لحل الازمة بحالة شبيه لما كان يحدث في اوج القطبية الصلبة في مرحلة الحرب الباردة، الامر الذي يثير قلقا كبيرا باحتماليات تصعيد الحرب في اوكرانيا وتحولها الى مواجهة المواجهة المباشرة بين روسيا ودول حلف الناتو الامر الذي ينذر بمخاطر لا يمكن توقعها من بينها تجاوز المحرمات النووية...
في ضوء تصاعد المخاوف العالمية من النتائج التي ستؤول اليها الحرب الروسية الاوكرانية واحتمالات تصاعد مستوى الحرب واتساعها دائرتها، يناقش عالم السياسة الامريكي المنتمي للمدرسة الواقعية (جون ميرشايمر) احتمالات التصعيد في الحرب الاوكرانية وامكانية تحولها الى مواجهة مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها في مقال له نشر في مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) الامريكية – في يوم 17 من شهر اب الجاري تحت عنوان: (اللعب بالنار في اوكرانيا – المخاطر الكارثية غير المقدرة للتصعيد)
(Playing With Fire in UkraineThe Underappreciated Risks of Catastrophic Escalation)
سنحاول في هذا المقال مناقشة اهم ماجاء في تحليل (ميرشايمر) لاحتمالات التصعيد في الحرب الاوكرانية لفهم ديناميات التصعيد واسبابه وتقديم رؤية لفهم التوجهات الاستراتيجية لكلا الطرفين.
ابعاد الحرب في اوكرانيا
دخلت الحرب في اوكرانيا في شهرها السادس مع غياب تام للمخرج الدبلوماسي وعجز تام لمنظمة الامم المتحدة عن اتخاذ اي خطوات لحل الازمة بحالة شبيه لما كان يحدث في اوج القطبية الصلبة في مرحلة الحرب الباردة، الامر الذي يثير قلقا كبيرا باحتماليات تصعيد الحرب في اوكرانيا وتحولها الى مواجهة المواجهة المباشرة بين روسيا ودول حلف الناتو الامر الذي ينذر بمخاطر لا يمكن توقعها من بينها تجاوز المحرمات النووية والانزلاق الى حرب نووية شاملة.
ومع ان مثل هذا السيناريو يصعب تصديقه وقبوله من قبل المحللين الاستراتيجيين والمراقبين، الا ان طبيعة الحرب في اوكرانيا تسمح في تصور امكانية حصول مثل هذا التصعيد، اذ تتعدى طبيعة هذه الحرب مجالها الاقليمي لتكشف عن الصراع من اجل التحكم والسيطرة في النظام العالمي، فهي بمثابة الاشهار عن التغيير في النظام العالمي واتجاهه للقطبية المتعددة، اذ تجاهد الولايات المتحدة الحفاظ على موقعها العالمي والسيطرة على البر الاوروبي وتقويض التمدد الروسي وتكسير قوتها او على الاقل تعطيل قدرتها على تحدي الولايات المتحدة في السيطرة والتحكم في السياسة العالمية، في حين تسعى روسيا لاستعادة التوازن في المجال الاوروبي والعالمي واثبات قدراتها كقوة عظمى قادرة على فرض سياستها وهيبتها.
انه صراع عالمي لإعادة توزيع القوة في النظام العالمي تتجاوز ابعادها المعارك التي تجري في اوكرانيا، وليس ادل على ذلك من الجمود وغياب الرؤية لاي تسوية سياسية للحرب، وبدء الاصطفاف والتكتل العالمي على محورين، فضلا عن خطاب الشيطنة الذي يتبعه الطرفان في صراعهما.
وازاء ذلك هل ستخرج الحرب في اوكرانيا عن حدودها وتكشف عن اقنعتها بالمواجهة المباشرة بين روسيا من جهة والغرب والولايات المتحدة (الناتو) من جهة اخرى؟ وكيف يمكن ان يتطور الموقف الى مثل هذه المواجهة وما هي السيناريوهات المتوقعة لذلك؟ واخيرا هل تقود الحرب في اوكرانيا الى مواجهة نووية وماهي امكانية استخدام القوة النووية في الحرب؟
اسباب التصعيد المحتمل في حرب اوكرانيا
يؤكد (ميرشايمر) على ان صانعي السياسة الغربيين قد توصلوا إلى إجماع حول الحرب في أوكرانيا مفاده ديمومة واستمرار الحرب في اوكرانيا لمدة طويلة وإيصال الحرب الى طريق مسدود بحيث تقبل روسيا المنهكة في نهاية المطاف اتفاقية سلام بشروط الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو.
