إن السياسة التشريعية هي مكنة وفن تحديد الاهداف التي يجب أن يحققها القانون وهذا يتطلب فهم وإدراك الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في المجتمع ووضع خطة أو سياسة لتبديل أو تنظيم هذا الواقع، وبمعنى آخر ان السياسة التشريعية تعكس الفلسفة التي تحكم عملية التشريع بدأً من اتخاذ القرار لمعالجة موضوع...
كما معروف إن السياسة التشريعية هي مكنة وفن تحديد الاهداف التي يجب أن يحققها القانون وهذا يتطلب فهم وإدراك الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في المجتمع ووضع خطة أو سياسة لتبديل أو تنظيم هذا الواقع، وبمعنى آخر ان السياسة التشريعية تعكس الفلسفة التي تحكم عملية التشريع بدأً من اتخاذ القرار لمعالجة موضوع أو قضية ما عن طريق التشريع ومروراً بجمع المعلومات ودراسة الواقع وتحديد البدائل والأوليات الخاصة بالمجتمع وانتهاءً بترجمة مبادئ السياسة إلى نصوص قانونية واصدارها بالطرق المحددة حيث يبدأ دور الصائغون في ضبط هذه الافكار في عبارات محكمة وموجزة وسليمة قابلة للتنفيذ، وبالتالي فأن غياب السياسة التشريعية يعني انعدام مكنة تحديد الاهداف بدقة التي يجب أن يحققها القانون وصعوبة بلورة مبادئ السياسة في قوالب قانونية، إذ أن الصياغة التشريعية كعملية فنية تتأثر تأثراً كبيراً بالمعطيات السياسية التي تفرز منهاجاً تشريعياً يتقيد به الصائغون، فالمنهج التشريعي.
طبيعة النظام
يختلف تبعاً لطبيعة النظام السياسي والمبادئ التي يعتنقها ويتأثر بدرجة كبيرة فيما إذا كان نظاماً دكتاتورياً (سلطوياً) أو نظاماً ديمقراطياً، فالمنهج التشريعي في ظل النظام السلطوي، يعكس مركزية التشريعات الصادرة عن السلطة التنفيذية (الحاكم) ويهمش دور المجالس النيابية، وفي الغالب تعكس تشريعات الحاكم سياسة ومبادئ الحزب الواحد وهنا يكون دور البرلمان شكلياً ومؤسسة تابعة وبالتالي لا يمكن للبرلمان في ظل هذا الوضع إدراك الواقع بمنظوره وتحديد الاهداف التي يجب أن يحققها القانون، لأن القانون في هذه الحالة يعكس رؤية السلطة الحاكمة التي تسعى إلى تحقيقها وفقاً لمنظورها للواقع ما هو كائن وما يجب أن يكون.
حيث يقتصر دور المشرع في الأنظمة السلطوية على وضع إطار قانوني لما تراه هذه السلطة ملائماً ومناسباً حتى وإن كان هذا التشريع منفصماً عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ففي الأنظمة السلطوية يمكن أن نشهد غياب المنهج التشريعي المنبثق من الواقع وبالمقابل فإن التوجه السلطوي يفرض منهجاً سلطوياً وهذا بدوره يفرز صياغة سلطوية للتشريعات تجعل من عملية الحَوْكَمَة التشريعية أمراً متعذراً أو شبه مستحيل.
بمعنى آخر يمكن القول أن الأنظمة المركزية أو السلطوية يمكن أن تضع سياسة تشريعية ولكن هذه السياسة ليس من اللازم أن تتطابق مع الواقع بقدر ما هي متطابقة مع منهج هذا النظام السياسي ومبادئه، وهي في الغالب تميل إلى الصرامة والثبات لكونها قد صنعت في أروقة السلطة المركزية، وعندما تدفع هذه الاخيرة بمشروع قانون إلى البرلمان لن تجد قوى فاعلة لتغييره أو اجراء التعديل عليه وهذا خلاف ما يحدث في الأنظمة الديمقراطية التي ترتكز على برلمانات مستقلة تستطيع انتقاد مشروع القانون الذي قدمته الحكومة سواء اكان ذلك مباشرة أو عن طريق نواب الحزب الحاكم وتسعى إلى التغيير فيه ليكون متوائماً مع الواقع وحاجات المجتمع أو الفئات المستهدفة منه مع امكانية ودور اكبر في إعادة الصياغة.
