كان الشاعر والفنان محمد زمان هو ربان السفينة وقائدها في كربلاء، وذلك من حيث التوجيه والجانب التأليفي والفني والتمويل وما شابه، ويكفي أنه هو الممول الوحيد لتشييد قاعة حقي الشبلي التي احتضنت اعمالا مسرحية مهمة لعدد من الادباء والفنانين الشباب في حينها بعيدا عن التدخل الحكومي او التجيير السياسي...
إلى روح الكبير محمد زمان*...
بهدوئه المتفرّد وصبره الكبير غادرَنا المبدع الكبير محمد زمان الى رحاب الله، وهو الذي عاصر أجيالا أدبية وثقافية متعاقبة من أدباء وكتاب محافظة كربلاء، وهي المدينة التي لم تكن خاملة او بعيدة عمّا يدور في العراق او العالم من تطور وانتقال متسارع الى الحداثة، فقد كانت هذه المدينة زاخرة بالطاقات المخضرمة والشبابية التي التقت مع بعضها وتفاعلت في جهودها وقدراتها ومواهبها، فأنتجت حركة فنية ثقافية يُشار لها بالبنان، ليس من لدن أبنائها فحسب وإنما جميع المنصفين من النقاد والمؤرخين والمعنيين يذكرون لكربلاء تميّزها في حقول الفن والادب لاسيما المسرح، حيث كانت تزخر بأعمال مسرحية وحركة فنية قلما تجد لها نظيرا في محافظات العراق الاخرى، وكانت كربلاء تزخر بشخصيات مبدعة أعطت للإبداع الادبي والفني كل ما تملكه من موهبة وطاقة على التجديد والتواصل مع المتغيرات التي تتسارع على مستوى العالم أجمع.
ربّان السفينة الأدبية محمد زمان
كان الشاعر والفنان محمد زمان هو ربان السفينة وقائدها في كربلاء، وذلك من حيث التوجيه والجانب التأليفي والفني والتمويل وما شابه، ويكفي أنه هو الممول الوحيد لتشييد قاعة حقي الشبلي التي احتضنت اعمالا مسرحية مهمة لعدد من الادباء والفنانين الشباب في حينها بعيدا عن التدخل الحكومي او التجيير السياسي الذي تخلص منه الشباب بتمويل محمد زمان لأنشطتهم المسرحية.
وقد زخرت محافظة كربلاء بفنانين وشعراء لا يمكن أن تنساهم الذاكرة الكربلائية، خاصة انهم كانوا متعاونين في رفع اسم كربلاء عاليا من خلال سمة التكاتف والتحاب والتشارك في تقديم الاماسي والاعمال الفنية المختلفة، ولن انسى نشاط بعض الفنانين التشكيليين الذي احتضنه وقدمه المركز الاعلامي آنذاك، ومن هؤلاء الفنانين النشطين، الفنان ثائر الكركوشي والفنان فاضل نعمة الذي عبر حاجز المحلية من كربلاء الى محافظات العراق كافة ثم العالم العربي والآن هو رسام معروف في الغربة بأوربا، كذلك لدينا الفنانة نضال الوكيل التي تألقت فنيا في تلك المرحلة على الرغم من ضعف الامكانات الاعلامية آنذاك، وغير هؤلاء مما لا تتمكن الذاكرة على استعادة حضورهم آنذاك.
بعد ذلك نشط الادباء في كربلاء فأقيم منتدى الادباء الشباب، وأقيمت لجنة تحضيرية لتشكيل اتحاد الادباء وتطور النشاط الثقافي في كربلاء وتواصل بجدية على الرغم من المعوقات السياسية ومعوقات التمويل وغيرها، فتبلورت كوكبة من الادباء والفنانين الكربلائيين الذين أثبتوا حضورهم الرائع على مستوى العراق والوطن العربي من خلال تواصلهم حتى لحظة كتابة هذه السطور بالعطاء الادبي والفني، كما هو الحال مع الادباء الشباب ومن سبقوهم ايضا، كذلك مع الفنانين علي الشيباني وكفاح وتوت وجاسم ابو فياض ورحيم رباط ومحمد الموسوي وجمال الطائي وفريد زيدان وغيرهم مما لا يسع المجال لذكرهم.