ولكن من يضمن ان هذه السياسية لن تؤد الى تصعيد احد الاطراف للحصول على ميزة او لمنع الهزيمة؟
الحق ليس هناك ضمان مؤكد يمنع التصعيد في الحرب تصعيدا من شأنه ان يدخل الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين في الصدام المباشر مع روسيا، فحدة التصلب في موقف الولايات المتحدة وحلفائها في كسر روسيا وهزمها، ورغبة روسيا المؤكدة في عدم التراجع والسير الى نهاية الطريق في اوكرانيا تشكل دافعا قويا للأطراف للقبول بمخاطرة التصعيد، طالما امكن -كما يؤكد العديد من الخبراء الاستراتيجين- تجنب التصعيد المؤدي الى النهاية الكارثية وذلك لوجود الردع النووي المتبادل الذي يمنع الطرفان من اللجوء الى استخدام السلاح النووي في اي صراع بينهما.
ان هذا الادراك هو الذي يدفع الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو لمواصلة الدعم العسكري وتقديم المعلومات الاستخباراتية لأوكرانيا بقصد ديمومة الحرب لإضعاف روسيا واستنزافها، وهو ايضا ما يتيح للغرب إمكانية تصعيد الصراع بتدخله المباشر في الحرب ضد روسيا في حال اصبحت روسيا في موقف يتيح لها حسم المعركة وتحقيق النصر في اوكرانيا.
ان هذا المنطق (امكانية تجنب التصعيد الكارثي) في ادارة الحرب يجده (ميرشايمر) ليس مؤكدا على الاطلاق وهو "يشكل مخاطرة أكبر بكثير مما تعتقده الحكمة التقليدية (العقلانية)، فعواقب التصعيد يمكن أن تشمل حربًا كبرى في أوروبا وربما حتى إبادة نووية، لذا فان هناك سبب وجيه لمزيد من القلق".
ولفهم ديناميات التصعيد المحتمل في اوكرانيا يحلل (ميرشايمر) اهداف اطراف الصراع حيث يرى انه منذ بدء الحرب " رفعت كل من موسكو وواشنطن طموحاتهما بشكل كبير، وكلاهما الآن ملتزمان بشدة للفوز في الحرب وتحقيق أهداف سياسية كبير، ونتيجة لذلك اصبح لدى كل طرف حوافز قوية لإيجاد طرق لتحقيق الانتصار، والأهم من ذلك تجنب الخسارة ".
ومن الناحية العملية يبدو ان اهداف الطرفان توفر الارضية التي يستند اليها التصعيد المفترض حيث يجد (ميرشايمر) "ان الولايات المتحدة قد تنضم إلى القتال إذا كانت يائسة من تحقيق الفوز في الحرب أو لمنع أوكرانيا من الخسارة، في حين أن روسيا قد تستخدم الأسلحة النووية إذا كانت يائسة للفوز أو تواجه هزيمة وشيكة، وهو ما سيكون مرجحًا إذا قررت الولايات المتحدة ان تشرك قواتها بشكل مباشر في القتال".
وعلاوة عن ذلك فان التقاطع والتصميم في تحقيق كل طرف لأهدافه، يجعل من فرص الوصول الى تسوية سلمية ضئيلا، فالتفكير المتطرف السائد لدى الطرفين الان هو التصميم على تحقيق النصر في ساحة المعركة ليتمكن الطرف المنتصر من املاء شروطه في اي تسوية لاحقة. ان مثل هذا الموقف (عدم وجود حل دبلوماسي محتمل) كما يرى (ميرشايمر) "يوفر حافزًا إضافيًا لكلا الطرفين لتسلق سلم التصعيد الذي يمكن ان يبلغ في أعلى درجاته شيئًا كارثيًا حقًا".
التطور في اهداف الحرب في اوكرانيا
لم تكن دوافع الحرب الروسية ضد اوكرانيا كما هي الان، وبالمثل لم تكن اهداف الولايات المتحدة كما هي عليه الان.
ففي بداية الحرب كما يحلل (ميرشايمر) "كان هدف الولايات المتحدة وحلفائها في دعم اوكرانيا هو منع تحقيق نصر روسي وللمساعدة في التفاوض على إنهاء القتال في موقف ايجابي، ولكن بمجرد أن بدأ الجيش الأوكراني في التصدي ومقاومة القوات الروسية خاصة في كييف، غيرت إدارة بايدن مسارها والتزمت بتقديم الدعم لأوكرانيا حتى تحقيق النصر في الحرب، كما سعت إلى إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الروسي من خلال فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة"، وهذا ماعبر عنه وزير الدفاع (لويد أوستن) بقوله: "نريد أن نرى روسيا تضعف إلى درجة أنها لا تستطيع القيام بالأشياء التي فعلتها في غزو أوكرانيا"، وبهذا الصدد يرى (ميرشايمر) ان الولايات المتحدة عازمة على "إخراج روسيا من صفوف القوى العظمى".
