك من خلال هذا المنفذ، وعبر هذه الجادة التي يرشدنا إليها الكتاب، ويرشدنا إليها أهل البيت (عليهم السلام).

العاقبة تنتجها خياراتك

إن الطريق الذي تسلكه، الطريق الوسطى هو طريق أهل البيت (عليهم السلام) الذي (وإليها مصير العاقبة)، فالعاقبة التي تريدها في الحياة تنتجها خياراتك في هذه الحياة، هل تختار الاستقامة في الطريق؟، أم تختار أن تنحرف؟، فهذا الإنسان الذي يقود سيارته في الطريق، وينحرف يمينا أو شمالا، ولا يسير في الطريق المستقيم في هذه الجادة، سوف يُصاب بحادث مروري قد يؤدي إلى إصابته وإصابة الذين معه.

فينتج حادث مؤذٍ بسبب انحرافه، وسرعته، واستهتاره، لذلك فإن الإنسان الذي يستهتر في الطريق المستقيم، طريق أهل البيت (عليهم السلام) الطريق الوسط أو الوسطى، فإنه سوف ينحرف، وحينئذ سوف تكون عاقبته سيئة وغير جيدة، العاقبة الجيدة تأتي من خلال استمرار السير في هذا الطريق الوسط، فالإفراط والتفريط هو ضلال وانحراف عن الحق، كالطرفين في الطريق إذا سلكهما الإنسان ضلّ وحاد عن الجادة الموصّلة.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الناس أخذوا يمينا وشمالا، وإنا وشيعتنا هدينا الصراط المستقيم).

جمال العواقب الحسنة

المطلوب من الإنسان أن يركّز إذا أراد الحصول على حسن العاقبة على السير في الطريق المستقيم، وبالنتيجة ينال الجمال الحسن للعواقب، من خلال تجنبه للانحراف يمينا أو يسارا، والابتعاد وعدم الوقوع في مصيدة الضلال والتضليل.

فقد يوقع الإنسان نفسه في هذه المصيدة، الضلال العقائدي، الضلال الفكري، الضلال الأخلاقي، كلها تؤدي إلى الانحراف، حيث يبحث الإنسان عن أفكار أخرى غير الأفكار التي تبقيه في الطريق المستقيم، فتؤدي به إلى عاقبة غير جيدة.

يوضح الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر أو هذا المطلب في قوله: (لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الَّتِي لَا يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلَّا هَالِكٌ مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ)، الجنة في الدنيا تعني العاقبة، لأنها قائمة على الأسباب والمسببات، والإنسان لا يعيش فيها هانئا إلا من خلال الاستقامة في الطريق، والذي يهلك في الحياة بسبب الضلال والانحراف، سوف يلاقي العذاب الدنيوي والعذاب الأخروي.

عن الامام علي (عليه السلام): (وأخذوا يمينا وشمالا ظعنا في مسالك الغي وتركا لمذاهب الرشد).

من مستلزمات الاستقامة

البعض يقول إن الاستقامة تعني البقاء على الطريق فقط، أي البقاء سائرا في الطريق، مهما كان هذا الطريق، لكن هذا القول غير صحيح، إذ يجب البقاء سائرا في الطريق الوسطى، الطريق المستقيم الذي تذكره الآيات القرآنية، وتذكره الروايات الشريفة، فمن نتائج وعواقب ومسببات الاستقامة، هو الوصول إلى الغاية الواقعية في الحياة، فالهدف هو الغاية الواقعية.

البحث عن النهايات الجميلة غايتنا

ما هي غايتنا في هذه الدنيا؟، إلى أين نريد أن نصل؟، لابد أن نعرف، فبعض الناس لا يعرفون ولا يفهمون، لذلك يعيشون في قلق دائم، لهذا لابد على الإنسان أن يدرك كيف يصل إلى غايته، وما هو الطريق المستقيم الذي يوصله إلى هذه الغاية؟

يقول الإمام علي (عليه السلام): (الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ وَالِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وَإِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ)، فعليكم بالاستقامة على الطريق للوصول إلى غاية الإسلام، وقد ذكرنا هذا المطلب سابقا في بحث المسلم بين العبث والغاية.

الغاية مهمة جدا والوصول إليها من خلال العمل والاستقامة ورؤية العواقب ورؤية النتائج التي تسلكها في حياتك، فتصل إلى غايتك ونهايتك، فكل إنسان له نهاية، لا يمكن للإنسان أن يقول ليس لي نهاية، الكل له نهاية، فكيف تنتهي، وكيف أنتهي، وكيف ننتهي جميعا؟، لابد أن تكون نهايتنا جميلة، سعيدة، عاقبة حسنة، فالبحث عن النهايات الجميلة غايتنا من خلال السلوك المعتدل والطريق المستقيم.