وكذلك من المهم الاشارة أن إلى غياب المنهج التشريعي الواقعي لا يعني بالضرورة رداءة الصياغة التشريعية فليس هناك تلازم بين ديمقراطية النظام من ناحية وضعف جودة الصياغة من ناحية أخرى، إلاّ أن المنطق يحتم أن البرلمانات المستقلة في الأنظمة الديمقراطية أقرب إلى افراز صياغة تشريعية جيدة تتوافق مع مبادئ الحكم الرشيد، إلاّ أن ذلك لا يعني ان القوانين التي تصدرها الأنظمة السلطوية وإن كانت تمثل رؤيا السلطة الحاكمة ان تكون رديئة الصياغة، فالصياغة عملية فنية كما بينا في حين أن التشريع قرار سياسي.
كذلك نلحظ في الأنظمة الديمقراطية ان البرلمانات تتسم بدرجة عالية من المؤسسية القادرة على تقييد الحكومات والمبادرة التشريعية الحكومية وهذا يعكس أهمية الحَوْكَمَة المؤسسية كأحد خيارات أو استراتيجيات الحَوْكَمَة التشريعية حيث يرى الخبير (فيليب نورتون) أن شروط مؤسسية البرلمان هي التنظيمات المفصلة داخل البرلمان التي تترابط فيما بينها تحت مظلة البرلمان، وثم استقلال البرلمان ككيان مستقل عن المؤسسات الأخرى.
منهج تشريعي
وثم تكيف البرلمان، أي التكيف تجاه البيئة السياسية والدستورية الكائن بها، إن غياب المنهج التشريعي الواقعي من شأنه أن يفرز قوانين ميتة ويضرب ديفيد تروبك (Divid M. trabek) ثلاً واقعياً عندما يصف اخفاق القوانين في حل المعضلات الاجتماعية الواقعية بكونها (قوانين ميتة) وهذا يستدعي مراجعتها في ضوء المبادئ العامة لنظرية القانون، فكل تشريع لا يصدر بهدف التنظيم الاجتماعي إنما هو عبثاً، وان القوانين التي تحمل في طياتها احكاماً تتعارض بعضها مع البعض الاخر أو لا تنظم أوضاعاً قانونية ملحة هي قوانين عمياء (Blind Laws) فغياب المنهج التشريعي الواقعي يؤدي بالنتيجة إلى مجرد (وجود تشريعي) فوجود التشريعات في الحياة الاجتماعية غير كافي لمعالجة المشاكل ما لم ينبثق هذا الوجود من دراسة واقعية للبيئة التشريعية.
فما قيمة التشريع الذي يصدر وفقاً للقواعد والاجراءات التي رسمها الدستور إذا لم يكن هذا التشريع قابلاً للتطبيق فقد تصدر بعض التشريعات إلاّ أنها تموت بعدم التطبيق أما بسبب تعارضها مع الاعراف السائدة والعادات المجتمعية، أو بسبب نزوع الناس لتجاهل هذا القانون أو التهرب منه ومخالفته لأنه لا يعبر عن مصالحهم الحقيقية وهذا ما يعرّفه فقهاء القانون (باغتراب التشريع)، أي عدم واقعيته، لذا ندعو البرلمان الجديد الى ضرورة تبني سياسيات ومناهج تشريعــــــية واقعية ، فالعبرة ليس بوجود القوانين فقط وانما بواقعيتها… والله ولي التوفيق.
اضف تعليق