فضلا عن ذلك فقد شوهت الولايات المتحدة صورة روسيا ورئيسها بوتين الى الحد الذي لايمكن فيه ان تتراجع عن اهدافها في منع روسيا من تحقيق اهدافها في اوكرانيا وعلى حد قول (ميرشايمر) لقد: "ربطت الولايات المتحدة سمعتها بنتيجة الصراع... فإذا انتصرت روسيا في أوكرانيا فإن مكانة الولايات المتحدة في العالم ستتعرض لضربة قوية".
اما روسيا فقد اتسعت طموحاتها مع تطور الحرب ومع تصاعد الدعم الغربي لاوكرانيا، اذ ان روسيا كانت في بادئ الامر مهتمة بشكل أساسي بمنع أوكرانيا من أن تصبح حصنًا غربيًا على الحدود الروسية بانضمامها الى حلف الناتو وهذا ما اعرب عنه الرئيس بوتين قبل الحرب بقوله ان انضمام اوكرانيا الى الناتو يمثل "تهديد مباشر للأمن الروسي" ولا يمكن وقف هذا التهديد الا عن طريق خوض الحرب او تحويل اوكرانيا الى دولة محايدة او فاشلة.
ان القلق الروسي من توسع الناتو شرقا بدء منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور روسيا الاتحادية كوريث للاتحاد السوفياتي حيث اعتبر اول رئيس لروسيا (بوليس يالسن) ان توسع الناتو الى الشرق هو(خطأ فادح) في تصريح له في قمة هلنسكي مع الرئيس الامريكي الاسبق (كلينتون) بعد ان طرح الاخير فكرة (الشراكة من اجل السلام)، فيما كان الخلاف حول ما اذا كانت هذه الشراكة بديلا للعضوية في الناتو ام انها مقدمة للدخول في العضوية، واستمرت روسيا بتأكيدها على ان اي توسع للناتو شرقا هو بمثابة التهديد لأمن روسيا ومحاولة لتطويقها، بينما اكد المفهوم الاستراتيجي للناتو في عام 2010 -والذي يحكم سياسة الحلف- على ان الناتو لا يشكل تهديدًا لروسيا ودعا إلى شراكة إستراتيجية حقيقية بين الجانبين، كما اكد السياسيون الغربيون غير مرة على ان الدول حرة في اختيار تحالفاتها وان الحلف لن يتوسع طالما التزمت روسيا بحدودها.
وفي عام 1997 وقع الناتو وروسيا (الوثيقة التأسيسية) بخصوص العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن، وتم تأسيس مجلس الناتو وروسيا في عام 2002، وكلاهما يهدفان إلى تعزيز التعاون، وحصلت موسكو على دخول ووجود دائم في مقر الناتو في بروكسل، لكن هذا التبادل توقف إلى حد كبير منذ هجوم روسيا على أوكرانيا في عام 2014 واقتطاع شبه جزيرة القرم وفي غضون ذلك كان روسيا قلقة من وصول حلف الناتو الى حدوده عبر انضمام اوكرانيا للناتو.
ولذا وكما يؤكد (ميرشايمر) بان روسيا "لم تغزو موسكو أوكرانيا لغزوها وجعلها جزءًا من روسيا الكبرى، على عكس من الاعتقاد السائدة في الغرب" اذ كان هدفها الاساس هو منع اوكرانيا من الانضمام الى الناتو، ولتحقيق هذه الغاية يرى (ميرشايمر) أن أهداف روسيا الإقليمية قد توسعت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب، حيث كانت روسيا عشية الغزو ملتزمة بتنفيذ اتفاقية مينسك الثانية 2015 والتي كانت ستبقي دونباس جزءًا من أوكرانيا، ومع ذلك وعلى مدار الحرب استولت روسيا على مساحات شاسعة من الأراضي في شرق وجنوب أوكرانيا، وهناك أدلة متزايدة على أن بوتين يعتزم الآن ضم كل أو معظم تلك الأراضي.
سيناريوهات التصعيد
ان موقف الصراع الان اصبح اكثر تعقيدا وتصلبا، ولا يبدو من اي طرف انه يريد اللجوء الى تسوية الا بعد حسم نتائج الحرب لصالحه، حيث تضاعفت التهديدات واتسعت، فروسيا اليوم كما يقول (ميرشايمر) " تواجه تهديدا كبر مما كان عليه الوضع قبل الحرب " ويرجع ذلك الى " أن إدارة بايدن مصممة الآن على القضاء على المكاسب الإقليمية التي تحققت لروسيا وإعاقة القوة الروسية بشكل دائم..