إيقاف الطغيان ومنعه

كذلك من المفاهيم التي يمكن أن نستقيها من مفهوم الاستقامة والاعتدال والوسطية، هو أن طريق الاستقامة وطريق الاعتدال يؤدي إلى إيقاف الطغيان في الحياة، فنحن نبتلي ومبتلين على مر التاريخ وفي الحاضر والمستقبل بالطغيان والاستبداد والقمع والرعب، وعدم وجود الحريات، هذا الطغيان الذي يتجاوز كل الحدود، بسبب ماذا؟، بسبب الانحرافات التي تحصل في المجتمع، حيث الانحراف عن الطريق المستقيم والالتزام بأفكار وعقائد غير صحيحة.

هذه العقائد والأفكار غير الصحيحة إلى ماذا تؤدي؟، إلى نتائج غير صحيحة مثل الربا، فالربا يستخدم دائما باعتباره من القضايا والسلوكيات الاقتصادية غير السليمة وغير الصحيحة، لأنها لا تعتمد على العمل، بل تعتمد على المال فقط، وامتصاص المال من الآخرين، ولا تعتمد على الانتاج الحقيقي.

لذلك دائما يؤدي الربا إلى أزمات اقتصادية، وكل الأزمات الاقتصادية أو معظمها، العالمية منها والمحلية هي نتيجة للربا، لأن نهاية الربا نهاية غير جيدة، ذكرنا هذا كمثال.

التطرف يؤدي إلى الحروب

فالطغيان دائما هو نتيجة للعقائد المنحرفة والأفكار الاجتماعية المنحرفة، على سبيل المثال تقول الفكرة السيئة المنحرفة أنه إذا أردنا أن نحقق الأمن لابد أن نقمع الحريات، هذه طروحات غير صحيحة وغير سليمة، الإسلام هو الحرية والحرية هي الإسلام، إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مريدا مختارا، خلقه حرّا، لذلك فإن هذه الفكرة تؤدي إلى الاستبداد ثم تؤدي إلى الطغيان الشديد.

تقول الآية القرآنية الكريمة: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هود 112.

فالطغيان يعني الانحراف، ويعني تجاوز الحدود، ويعني استخدام القوة، واستخدام القدرات في إلحاق الأذى بالآخرين والتجاوز عليهم وانتهاك حقوق الآخرين، لكن الذي يسير في طريق الاستقامة والاعتدال هو الذي يواجه الطغيان، وهو الحل في مواجهة الطغيان ورفضه، لذلك نلاحظ دائما أن التطرف الذي يحدث في بعض البلدان، مثلا كان التطرف أحد الأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، واندلاع حروب أخرى فيما بعدها.

هذا التطرف الموجود في العالم وقد تجاوز الحدود، كله يؤدي إلى مهالك وإلى حروب، لأنه طغيان، كونه يؤدي إلى طغيان المال، وطغيان السياسة، وطغيان الإعلام، لذلك لابد من الاستقامة في الطريق الوسط، وعدم الانحراف يمينا أو يسارا، واتّباع منهج أهل البيت (عليهم السلام).

إن طريق الاعتدال والاستقامة يؤدي إلى ازدهار الحياة، والرفاه في الحياة، من خلال التوسّط في الأمور، أي من خلال الوسطية والاعتدال، لذلك نلاحظ ونتساءل عن الطغيان المادي اليوم، إلى أين أوصل البشر؟

لقد أوصلهم إلى كوارث شديدة، كما نلاحظ في هذا الاستهلاك الشديد، الإفراط في الاستهلاك، الإفراط في الترف، الإفراط في الماديات أدى إلى تدمير الكرة الأرضية، وتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي، وإلى استنزاف موارد الأرض وجفاف المياه وانحباس الأمطار، وإلى صعود الدخان والتلوث من خلال الصناعة الكثيفة، هذه الأمور كلها نتيجة للتطرف المادي في إنتاج السلع المادية بحثا عن الأرباح.

كيف نحقّق الازدهار المعتدل؟

لكن الإسلام يقول (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف 31، أي يجب أن تكونوا في الوسط، لذلك من أجل تحقيق الازدهار الوسطي، الازدهار الاعتدالي، الازدهار المعتدل، تقول الآية القرآنية: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) الجن 16. أي أسقيناهم ماءً كثيرا، والماء هنا يعبّر عن النِعَم الكثيرة، لأن أساس النِعَم الإلهية هو الماء.

الماء هو الذي يحرك الحياة، وهو أساس الحياة، الماء الكثير اللذيذ الوفير النقي الزلال، هو الذي يعطي الحياة ويحقق الازدهار، وبالنتيجة ينشّط الطبيعة، ويُكثِر الزرع، ويُنمي الأشجار، ويؤدي إلى الهواء العليل الطيب، ويحقق ازدهار الإنسان في حياته، ولكن هذا الماء الغدق يحتاج إلى استقامة، والسير في طريق الاعتدال، لأن عدم السير في طريق الاعتدال يؤدي إلى تجفيف الموارد الطبيعية وتدميرها.

