نقص الخدمات المزمن، كان المحرك لاحتجاجات غاضبة شملت العراق ولبنان، سرعان ما ارتفع سقف مطالبها الى "مكافحة الفساد" والدعوة "لإصلاحات سياسية"، بعد ان "فشلت" الحكومات المتعاقبة، في كلا البلدين، من التخلص من افة الفساد او المحاصصة الطائفية في تقسيم المناصب السياسية، او على الاقل، توفير الخدمات الضرورية، التي يحتاجها عامة الشعب، ما استوجب خروجهم بالألاف الى شوارع بغداد وبيروت للمطالبة بحقوقهم... وتغيير الاوضاع الجامدة منذ سنوات.
لا احد يستطيع اليوم، ان يضيف سطرا واحد عما قاله المتظاهرون في ساحات الاحتجاج، فالأمر اوضح من الوصف او التأويل، لكن ما يثير الاستغراب شيء اخر... فعندما انطلقت الاحتجاجات الغاضبة في بغداد او اخر شهر تموز، وقف الجميع الى جانبها، واعتبرها مطالب عادلة، حتى النخب السياسية، لم تتأخر في مساندة التظاهرات... طبعا نفس الموقف تكرر في لبنان، الجميع اعترف بالتقصير، وان الخلافات السياسية هي من اثرت على تفاقم سوء الخدمات، (وبالأخص ازمة تراكم النفايات).
لكن اذا كان الامر بهذا القدر من الاهمية، فاين كانت النخب السياسية قبل الاحتجاجات؟، ومن يتحمل نتيجة الاهمال والتقصير... اذا كان الجميع مع المتظاهرين؟.
الامر الاخر، (وربما الاكثر غرابة)، ان هناك من يشكك في نية المتظاهرين، في كلا البلدين، وان هناك "قوى خفية"، حركت الاحتجاجات من وراء الكواليس... طبعا اذا كان ما يقال صحيح، فلماذا خرج الناس للتعبير عن غضبهم واحتجاجهم ضد سوء الخدمات واستشراء الفساد في مؤسسات الدولة والنخب التي تدير البلاد؟.
دع عنك الامرين، وما يمكن ان ينتج عنهما من احتمالات وتأويلات لا تنتهي، ولنركز على اصل القضية في سؤال بسيط... لماذا خرج الناس بمطالب بسيطة (الخدمات)، تحولت لاحقا الى اصلاح العملية السياسية او اسقاطها؟.
قد يتفق اغلب المتابعون، ان العراق ولبنان، لديهما الكثير من القواسم المشتركة التي تمس صلب العملية السياسية، وطريقة ادارتها، سيما التقسيم "الطائفي"، وما افضى اليه من خلافات لا تنتهي بين الكتل والاحزاب المتناحرة منذ سنوات، وعلى هذا الاساس تستمر الخلافات الى جانب ضعف الاصلاحات الحقيقية... وكلاهما ولد سوء في ادارة البلاد، بعد ان انعكست على اغلب مرافقها الرئيسية.
الناس امام دوامة فاسدة تكاد لا تنتهي، هم يبحثون عن الاصلاح السياسي، في المقام الاول، ربما من خلال بث شكواهم عن واقع ملموس من سوء الخدمات وضعف الاقتصاد وانتشار الفساد الاداري والمالي...الخ، وهي اشياء كانت، (بحسب المتظاهرين)، نتاجا طبيعيا لغياب الاصلاح السياسي... لكن بالمقابل لا يوجد من يمكن الاعتماد عليه، (بين النخب السياسية)، في ادارة العملية الاصلاحية، او الثورة الناعمة، داخل الدولة ونظامها ومؤسساتها... وهذا ما يثير قلق المواطنين، من خرج منهم ومن لم يخرج.
هذه الظاهرة، لا تقتصر على العراق او لبنان، بل شملت اغلب الدول العربية ايام "ربيعها العربي"، التي خرج اهلها لإسقاط النظام، (تمكنوا من ذلك ام لم يمكنوا)، او التي ظل اهلها يترقب نتائج الاخرين وما ستؤول اليه الامور، ولعل ما حدث في مصر وتونس والبحرين وسوريا وليبيا واليمن والسودان...الخ، يعطي صورة اوضح لصراع الشعوب العربية مع نخبها السياسية الفاسدة، التي يمكنها تغيير الشكل مع الاحتفاظ بالمضمون.
اما الدليل الاخر، فيتضح فيمن ركب موجة التظاهرات الاخيرة، مع عامة الناس، ليعطي بذلك انطباعا مغايرا لما هو عليه حاله او حال حزبه، وكانه ليس جزء من منظومة الفساد الحكومي، وغير ممسك بمقاليد السلطة وليس له حصه من المناصب السياسية العليا في البلاد.
اضف تعليق