إن القرار الأخير للمحكمة تراجع عما ذهب إليه في قراره التفسيري الأول من خلال اغتنام طلب التفسير الثاني لإعادة تفسير مضمون الطلبين، والخلاصة التي توصلت إليها المحكمة أن رئيس مجلس الوزراء لا يمارس الاختصاص الانضباطي فيما يتعلق بتشكيل اللجان وفرض العقوبات الانضباطية كون الاختصاص المذكور معقوداً للرئيس الإداري المباشر...

من المعروف أن النظام التأديبي (الانضباطي) في العراق أخذ بما يعرف بسلطة التأديب الرئاسية، من خلال إعطاء الرئيس الإداري صلاحيات انضباطية واسعة بموجب قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل لضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد، ولضمان حسن الأداء الوظيفي، وهو بذلك -أي القانون- قد غلب مبدأ فاعلية الإدارة على ضمانات الموظف، حتى إنه سمح للرئيس الإداري فرض بعض العقوبات الانضباطية بدون تشكيل لجان تحقيقية التي تعد من أهم الضمانات المقررة للموظف قبل فرض العقوبة الانضباطية عليه، والاكتفاء باستجواب الموظف قبل فرضها، وهذا يعكس اعتناق المشرع لفكرة المركزية في العمل الإداري وفكرة التدرج الوظيفي التي تعني خضوع الموظف الأدنى للموظف الأعلى، وأن مثل هذا الخضوع يتطلب أن يكون للرئيس الأعلى صلاحيات ضبطية لضمان تنفيذ الأوامر والقرارات والتوجيهات.

ومع إقرار دستور جمهورية العراق لسنة 2005، تضمنت المادة (78) منه الواردة ضمن الفصل الثاني الخاص بالسلطة التنفيذية التعريف برئيس مجلس الوزراء، حيث نصت على: (رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، يقوم بإدارة مجلس الوزراء، ويترأس اجتماعاته، وله الحق بإقالة الوزراء بموافقة مجلس النواب)، كما أشارت المادة (80) منه إلى صلاحيات مجلس الوزراء ومنها ما ورد في الفقرة (أولاً) المتعلقة بتخطيط وتنفيذ السياسات العامة للدولة والخطط العامة والإشراف على عمل الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة.

هيئة اعتبارية

والملاحظ أن النصوص المذكورة لم تخول رئيس الوزراء أية صلاحيات، وإنما وردت لمجلس الوزراء الذي يمثل هيئة اعتبارية منحها الدستور صلاحيات يتم ممارستها من خلال أعضائها، كما لم يرد ضمن هذه الصلاحيات تخويل مجلس الوزراء بفرض عقوبات انضباطية أو تشكيل لجان تحقيقية خارج النصوص الواردة في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام آنف الذكر. وقد كان نص المادة (78) من الدستور محلاً لطلب التفسير من المحكمة الاتحادية العليا استناداً للمادة (93/ ثانياً) من الدستور، وقد أصدرت المذكورة قرارين في فترة زمنية متقاربة، سنتناولهما مع التعليق فيما يأتي:

أولاً: القرار التفسيري بالعدد (267/ اتحادية/ 2024) في 10/2/2025: والذي تتلخص وقائعه بقيام رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني من خلال مكتبه بمفاتحة المحكمة الاتحادية العليا طالباً تفسير المادة (78) من الدستور وبيان إن كان من مقتضى المادة المذكورة تمكين المسؤول التنفيذي المباشر للسياسات العامة من أسباب إدارة الجهاز التنفيذي للدولة، ومن متطلبات ذلك أن يكون لرئيس مجلس الوزراء سلطة تقديرية مناسبة في مساءلة موظفي الدولة انضباطياً دون التقيد بانتمائهم لوزارة معينة، فضلاً عن تشكيل لجان تحقيقية بحقهم، بالإشارة للمادة (14) من القانون التي منحت رئيس مجلس الوزراء أو الوزير أو رئيس الدائرة غير المرتبطة بوزارة فرض إحدى العقوبات التالية على الموظف التابع لوزارته أو دائرته والمشمول بأحكام هذا القانون.