ومما زاد الطين بلة توجهات حلف الناتو لضم فنلندا والسويد.. كما ان أوكرانيا اصبحت أفضل تسليحًا واصبح تحالفها أوثق مع الغرب، ولا تستطيع موسكو تحمل الخسارة في أوكرانيا، ولذا فانها ستستخدم كل الوسائل المتاحة لتجنب الهزيمة" كما ان بوتين "يبدو واثقًا من أن روسيا ستنتصر في نهاية المطاف على أوكرانيا وداعميها الغربيين"، حيث صرح في أوائل شهر تموز قائلا: نسمع اليوم أنهم يريدون هزيمتنا في ساحة المعركة.. ماذا تستطيع ان تقول؟ دعهم يحاولون فسيتم تحقيق أهداف العملية العسكرية لا شك في ذلك "، اما الاوكرانيون "فهم عازمون على استعادة الأراضي التي فقدوها لروسيا بما في ذلك شبه جزيرة القرم..".
ويؤكد (ميرشايمر) على ان التزام وتصميم كل من كييف وواشنطن من جهة وموسكو من جهة اخرى في تحقيق النصر على خصمه ولا بديل لذلك يجعل المجال امام التسوية ضئيلا " فلا أوكرانيا ولا الولايات المتحدة من المحتمل أن تقبل أوكرانيا المحايدة.. كما أنه من غير المحتمل أن تعيد روسيا جميع الأراضي التي أخذتها من أوكرانيا أو حتى معظمها..".
وازاء ذلك هل سنشهد تصعيدا في المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة وكيف يمكن ان يحدث ذلك؟
على الرغم من ان العديد من المحللين الاستراتيجيين يرفضون تصور حدوث المواجهة بين الطرفين الا ان (ميرشايمر) يرفض ذلك ويضع لنا ثلاثة مسارات محتملة لتحول الحرب نحو التصعيد المباشر بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها في اوكرانيا.
الاول: قيام احد الطرفين او كلاهما التصعيد عمدا لتحقيق النصر
الثاني: التصعيد من قبل أحد الطرفين أو كلاهما عمدًا لمنع الهزيمة
الثالث: التصعيد غير المتعمد
اذ يرى (ميرشايمر) انه ما ان "خلصت إدارة بايدن إلى إمكانية هزيمة روسيا في أوكرانيا، أرسلت المزيد من الأسلحة (وأكثر قوة) إلى كييف، كما بدأ الغرب في زيادة القدرة الهجومية لأوكرانيا عن طريق إرسال أسلحة مثل نظام إطلاق الصواريخ المتعددة HIMARS، بالإضافة إلى الصواريخ الدفاعية مثل صاروخ جافلين المضاد للدبابات وبمرور الوقت، ازدادت كمية الأسلحة الفتاكة وكميتها " الى جانب ان الولايات المتحدة لم تثر أي اعتراض عندما أعلنت سلوفاكيا (في شهر تموز الماضي) أنها تفكر في إرسال طائرات المقاتلة من طراز MiG-29، على الرغم من ان واشنطن سبق ان رفضت خطة لنقل الطائرات من نفس الطراز من بولندا إلى أوكرانيا في بداية الحرب (في شهر اذار) على أساس أن القيام بذلك قد يؤدي إلى تصعيد القتال، الى جانب ذلك تدرس الولايات المتحدة أيضًا خيارا يقضي بمنح طائرات F-15 و F-16 لأوكرانيا.وتقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بتدريب الجيش الأوكراني وتزويده بمعلومات حيوية تستخدمها لتدمير أهداف روسية رئيسية.
علاوة على ذلك فإن الغرب لديه "شبكة خفية من الكوماندوز والجواسيس" على الأرض داخل أوكرانيا، وهكذا ورغم ان واشنطن غير منخرطة بشكل مباشر في القتال لكنها - كما يقول (ميرشايمر): "متورطة بعمق في الحرب، وهي الآن على بعد خطوة قصيرة من وجود جنودها يقودون المزنجرات ويضغط طياروها على الأزرار".
ويمكن لمجموعة من الظروف ان تعزز هذه الخطوة، وهنا يفترض (ميرشايمر) "لو استمرت الحرب لمدة عام أو أكثر، ولا يوجد حل دبلوماسي في الأفق ولا مسار ممكن لتحقيق نصر أوكراني، وفي نفس الوقت نفسه ترغب واشنطن بشدة في إنهاء الحرب - ربما لأنها بحاجة إلى التركيز على احتواء الصين أو لأن التكاليف الاقتصادية لدعم أوكرانيا تسبب مشاكل سياسية داخلية ومشاكل في أوروبا، في ظل مثل هذه الظروف سيكون لدى صانعي السياسة الأمريكيين كل الأسباب للنظر في إتخاذ خطوات أكثر خطورة مثل فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا أو إدخال وحدات صغيرة من القوات البرية الأمريكية لمساعدة أوكرانيا على هزيمة روسيا".