وهنا لابد أن أخصص وقفة خاصة لاحد أعمدة كربلاء الثقافية والفنية، وهو علم عال لا يمكن ان يغيب عن ذاكرة الثقافة في كربلاء، ألا وهو الاستاذ والفنان والشاعر والمؤلف والمعرّب المسرحي محمد زمان، هكذا أسوق هذا الكلام وأنا أتفحص بذاكرتي وبصري معا، جسدا عنيدا تلبَّسته روح عظيمة وقد استحال الآن الى كومة عظام لا تتمكن من مجاراة روحها، ذلك هو محمد زمان الفنان والشاعر والانسان الكبير، ولن تكون عاطفتي هي مصدر هذه الكلمات وهذه السطور قط، نعم أنا أحب محمد زمان وأخشع بل وأركع أمامه كأي عملاق قارع نكد الحياة بصبر لا يضاهيه سوى صبر الأنبياء، فلقد قفز ذات يوم وهو في العشرين من علو الى أعماق نهر الحسينية وهو النهر الوحيد في كربلاء ليصطدم رأسه برأس سابح آخر كان غاطسا تحت سطح الماء وبغتة يغدو جسد الشاب محمد زمان كتلة لحم وعظام مشلولة لا تقوى على الحركة وظل هذا الجسد الخرافي يعاني حالة الشلل ثلاثة عقود وأكثر والى لحظة كتابة هذه السطور، والآن يتذكر ادباء كربلاء ومنهم (حسن النواب /أياد الزاملي/ علاوي كاظم كشيش/ ماجد الوجداني/ صلاح الحيثاني/ باسم فرات/ كريم جواد/ هاشم معتوق/ فاضل عزيز فرمان/ حميد حداد/ عقيل أبو غريب/ خالد الخفاجي/ حميد الوجداني/ هادي الربيعي/ علي حسين عبيد) أن محمد زمان كان مركز الحراك الأدبي والفني في كربلاء طيلة عقدين من الزمن حيث شكل في ثمانينيات القرن الفائت مركز استقطاب لجل هذه الاسماء التي كانت في بدايات الطريق الابداعي (باستثناء الربيعي)، ويتذكر الآن أياد الزاملي وعلاوي كاظم كشيش وفاضل عزيز فرمان وعقيل ابو غريب وغيرهم تلك الجلسات الأدبية التي كنا نقيمها في بيت محمد زمان، نقرأ فيها القصة ونتحاور حولها سلبا وايجابا في حوار يصل بحدته الى أقصاه وننشد الشعر ونتعاطى الأدب والفن لاسيما التمثيل والمسرح عامة لنصنع أمسية تعجز عن تحقيقها مؤسسات متخصصة في ذلك الحين، ولعل أروع الاعمال المسرحية الهامة التي خرجت في ذلك الحين بكربلاء كانت تحمل بصمات محمد زمان تصحيحا أو تأليفا وإخراجا أو تعريبا، وكنا معشر الأدباء بلا موعد مسبق نجد بعضنا بعضا في بيت ذي طراز شرقي يتمركز في قلب كربلاء ذلك هو صالون محمد زمان، وأروع ما سجلته الذاكرة تلك الطقوس التي ترافق عملية التقاطر على هذ البيت، فأنت لو وصلت الاول او الأخير من بين الادباء او الفنانين فعليك أن تفهم واجبك وتحصل على حقوقك شئت أم أبيت، وهذه الطقوس عبارة عن خطوات اجرائية بسيطة جدا لكنها لا تنسى، فحين تصل الباب الخشب الصاج للبيت الكائن في قلب كربلاء وترتقي العتبة وتمد يدك الى زر الجرس يُستحسَن أن لا تضغط الزر أكثر من مرة حتى لو أتيت في عز ظهيرة الصيف وحتى لو ساورتك الظنون بأن محمد زمان ينعم في قيلولته او غائب في أحد النصوص الأدبية او الفنية، عليك أن تنتظر لحين وصول الجسد (البطيء) في خطواته أثر الشلل الذي عانقه طوال عقود ظالمة، وبعد حين ستسمع من خلف الباب خطوات مكبوتة ثم سيفتح لك محمد زمان حتما وسترى هيبته وهدوءه الوديع وحركات جسده المتموج عبر كامرة تصوير سينمائية بطيئة، وستخطو برهبة ومحبة الى الصالة الحنون وتقتعد أريكة مناسبة وستمتد لك يد عصامية عجيبة في قوتها وضعف عضلاتها وعظامها وهزالها وبطء حركتها لتسلمك (مسقولة تحْلية) ترافقها كلمات رقيقة ضاحكة (حلّي حلقك) ثم تمتد لك ذات اليد العظيمة بسيجارة نوع سومر (سن طويل أسود/ أغلى وأكثر انواع السجائر طيبة في نكهتها آنذاك) وبعد حين ستأتيك كأس العصير بالطبع ليس لوحدها إنما هناك جسد يكابر بما يليق بروعة الروح البارعة ولو رغبت بالحصول على شيء يعجبك غير ما هو مخصص من لدن المضيِّف فلك حرية الوصول إليه وجلبه بنفسك كأن يكون فنجان قهوة او موزة أو تفاحة أو نستلة ككاو موجودة في المجمدة الصغيرة الموجودة في المطبخ الذي يقود إليه سلّم بعدة درجات.