صلاحيات انضباطية

وقد خلصت المحكمة الاتحادية العليا إلى أن لرئيس الوزراء صلاحيات انضباطية فيما يتعلق بفرض العقوبات الانضباطية أو تشكيل اللجان التحقيقية على الموظفين دون التقيد بانتمائهم لوزارة معينة، حيث جاء في حيثيات القرار المذكور: (... تجد المحكمة الاتحادية العليا أنه مما لا شك فيه أن متابعة عمل الوزارات والدوائر التابعة للسلطة التنفيذية يدخل ضمن هذا المفهوم. ويستوجب أن يكون لرئيس مجلس الوزراء الصلاحيات التي تخوله تقويم العمل وإثابة الموظفين الجيدين ومعاقبة الموظفين المخالفين لأحكام القوانين وواجباتهم الوظيفية، وأن ذلك يستدعي أن تكون له صلاحية فرض العقوبات الانضباطية بعد تشكيل اللجان التحقيقية وإبداء رأيها في ذلك بغية الحفاظ على حق الموظف الذي تفرض عليه العقوبة بالدفاع عن نفسه وحقه في أن يسلك طرق الطعن المقررة قانوناً بقرار فرض العقوبة بحقه، وهذا ما يؤيده ما ورد في المادة (80) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي منحت رئيس مجلس الوزراء اختصاص الإشراف على عمل الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة، وصدر القرار بالاتفاق باتاً...).

ولنا على القرار المذكور التعليق الآتي:

1. وفقاً لقاعدة (من يملك الكل يملك الجزء)، يفترض فيمن يملك الصلاحيات الإدارية العليا أن يملك أدواتها ووسائلها ومنها الصلاحيات الانضباطية، إلا أن المادة (80) من الدستور التي استندت إليها المحكمة في تفسيرها تتعلق بصلاحيات مجلس الوزراء وليس شخص رئيس الوزراء كما ورد بالقرار، وأن مجلس الوزراء يمارس هذه الصلاحيات كهيئة ولا تنحصر أو تتركز برئيس الوزراء، كما لم نجد ضمن هذه الصلاحيات ما يشير إلى مكنة تفويضها لرئيس المجلس، وبالتالي فإن الإشراف على عمل الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة من اختصاص المجلس وليس رئيس المجلس، وأن رئيس الوزراء يمكنه متابعة عمل الوزارات من خلال وزرائه، وهذا ما نصت عليه المادة (15) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم (2) لسنة 2019 المعدل التي نصت على أن: (يقوم الرئيس بتوجيه نوابه والوزراء ومن هم بدرجة وزير ورؤساء الجهات غير المرتبطة بوزارة ومتابعة أدائهم ويتابع حسن عمل الوزارات وينسق بينها)، وبالتالي نرى إمكانية قيام رئيس الوزراء بمتابعة عمل الوزارات من خلال توجيه الوزراء لمباشرة صلاحياتهم الانضباطية.

2. إن تفسير المحكمة الذي يذهب إلى منح رئيس الوزراء صلاحية فرض العقوبات الانضباطية وتشكيل اللجان التحقيقية للموظفين خارج نطاق دائرته وبغض النظر عن انتماء الموظفين لوزارة معينة يصطدم مع نصوص قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل وتحديداً المادة (14/ ثانياً) منه التي نصت على أن: (لرئيس مجلس الوزراء أو الوزير أو رئيس الدائرة غير المرتبطة بوزارة فرض إحدى العقوبات التالية على الموظف التابع لوزارته أو دائرته والمشمول بأحكام هذا القانون)، ووفقاً للنص المذكور لا يملك رئيس الوزراء معاقبة موظف خارج نطاق مجلس الوزراء، وأن القول بخلاف ذلك يقتضي اتخاذ تدابير تشريعية لتعديل النص المذكور، كما أن المادة (12/ ثانياً) من القانون خولت مجلس الوزراء فرض العقوبات الانضباطية على المدير العام إذا ظهر للوزير من خلال التحقيق أنه ارتكب فعلاً يستدعي عقوبة أشد مما هو مخول به، وألزم القانون الوزير بعرض الأمر على مجلس الوزراء متضمناً الاقتراح بفرض العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون، إذ نجد حتى فرض العقوبات الانضباطية الأشد على المدير العام والتي تقع خارج نطاق صلاحيات الوزير الانضباطية هي من اختصاص مجلس الوزراء وليس رئيس الوزراء، وهذا يتطلب -كما أشرنا- تدخلاً ومراجعة تشريعية للقانون لتكون متوائمة مع نصوص دستور 2005.

3. كنا نأمل من المحكمة أن تكشف عن هذا القصور التشريعي في عدم مواءمة نصوص القانون مع دور رئيس الوزراء في ظل دستور 2005، وأن تضمن حكمها فقرة إيعازية لمجلس النواب لتعديل القانون وإعادة التوازن بينه وبين نصوص الدستور.

4. أشار القرار إلى ضمانات الموظف في فرض العقوبات الانضباطية منها التحقيق الإداري وحق الدفاع سواء في مرحلة التحقيق الإداري أو ما بعد فرض العقوبة من خلال حق الموظف الذي فرضت عليه العقوبة باللجوء إلى الطعن أمام المحكمة المختصة بعد التظلم منها، كما تضمن القرار الإشارة إلى مبدأ الثواب والعقاب في تقويم السلوك الوظيفي.

ثانياً: القرار التفسيري بالعدد (225/ اتحادية/ 2025) في 24/12/2025: حيث أعاد وزير الصناعة والمعادن السيد خالد بتال نجم توجيه طلب إلى المحكمة الاتحادية العليا لتفسير نص المادة (78) من الدستور، ويبدو أن الوزير المذكور لم يطلع على تفسير المحكمة السابق للمادة المذكورة، ولنا على القرار المذكور الملاحظات الآتية:

1. أكدت المحكمة على مضمون قرارها التفسيري السابق حيث جاء في حيثيات القرار: (... رأت المحكمة في حينها أن أحكام المادة (14/ ثانياً) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل وما ورد فيها من تخويل لرئيس مجلس الوزراء بفرض عقوبات انضباطية محدودة لا ينحصر بالموظفين العاملين في التشكيلات الإدارية التابعة لمجلس الوزراء حصراً، بل يمتد عند الضرورة التي تقتضيها استمرارية المرافق العامة بانتظام واطراد إلى موظفي الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة استناداً للولاية التنفيذية التي منحها الدستور لرئيس مجلس الوزراء بموجب أحكام المادتين (78 و80) من الدستور...)، حيث نجد أن المحكمة أكدت تفسيرها السابق لكنها أضفت عليه تسبيباً جديداً منطلقة من نظرية الضرورة لتسيير المرافق العامة بانتظام واطراد، وأن المفهوم المخالف يعني أن لا يمارس رئيس الوزراء مثل هذه الصلاحيات إذا انعدمت حالة الضرورة، وهنا نتساءل: ما هو دور الوزراء ووكلائهم في تسيير المرافق العامة؟