وفي سيناريو آخر يراه (ميرشايمر) أكثر احتمالا للتدخل الأمريكي في الحرب يتمثل في "حالة إذا ما بدأ الجيش الأوكراني في الانهيار وتكون روسيا امام تحقيق انتصارًا كبيرًا، في هذه الحالة ونظرًا لالتزام إدارة بايدن العميق بمنع هذه النتيجة، يمكن للولايات المتحدة أن تحاول قلب المعادلة في الميدان من خلال الانخراط مباشرة في القتال"، ان اتخاذ واشنطن لمثل هذا القرار سيكون مدعوما بـ "إعتقاد المسؤولين الأمريكين بأنّ مصداقية بلادهم ستكون على المحك ويقنعون أنفسهم بأن الاستخدام المحدود للقوة من شأنه أن ينقذ أوكرانيا ومن دون ان يحث بوتين على استخدام الأسلحة النووية".
كما يمكن ان تقوم " أوكرانيا (وفي وضع يائس) بشن هجمات واسعة النطاق ضد البلدات والمدن الروسية، على أمل أن يؤدي هذا التصعيد إلى رد روسي هائل من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة على الانضمام إلى القتال".
ويضع (ميرشايمر) تصوره لسيناريو التصعيد غير المقصود الذي قد يجبر الولايات المتحدة على التدخل والاشتراك المباشر في الحرب.
فقد تقع احداث غير متوقعة تؤدي- من دون رغبة من الولايات المتحدة - الى تصعيد في المواقف بين الطرفين ينتهي بالمواجهة المباشر بينهما.
ويرسم (ميرشايمر) صورا لمثل هذه المواقف غير المتوقعة فمثلا "قد تحصل مواجهة بالخطأ بين الطائرات المقاتلة الأمريكية والروسية فوق بحر البلطيق... اذ يمكن أن تؤدي مثل هذه الحوادث الى التصعيد بسهولة، نظرًا لارتفاع مستويات التوتر والخوف لدى الطرفين ونقص التواصل والشيطنة المتبادلة، او ربما تمنع ليتوانيا مرور البضائع الخاضعة للعقوبات التي تنتقل عبر أراضيها وهي تشق طريقها من روسيا إلى كالينينغراد " فتقوم روسيا بالرد العسكري الامر الذي يستلزم من الناتو – باعتبارها دولة عضو- والولايات المتحدة بالرد على روسيا.
او ربما تقوم " روسيا في محاولة يائسة لوقف الدعم الغربي لأوكرانيا، بمهاجمة دول حلف الناتو.. أو ان تقوم روسيا بتدمير مبنى في كييف أو موقع تدريب في مكان ما في أوكرانيا وتقتل عن غير قصد عددًا كبيرًا من الأمريكيين، مثل عمال الإغاثة أو عملاء المخابرات أو المستشارين العسكريين" مما قد يجبر ادارة بايدن تحت الضغط الداخلي بالانتقام عبر توجيه ضربات لاهداف روسية، الامر الذي يستتبعه ردا روسيا مقابلا مما يؤدي الى تبادل الهجمات والدخول في الحرب المباشرة بالنتيجة.
وليس من المستبعد ايضا عند (ميرشايمر) ان يؤدي القتال في جنوب أوكرانيا إلى تدمير محطة الطاقة النووية(زاباروجيا) التي تسيطر عليها روسيا مما يتسبب بتلوث اشعاعي كبير يمتد ليشمل اراضي واسعة من روسيا واوروبا، مما يدفع روسيا إلى الرد بضرب مفاعل نووية أوروبية، وفي مثل هذا الموقف سيكون من شبه المؤكد أن تدخل الولايات المتحدة الحرب بصورة مباشرة. كما " لايمكن استبعاد احتمال قيام روسيا (وهي في موقف يائس) لوقف تدفق المساعدات العسكرية الغربية إلى أوكرانيا بمهاجمة الدول التي يمر عبر اراضيها الجزء الأكبر من هذه الاسلحة وهي بولندا أو رومانيا، وكلاهما عضو في الناتو. وهناك أيضًا احتمال أن تشن روسيا هجومًا إلكترونيًا هائلًا ضد دولة أوروبية واحدة أو أكثر (من الدول الداعمة لاوكرانيا) مما يتسبب في ضرر كبير لبنيتها التحتية الحيوية، قد يدفع مثل هذا الهجوم الولايات المتحدة لشن هجوم إلكتروني انتقامي ضد روسيا، فإذا نجحت فان روسيا قد تتخذ قرارها بالرد العسكري، اما إذا فشلت فقد تقرر واشنطن أن الطريقة الوحيدة لمعاقبة روسيا هي ضربها مباشرة".
واخيرا يعلق (ميرشايمر) على هذه السيناريوهات معتبرا ان مثل هذه الافتراضات قد تبدو بعيدة المنال لكنها ليست مستحيلة، ويعدها مجرد امثلة قليل عن مسارات عديدة يمكن أن تتحول من خلالها الحرب الجارية الان إلى شيء أكبر وأكثر خطورة.
التصعيد الى مستوى الكارثة النووية
تخضع الاسلحة النووية لاعتبارات وتقديرات استراتيجية حاسمة لا يمكن تعديها ترتبط بالنتائج الكارثية المترتبة على قرار استخدامها الذي سينتهي بالتدمير المتبادل لكلا الطرفين، لذلك فانه طيلة مدة الحرب الباردة بقت هذه الاسلحة من دون استخدام فعلي على الرغم من شدة الصراع والتوتر في المواقف بين العملاقين السوفياتي والامريكي، واقتصرت وظيفة هذه الاسلحة على الردع ومنع الحرب والمواجهة المباشرة بين القوى النووية.
ومع ذلك فان لا يستطيع احد ان يجزم بعدم التصعيد الى مستوى استخدام الاسلحة النووية اذا ما حصلت المواجهة المباشرة بين الطرفين، اذ تؤكد سياسات الردع النووي والعقائد الاستراتيجية للقوى النووية بان استخدام السلاح النووي في حالتين الاولى اذا ما تعرضت الدولة النووية الى هجوم نووي والثانية اذا تعرضت وجود الدولة الى تهديد حقيقي، ويبدو السبب الاخير فيه مساحة واسعة للتفسير اذ قد تعتبر الدولة ان انكسارها في حرب اقليمية او تعرض اراضيها او جيشها للهجوم بالأسلحة التقليدية هو بمثابة تهديد وجودي يدفعها لإدخال ترسانتها النووية في الرد المضاد. لذا فان القوى النووية عادة ما تبتعد عن ادخال قواتها في حرب مباشرة مع القوى النووية تجنبا للوصول الى مرحلة التصعيد النووي الذي سينتهي بالتدمير المتبادل.
يرى (ميرشايمر) إمكانية وصول التصعيد الى نهايته باستخدام الاسلحة النووية ويصور لنا ثلاث ظروف قد يستخدم فيها بوتين الأسلحة النووية هي:
السيناريو الأول: إذا دخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو المعركة، فان مثل هذا التطور سيؤدي تغيير التوازن العسكري بشكل ملحوظ ضد روسيا مما يزيد بشكل كبير من إحتمالية هزيمتها، كما انه سيعني أيضًا أن روسيا ستخوض حربًا ضد القوى العظمى بالقرب منها ويمكن لها أن تمتد بسهولة إلى أراضيها، في مثل هذا الموقف سيعتقد القادة الروس بالتأكيد أن بقاءهم في خطر مما يمنحهم حافزًا قويًا لاستخدام الأسلحة النووية لإنقاذ الموقف، على الأقل قد يفكرون في شن ضربات استعراضية تهدف إلى إقناع الغرب بالتراجع، ولكن من الصعب معرفة في ما اذا كانت هذه الخطوة ستنهي الحرب أو ستقودها إلى الخروج عن نطاق السيطرة.
وقد المح الرئيس بوتين في خطابه يوم 24 شباط/2022 الى امكانية لجوء روسيا الى مثل هذا الخيار في حال دخلت الولايات المتحدة وحلفائها الحرب، وتوقع مدير المخابرات الأمريكية (في شهر ايار الماضي) ان بوتين قد يستخدم الأسلحة النووية إذا "تدخل الناتو أو كان على وشك التدخل" في الحرب، وذلك لان دخول الناتو الحرب سيساهم في تكوين الادراك لدى بوتين أنه على وشك خسارة الحرب في أوكرانيا.
السيناريو الثاني: اذا تمكنت أوكرانيا (بنفسها) من قلب الموقف في ساحة المعركة لصالحها ومن دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة.
اذا اصبحت القوات الأوكرانية في موقف ميداني افضل بحيث تكون مستعدة لإلحاق هزيمة فادحة بالجيش الروسي واستعادة الأراضي التي فقدتها اوكرانيا من يد الروس، في هذه الحالة لا شك أن موسكو يمكن أن تنظر بسهولة إلى هذه النتيجة على أنها تهديد وجودي يتطلب رداً نووياً، وعلى عكس السيناريو الأول سيكون استخدام السلاح النووي موجه ضد اوكرانيا – وليس ضد الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو- ومن ثم فان هذا التصعيد لايواجه بخوف كبير من الانتقام النووي، لأن كييف ليس لديها أسلحة نووية ولأن واشنطن لن تكون لديها مصلحة في بدء حرب نووية، وهكذا فإن عدم وجود تهديد انتقامي واضح سيجعل من السهل على بوتين التفكير في استخدام السلاح النووي.
السيناريو الثالث: يتمثل بوصول الحرب الى طريق مسدود طويل الأمد ليس له حل دبلوماسي تصبح معه الحرب مكلفة للغاية بالنسبة لموسكو في مثل هذه الحالة وفي محاولة يائسة لإنهاء الصراع بشروطه قد يسعى الرئيس بوتين إلى التصعيد النووي لتحقيق النصر.
ان الهدف الرئيس من التصعيد الروسي باستخدام الاسلحة النووية كما يصوره (ميرشايمر) في السيناريوهات الثلاث هو تجنب روسيا الهزيمة في الحرب، ويعتقد (ميرشايمر) ان الانتقام النووي الامريكي سيكون بعيد الاحتمال بالنسبة للسيناريو الثاني والثالث، ويرجح ان تستخدم روسيا فيهما أسلحة نووية تكتيكية ضد مجموعة صغيرة من الأهداف العسكرية على الأقل في البداية، وقد يستهدف الهجوم الروسي النووي التكتيكي اكتساب ميزة عسكرية، ولكن الهدف الاستراتيجي الاهم من الضربة النووية التكتيكية هو تغيير قواعد اللعبة، حيث سيؤدي استخدام السلاح النووي الى زرع الخوف في الغرب ومن ثم دفع الولايات المتحدة وحلفاؤها للتحرك بسرعة لإنهاء الصراع بشروط مواتية لموسكو.
ولكن كسر المحرمات النووية لن يكون بهذه السهولة التي تصورها هذه الافتراضات، اذ لا يمكن للولايات المتحدة السكوت والرضوخ امام الاستخدام النووي الروسي التكتيكي في اوكرانيا لان مثل هذا الامر سيعزز من موقف ومصداقية روسيا كقوة عظمى ويفسح لها المجال للتوسع وكسب المزيد من المناطق في اوروبا دون خشية الانتقام، ولذا فان من المتوقع ان تواجه روسيا بفعل عسكري قوي من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، ومع عدم استبعاد ان يكون الانتقام بالمثل، يبدو ان توجيه ضربة عسكرية بالأسلحة التقليدية خيارا راجحا واقل خطورة وتصعيدا، فضلا عن ذلك فان استخدام السلاح النووي سيؤدي الى خسارة روسيا لمواقف دول كالصين والهند اللتان رفضتا الدخول في العقوبات الاقتصادية ضد روسيا.
يختم (ميرشايمر) عرضه لسيناريوهات التصعيد في حرب اوكرانيا بقوله: ان هذه السيناريوهات الكارثية قد يجدها البعض محض افتراضات نظرية وفرص حدوثها تصبح ضئيلة لان "لدى القادة في طرفي الصراع حوافز قوية لإبعاد الأمريكيين عن القتال وتجنب حتى الاستخدام النووي المحدود ناهيك عن حرب نووية شاملة فعلية"، لكنه يقلل من هذا التفاؤل ويقول: "مخطئ من يعتقد إنه يعرف بثقة المسار الذي ستسلكه الحرب في أوكرانيا، اذ يصعب التنبؤ بديناميات التصعيد في زمن الحرب أو السيطرة عليها، وهو ما ينبغي أن يكون بمثابة تحذير لأولئك الذين يثقون في إمكانية إدارة الأحداث في أوكرانيا.. فإن القومية (كما اكد كلاوزفيتز) تشجع الحروب الحديثة على التصعيد إلى أقصى أشكالها، خاصة عندما تكون المخاطر كبيرة لكلا الطرفين، ولا يعني هذا أن الحروب لا يمكن أن تظل محدودة، لكن القيام بذلك ليس بالأمر السهل وأخيرًا، نظرًا للتكاليف الباهظة لحرب نووية بين القوى العظمى، فإن احتمالية حدوثها حتى ولو كانت ضئيلة، يجب أن تجعل الجميع يفكرون طويلًا وبجد في المسار الذي قد يتجه إليه هذا الصراع، يخلق هذا الوضع المحفوف بالمخاطر حافزًا قويًا لإيجاد حل دبلوماسي للحرب، لكن للأسف لا توجد تسوية سياسية في الأفق، حيث يلتزم الطرفان بشدة بأهداف الحرب التي تجعل التسوية شبه مستحيلة. كان ينبغي على إدارة بايدن أن تعمل مع روسيا لتسوية الأزمة الأوكرانية قبل اندلاع الحرب في فبراير، لقد فات الأوان الآن لعقد صفقة، روسيا وأوكرانيا والغرب عالقون في وضع رهيب لا يوجد له مخرج واضح".
ستراتيجية الخروج من المأزق
يمكننا الجزم بان ستراتيجية الحرب الروسية في اوكرانيا تتعدى حدود ادارة المعارك مع القوات الاوكرانية الى رؤية اوسع تتمحور حول الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، اذ تربط روسيا بين الموقف الميداني في المعارك الجارية الان وبين اهدافها الاستراتيجية في الصراع مع الغرب.