تشييد قاعة ومسرح حقّي الشبلي
إن بعض هذه التفاصيل أو كلها عاشها حسن النواب واعتادها أياد الزاملي وجربها ماجد الوجداني واستصعبها لكن طبقها علي حسين عبيد ولم يتواءم معها هاشم معتوق فيشبّ خارج طوقها أحيانا وعشقها فاضل عزيز فرمان ومر بها علاوي كشيش الذي ربما لا تشكل له شيئا في ذلك الحين ونادمها باسم فرات الذي كان في ذلك الحين أصغر القوم عمرا وتجربة وأكثر أقرانه نباهة، وحببها عقيل ابو غريب، وكل هذه التفاصيل كانت تكمِّل ذلك المشهد اليومي الذي غالبا ما كان يتمخض عن امسية قصصية او شعرية او فنية، فمن هذه الجلسات خرجت اروع الاماسي في بيت محمد زمان وخارجه أي في المركز الاعلامي او في قاعة (حقي الشبلي المسرحية) التي بناها شبان الادب والفن في كربلاء وموَّلها ماديا بالكامل محمد زمان الذي أسس فرقة (حقي الشبلي) في حينها والتي قامت بدورها بعرض اعمال مسرحية كتبها عدد من ادباء كربلاء وغيرها من الاعمال، ويتذكر أياد الزاملي قطعا تلك الجلسات النقدية التي كنا نعقدها بعد انتهاء هذه المسرحيات وذلك السجال الرهيب المحبب وتلك الآراء التي قلما كانت تلتقي في تأويلاتها حتى بين أقرب الاصدقاء لكن الهدف العظيم الذي كان يكمن وراءها هو ذلك الحراك المموَل ذاتيا والذي لم يسمح فيه محمد زمان الأصيل ليد السلطة ان تمتد لهؤلاء الادباء في ذلك الحين، فكان حاميا لهم قدر ما يستطيع ولعدد آخر من الفنانين من الانزلاق في مهاوي الأدب او الفن الرخيص.
وأجمل ما في محمد زمان انه كان يدرس شخصيات الادباء والفنانين الشباب في حينها من دون أن يعلموا بذلك، فلم يكن يصرح لهم او يلمح بهذا الأمر قط، إنما كان رجلا دقيق الملاحظة وذا فراسة راسخة وذا صبر رهيب، فهو يعرف ما الذي يحبه فرمان او النواب أو الزاملي أو كشيش او عقيل ابو غريب وكل الادباء ويعرف ايضا ما الذي يكرهونه، فعلى سبيل المثال كان بعضنا يصطحب اطفالهم أحيانا معهم الى محجة زمان فما كان منه إلاّ أن صنع إرجوحة في باحة البيت الشرقي من دون ان يطلب منه احد ذلك وكم تأرجح ولدي شكري في الثمانينيات على ارجوحة محمد زمان التي لا يزال شكري يذكرها بمحبة لا تضاهيها محبة أخرى، واذا كان احدنا يحب نوعا معينا من السجائر فسيجدها من دون ان يطلبها في الجلسة القادمة لان محمد زمان سيلاحظ ذلك ولدينا الكثير من المتطلبات التي كنا نحصل عليها قبل أن نطلبها إلاّ شيئا واحدا كان يبخل به على بعضنا وليس كلنا، ذلك هو طلب الكتاب (وزمان كنز الكتب النفيسة) إذ كنا في ذلك الحين نطبق المقولة (سيئة الصيت) التي تنص على أن من يعير كتابا فهو مغفل ومن يعيده لصاحبه مغفل ايضا، وممن هم مستثنون من هذا الحضر الإعاري أياد الزاملي وعلاوي كاظم كشيش وفاضل عزيز فرمان كما أتذكر، فقد كان الزاملي يحصل على ما يريده من الكتب من محمد زمان على سبيل الإعارة وأظن ان هناك تعاملا متبادلا بين زمان والزاملي لأن الأخير كان يتحصل على مكتبة فاخرة ايضا.
دور فاعل في تحريك الواقع الثقافي
ولعلي لا أجيء بشيء جديد لو ذكرت تلك الأنفة الفريدة التي يتحلّى بها محمد زمان الكبير، هذا الرجل الذي قرأ المشهد الكربلائي بعين خبير ووازن بدقة بين متطلبات تلك المرحلة سياسيا وبين الحفاظ على نظافة الأدب والفن قدر المستطاع في آن واحد، ونتذكر جميعا ذلك الدور الفاعل لمحمد زمان في رسم وتدعيم خطوات الادباء خاصة في تفعيل الحراك الادبي، أما اذا حانت انتخابات الادباء فسوف يرسم زمان للجميع ادوارهم التي ستقود الى نتائج انتخابية مناسبة في وقتها.
إن الكلام عن هذا الأديب والفنان والانسان العصامي لن يجزيه حق جزائه ولكن هذا هو أضعف الوفاء كما أظن، ولعل بعض الاصدقاء من ادباء وفناني كربلاء لهم وجهات نظر أخرى او ذكريات لا تلتقي مع ذكرياتي ولهم الحق في ذلك قطعا، فكل منا ينظر الى الحياة بالعين التي تناسبه وتعجبه، ولو سأل أحدنا الآن عن هذا الرجل العملاق وعن حياته الحاضرة وعن مصيره، فسأقول له إن محمد زمان محبوس طوعيا وكما يفرض عليه وضعه الصحي في بيت يصغر بيته الشرقي القديم كثيرا ويبعد عن قلب كربلاء كثيرا بحيث لا يصل اليه من دم البقاء سوى النزر اليسير ناهيك عن فقدان الكهرباء والتكييف الذي يتوافق وحالته الصحية، إنه يتمدد على سرير لا يستطيع مغادرته إلاّ ما ندر، إنه ينزف عرقا من جسد لا ماء فيه كأرض غادرها مطر الوفاء منذ ألف عام.
*هامش:
نعت الأوساط الدينية والثقافية في مدينة كربلاء المقدسة، رحيل الشاعر الحسيني محمد زمان الكربلائي، الذي وافاه الأجل صباح يوم الخميس الموافق 17/11/2022، بعد صراع طويل مع المرض وعن عمر ناهز الـ (76 سنة).
وقدّم اتحاد الأدباء والكتّاب في كربلاء المقدسة، تعازيه لأسرة الفقيد والوسط الثقافي برحيل ابن كربلاء وشاعرها محمد زمان. وذكر الاتحاد في بيان تعزية، تلقته (وكالة أخبار الشيعة) أن “الشاعر محمد زمان الكربلائي توفّي صباح هذا اليوم بعد صراع طويل مع المرض”.
وأضاف، “إذْ ندعو الله تعالى أن يغمره برحمته ورضوانه، نعزّي أسرته الكريمة والوسط الثقافي العراقي برحيل قامة أدبية سامقة، والذي كان بمثابة الأب الرحيم لكل المثقفين وألقى بظلاله على المشهد الإبداعي في كربلاء المقدسة”.
ويعد الشاعر محمّد زمان الكربلائي من أبرز الرموز الحسينية والأدبية في المدينة، وهو من مواليد العام (1946 م)، صدرت له عدّة دواوين وكتب أبرزها (الزمانيات) و(مشجّرة كربلاء)، كما قرأ قصائده العديد من الرواديد الحسينيين.
اضف تعليق