ولكن أين هو الطريق، وما هي الطريقة التي تذكرها الآية القرآنية؟، ما هي الطريقة التي توصلنا إلى هذا الازدهار، إلى هذه الاستقامة، إلى هذا الاعتدال؟

عن الامام الباقر عليه السلام في قوله تعالى: "وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا" قال: يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من ولده عليهم السلام وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماء غدقا، يقول: لأشربنا قلوبهم الايمان، والطريقة هي الايمان بولاية علي والأوصياء)، الماء الغدق لا يعني فقط نزول النِعَم المادية، هذا شيء طبيعي، ولكن عندما تسكن في القلب، سوف تأتي القيم الطيبة، وتلك القيم الصالحة تكون برنامجا للإنسان في حياته، هذه القيم الصالحة والقيم الجيدة تكون منبعَثا وطريقا لكي يفهم الإنسان الحياة، ويسير في الطريق الصحيح السليم في حياته.

وهذه الطريقة هي من أهل البيت (عليهم السلام)، يعني (لأسقيناهم غدقا) تعني لألقينا في قلوبهم الإيمان بولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا الإيمان يجعلهم يستقون المبادئ الصحيحة في الحياة التي تقود للازدهار الحقيقي والواقعي.

الإنسان ليس غاية الرأسمالية

البشر اليوم ينحرفون، لأنهم يستقون المبادئ المنحرفة من آخرين، وهذه المبادئ مضلِّلة للإنسان، على سبيل المثال، منطق الرأسمالية يقول، إن غاية الرأسمالية (ليس الإنسان)، وإنما غاية الرأسمالية هو الربح المطلق، حتى يتحرك الاقتصاد، وينجح الاقتصاد الرأسمالي، مهما كانت الوسائل، مهما كانت الغايات، الإنسان لا يهمهم، ولا مشكلة في تدمير الإنسان، دعه يموت، وليبقَ الإنسان فقيرا، المهم عندهم هو النمو الاقتصادي والربح فقط.

لكنّ هذا التفكير فيه ضلال، فهذه مبادئ مضِلة للإنسان، لذلك تؤدي به إلى هذا التفاوت الكبير بين البشر، فهناك أغنياء جدا وهم أقليّة يتحكمون بالعالم، وهناك أكثرية مطلقة كبيرة جدا يعيشون في حالة فقر وجوع، بل هم تحت خط الفقر، وهذا هو التطرف بحد ذاته حيث يعبر عن عدم التوازن واختلال كفة الميزان.

لذلك علينا أن نفهم مبادئ أهل البيت ونعرف مبادئهم (عليهم السلام) حتى نسير في الطريق المعتدل الوسطي.

هذا هو معنى الغدق (لأسقيناهم ماءً غدقا) أي لأدخلنا في القلوب القيم الصالحة، العمل الصالح، الفهم الجيد، الوعي، الإدراك، الأخلاق الجيدة التي تدفع بالإنسان كي يسير في الطريق المعتدل الوسطي.

الفرق بين النجاح والفلاح

ومن المعطيات المنبثقة من الطريق المستقيم، أو من الاستقامة والاعتدال أيضا، هو النجاح في الحياة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن تستقيموا تفلحوا) والفلاح أكبر من النجاح، فالنجاح يقتصر أمره على الظفر بالشيء وإدراكِه، أما الفلاح فهو الفوز والنجاة والبقاء في الخير، الفلاح فيه الحصاد الكثير المستدام الباقي الدائم، وأي إنسان كان إذا أراد أن يسير ويحقق النجاح، لابد له أن يسير في الطريق المستقيم، وأن لا ينحرف يمينا وشمالا حتى يحقق الفلاح التام.

المنافقون يخسرون وإن ربحوا مؤقّتًا

عليه أن لا يكذب، لا يخون، لا ينافق، فهؤلاء الذين يسلكون طريق الكذب والانتهازية والنفاق في الحياة، هؤلاء بالنتيجة سوف يخسرون وإن ربحوا مؤقتا. لكنهم يخسرون في النهاية وتكون عاقبتهم سيئة.

نذكر هنا المثال التالي، قد يكون هناك إنسان يمتلك الأموال ودون دراسة مسبقة وبتفريط وتعجل يدخل في أحد المشاريع دون أن تكون لديه دراسة وتخطيط وعلم وفهم واستشارة عن هذا المشروع، ولا يفهم موازين السوق، ويدخل في عمل تجاري بسرعة كبيرة، فيخسر أمواله، والسبب هو الانحراف عن الموازين الطبيعية.

لذلك كان لابد أن يفهم الأمور الخاصة بمشروعه التجاري ويخطط له، ويسير من خلال الطرق الموجودة في عالم الأسباب والمسبّبات، فيكون معتدلا في تفكيره. لا يخاف كثيرا، ولا يرجو كثيرا، فيكون سلوكه معتدلا ويحقق النجاح، وهذا يؤكد بأن طريق النجاح هو طريق الاعتدال، وطريق الاستقامة في الجوانب المختلفة في الحياة التي يمكن أن تتحقق من خلال الاستقامة.

كذلك من المعطيات التي تنبثق من الاستقامة في مفهوم الاعتدال، هو تحقيق الأمن والاستقرار، لأن الاعتدال يعني الأمان والسلامة والصحة والعافية، والانحراف هو المرض والفوضى، وهذا ما سوف نستكمله لاحقا، حيث نعرف كيف يرتبط معنى الاستقامة بالاستقرار.

وللبحث تتمة...

* سلسلة محاضرات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق