المجتمع القادر على بناء مواطنة حقيقية، هو ذلك المجتمع الذي يتكون من مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر، ويتحلون بقيم التسامح واحترام التعدد والتنوع وحقوق الإنسان، ويعملون معاً لتوطيد أركان الفهم والتفاهم، والتلاقي والتعاون. ولا شكَّ أن هذه المفاهيم هي من أبرز الركائز الأساسية لبناء دولة المؤسسات في العصر الحديث...
من أبرز المواضيع المثيرة والحساسة التي كثر الحديث عنها في الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية، بعد عملية التغيير التي شهدتها البلاء هي موضوعة الهوية الوطنية، وقد يبرز الحديث عن الهويات عادة في المنعطفات الخطرة والحرجة للأمم والقويات والشعوب.
وليس غريباً أن يكون المجتمع العراقي في مقدمة المجتمعات، التي تعيش تحدياتٍ كبرى في صراع الهوية، في ظل التقلبات الكبرى التي شهدها عبر تاريخه الطويل. ويبدو أن الطرح الجاد لهذه القضية لا بد أن يبدأ من الأسئلة التفصيلية الصغيرة والتي بإمكانها أن تشكل في مجملها مفهوما أو نواة لتكوين مفهوم حول الهوية الوطنية.
إلا أن هذا التصور بالذات، ليس مطروحا للتناول النقدي بشكل حر وصريح وشفاف، وتحكمه عقد وموانع تاريخية عديدة، وهذا الأمر بالتأكيد لا يُسهم في خلق مفهوم للهوية الوطنية يمكن ترجمته على الأرض، وبالتالي لا يمكن تحقيق أي إنجاز نوعي في خلق هوية وطنية دون إخضاع المسألة للنقد الحر والمسؤول، وبدون ذلك ستكون الأمور ضبابية وغير محسومة، ويمكن أن تنفرط عند أول تحد حقيقي.
ومن الواضح أننا نعيش في عالم بالغ التعقيد، ولا يمكن لنا أن نكون عفويين في التعامل معه أو النظر إليه، وإذا كان هذا العالم يمضي بأسرع مما نستوعب، فذلك لأنه صاغ أسئلته وحدد اتجاهاته بشكل أكثر دقة مما نفعل نحن اليوم.
ولعل من بين أهم المفاهيم التي لم تُحسم في تاريخ العراق الحديث والمعاصر هو مفهوم المواطنة، وكيفية تحديد الهوية، وهذا الأمر لا شك يرجع إلى جملة من العوامل والمبررات، ومن بين هذه العوامل والمبررات هي تلك التشويهات السياسية، والفكرية، والثقافية، المتعاقبة التي أحاطت بهذا المفهوم، وكذلك لطبيعة النظام السياسي، ولا سيما الحكم الأحادي الذي يؤسس لثقافة سلبية ترمي هنا وهناك تناقضاتها وانفعالاتها، مما تسبب في مسخ وتغيير مفهوم المواطنة، حتى أصبح تارةً يتماهى مع النظام السياسي، وتارةً أخرى يعني المؤسسة التنفيذية أو المؤسسة الحزبية.
إن المواطنة كمفهوم يحتل موقعاً مركزياً في الفكر القانوني والدستوري المعاصر، بما تشكل من شخصية إعتبارية لها حقوق وواجبات، وهي أحد الأعمدة الرئيسة للنظريات الدستورية والسياسية المعاصرة، حيث يعتمد الفكر السياسي الحديث في البناء القانوني للوطن على هذا المفهوم ويحدد له جملة من الإجراءات والاعتبارات.
لذلك فإننا نعتقد أن تطوير واقعنا السياسي والقانوني اليوم، مرهون إلى حدٍ بعيد على قدرتنا على المستويين النظري والعملي لبلورة هذا المفهوم، وتوفير المناخ السياسي والقانوني والثقافي، لكي يتبلور هذا المفهوم كحقوق وواجبات في الفضاء الاجتماعي والوطني.
ومن الطبيعي القول في هذا الإطار، إن الواقع الذي نعشيه اليوم، لا يمكن أن يخرج من أزماته وتوتراته الداخلية، إلا بإعادة الاعتبار في السياسات والإجراءات والتشكيلات إلى مفهوم المواطنة، والعمل على صياغة فضاء وطني جديد، قوامه الأساس ومرتكزه الرئيس هو المواطنة بصرف النظر عن المنابت الأيديولوجية أو القومية أو العرقية.
إذ إن التنوع المتوفر في هذا الفضاء بعناوين متعددة ومختلفة، لا يمكن أن يتوحد في الفضاء الوطني، إلا بمواطنة حقيقية، يمارس كل مواطن حقه ويلتزم بواجبه بدون مواربة، فالمواطنة بكل ما تحتضن من متطلبات وآليات هي حجر الأساس في مشروع البناء الوطني الجديد.
من هنا فإن الخطوة الأولى في مشروع الحل والإصلاح هي تأسيس العلاقة بين مكونات المجتمع والدولة على أسس وطنية تتجاوز كل الأطر والعناوين الضيقة، بحيث يكون الجامع العام لكل المكونات والتعبيرات والأطياف هو المواطنة، التي لا تعني فقط جملة الحقوق والمكاسب الوطنية المتوخاة، وانما تعني أيضاً جملة الواجبات والمسؤوليات العامة الملقاة على عاتق كل مواطن، وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن تكون رابطة المواطنة رابطة قسرية قهرية، وإنما هي رابطة طوعية اختيارية قائمة على الاختيار الحر والتعايش السلمي بين جميع المكونات.
وتأخذ هذه الرابطة فعالياتها وقدسيتها من طبيعة العقد الوطني والمضامين السياسية، والثقافية، الاجتماعية، التي يتضمنها ويحتضنها، فليس من شروط المواطنة الاتفاق في الرأي، او الاشتراك في الدين، أو المذهب، أو القومية.
إن مفهوم المواطنة يستوعب كل هذه التعدديات والتنوعات، ويجعل المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي مؤاتياً لكي تمارس كل هذه التعدديات دورها ووظيفتها الحضارية والوطنية في إثراء الواقع الوطني ومده بأسباب الاستقرار والانسجام الاجتماعي.
وبهذا المنظور تتجلى حقيقة لا لبس فيها وهي، أن المواطنة ليست شعاراً مجرداً عن حقائق ووقائع الحياة، وإنما هي منظومة قيمية وإدارية وسياسية، تتجه بكل إمكاناتها لمنح المواطن كل حقوقه، وتحفزه للالتزام بكل واجباته ومسؤولياته.
إن تطوير نظام العلاقات الاجتماعية والثقافية بين جميع مكونات المجتمع، من أهم الشروط والروافد، التي تُفضي إلى إرساء مبدأ المواطنة في واقعنا بكل مستوياته.
إذ إن أي نزعة إقصائية أو عدائية، ستسهم في هدم الكثير من العناصر المشتركة، التي تجمع بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد. لذلك من الضروري أن نولي جميعاً اهتماماً فائقاً بنظام العلاقات والتواصل بين مكونات المجتمع، والعمل على تنقيته من كل عناصر الاقصاء والتهميش وسوء الظن، وغياب أشكال الاحترام المتبادل.
فالمجتمع القادر على بناء مواطنة حقيقية، هو ذلك المجتمع الذي يتكون من مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر، ويتحلون بقيم التسامح واحترام التعدد والتنوع وحقوق الإنسان، ويعملون معاً لتوطيد أركان الفهم والتفاهم، والتلاقي والتعاون. ولا شكَّ أن هذه المفاهيم هي من أبرز الركائز الأساسية لبناء دولة المؤسسات في العصر الحديث.
.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
اضف تعليق