2. خففت المحكمة من صرامة رأيها التفسيري الأول بالقول: (إن تفسير المحكمة آنفاً لا يمكن حمله على النحو الذي يؤدي إلى تجريد الوزراء ورؤساء الجهات غير المرتبطة بوزارة من صلاحياتهم الأصلية في إدارة شؤون وزاراتهم والإشراف عليها وإدارة شؤون موظفيهم الثابتة بنصوص قانونية نافذة، ولا إلى تقرير ولاية مباشرة لرئيس مجلس الوزراء على جميع موظفي الدولة على نحو يمس مبدأ التدرج الإداري والاختصاص النوعي للرئيس الإداري المباشر، إذ إن سلطة الرئيس الأعلى في المفهوم الإداري لا تعني حلولاً شاملاً محل الرئيس الأدنى بل تعني في نطاقها الطبيعي سلطة الإشراف والتوجيه وضمان سلامة الأداء...)، وهنا نجد أن المحكمة تقر بأن الاختصاص الأصيل معقود للرئيس الإداري وأن مثل هذا التخويل يمس مبدأ التدرج الإداري ومبدأ التخصص وعدم جواز حلول الرئيس الأعلى محل الرئيس الأدنى، وبررت تفسيرها بأن ممارسة رئيس الوزراء لهذه الولاية الانضباطية على كافة موظفي الدولة استناداً لحق الإشراف والتوجيه، والحقيقة أن الإشراف أو التوجيه أو الإجازة اللاحقة أو التعقيب أو المصادقة من مرجع أعلى كلها أساليب مستقرة في العمل الإداري لكنها تستند لنصوص قانونية وأحياناً لأعراف إدارية، فالقرارات الإدارية ليست جميعها تحتاج لمصادقة جهة أعلى لتكتسب شكلها النهائي.

3. أعادت المحكمة في قرارها الثاني تفسير قرارها التفسيري الأول وأنكرت على رئيس الوزراء ممارسة الاختصاص الانضباطي مباشرة من قبله وإنما يتم بواسطة وزرائه، حيث جاء في حيثيات قرارها: (... لذا فإن ما ورد بالقرار التفسيري الصادر من هذه المحكمة هو أن يمارس رئيس الوزراء دوره الانضباطي تجاه موظفي الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة من خلال الطلب من الوزير المختص أو رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة بتشكيل لجنة تحقيقية تتولى التحقيق مع الموظف المحال عما نسب إليه من مخالفات تتعلق بالوظيفة، ويكون لرئيس الوزراء متابعة سلامة الإجراءات وضمان خضوعها للقانون دون أن يحل محل الرئيس الإداري المباشر في تشكيل اللجان التحقيقية أو فرض العقوبات الانضباطية بحق الموظف...)، ووفقاً لما تقدم استخدم القرار عبارة (دوره الانضباطي) ولم يشر إلى (صلاحياته الانضباطية) بعد أن قرنت هذا الدور بسلطة الإشراف والمتابعة من خلال الطلب إلى صاحب الاختصاص الأصيل باتخاذ الإجراءات الانضباطية فيما يتعلق بتشكيل اللجان التحقيقية أو فرض العقوبات الانضباطية، وهذا التفسير أعادنا إلى الحالة الأولى وهي أن رئيس مجلس الوزراء لا يملك الصلاحية الانضباطية بموجب نصوص قانون الانضباط النافذة لكن هذا لا يمنع مؤكداً من الإشراف أو المتابعة مع صاحب الاختصاص وهو الوزير أو رئيس الدائرة.

خلاصة ما تقدم: يمكن القول إن القرار الأخير للمحكمة تراجع عما ذهب إليه في قراره التفسيري الأول من خلال اغتنام طلب التفسير الثاني لإعادة تفسير مضمون الطلبين، والخلاصة التي توصلت إليها المحكمة أن رئيس مجلس الوزراء لا يمارس الاختصاص الانضباطي فيما يتعلق بتشكيل اللجان وفرض العقوبات الانضباطية كون الاختصاص المذكور معقوداً للرئيس الإداري المباشر، ولا يباشر رئيس الوزراء الدور الانضباطي إلا من خلال الطلب من الرئيس الإداري المباشر وبما يحفظ مبدأ الاختصاص ويحقق الانسجام بين الدستور والقانون... والله ولي التوفيق.

اضف تعليق