اذ لم يعد الحال كما كان في بداية الحرب حين تصور الروس بان بإمكانهم كسب المعركة سريعا بالقضاء على نظام الحكم في كييف واستبداله بنظام موالي لروسيا، او على الاقل نظاما يحافظ على حيادية اوكرانيا ويمنع من دخولها في حلف الناتو، فبعد ان اظهرت القوات الاوكرانية قدرتها على المقاومة والتصدي لمغامرة الجيش الروسي -التي لم تكن محسوبة بدقة من قبل العسكريين الروس الذين حاولوا مباغتة (زلينسكي) باحتلال كييف– سارعت الولايات المتحدة بحشد حلفائها في الناتو لتقديم الدعم العسكري والاقتصادي الكبير لأوكرانيا ومحاصرة روسيا سياسيا وفرض العقوبات الاقتصادية الكبيرة عليها، كل ذلك تطلب تغييرا في الاستراتيجية الروسية في ادارة المعارك من منظور الصراع الاوسع.
ويظهر من سير المعارك الجارية الان في اوكرانيا ان موسكو متأنية في تصعيد عملياتها العسكرية لكسب الحرب بشكل نهائي رغم قدرتها على فعل ذلك بسرعة، فروسيا لم تقم بحملة تجنيد واسعة تحشد فيها قوتها الكاملة للاندفاع نحو احتلال كامل اراضي اوكرانيا، ولم تحاول الحاق الضرر الكبير في اوكرانيا عن طريق قصف شبكة الكهرباء والخدمات العامة الاخرى، كما انها ورغم اعلانها ان هدفها السيطرة على كامل اقليم الدونباس لاتزال تُسيّر المعارك ببطئ شديد في استكمال السيطرة على دونيتسك، وعلى نفس المنوال تتحرك خارج الدونباس في السيطرة على بعض المناطق المهمة كخاركييف المحاذية للحدود الروسية الى جانب سيطرتها على محطة زاباروجيا النووية.
وبذلك يبدو ان الاستراتيجية الروسية تميل الى عدم التصعيد في اوكرانيا مع الحفاظ على مستوى للتحكم في العمليات العسكرية والاحتفاظ بالمكاسب المتحققة والسيطرة على ادارة وتوجيه المعارك ضمن اغراضها الاستراتيجية الكبرى (الصراع مع الغرب)، مع شن هجمات متواصلة على الاسلحة الامريكية والاوروبية الموردة الى اوكرانيا وضرب مواقع تحشيد القطعات العسكرية وبضمنها مراكز تجمع القوات غير النظامية الاجنبية ومراكز التدريب.
وتكمن اهداف هذه الاستراتيجية برغبة روسيا بتفادي المواجهة المباشرة مع حلف الناتو التي قد تترتب على تدخله المباشر في الحرب اذا اوشك الروس على تحقيق نصر حاسم.
وقد يبدو للوهلة الاولى ان هذا الخيار يصب في صالح الهدف الامريكي في اطالة امد الحرب لاستنزاف روسيا، غير ان الواقع يشير الى العكس من ذلك تماما، فالروبل الروسي حقق ارتفاعا ملحوظا، واحتياطي البنك المركزي الروسي من الذهب والعملات الاجنبية ارتفع بنسبة 5.8%، بينما الولايات المتحدة وبقية دول حلف الناتو باتت تواجه ازمات التضخم والركود بسبب ارتفاع اسعار الطاقة، وتتعرض مواردها للاستنزاف بسبب الحجم الكبير من المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي دفعتها الى اوكرانيا على مدار الاشهر الماضية والتي قدرت بأكثر من 100مليار دولار، من دون ان تسهم بهزيمة روسيا او تحرير جزء من الاراضي التي وقعت في قبضة روسيا، اذ دمر الروس قرابة 50 الف طن من الاسلحة الغربية المقدمة الى اوكرانيا، بينما بيعت كميات كبيرة اخرى من هذه الاسلحة في السوق السوداء (واشترت روسيا جزء منها).
ومن جهة اخرى تدرك روسيا بان التصعيد قد يودي الى تحقيق نصرا عسكريا حاسما في اوكرانيا إلا إنه قد لا يحقق اي نتائج سياسية في منع الناتو من التمدد شرقا حيث يمكن ان تكون ردة فعل الغرب على هذا الانتصار هي الاسراع في ضم دول اخرى الى الناتو- بدلا من الدخول المباشر في القتال ضد روسيا - وفي مثل هذا الموقف يصبح التهديد اكبر على روسيا التي ستجد صعوبة في خوض حرب ثانية ستواجه بها دولا منضمة الى حلف الناتو.
وتراهن ستراتيجية روسيا على ان اطالة امد الحرب ضمن مستواها الحالي سيؤدي ارهاق الولايات المتحدة وزرع الشقاق بين دول حلف الناتو، كما سيؤدي تصاعد ضغط الداخل الاوروبي (الرأي العام) واحراج حكومات الدول الغربية بسبب زيادة الاعباء الاقتصادية على المواطنين وتفاقم المشكلات الاقتصادية وتنتظر روسيا فصل الشتاء القادم الذي سيقرر بشكل حاسم مقدرة الغرب على التخلي عن الغاز والنفط الروسي، اذ تعول روسيا على احداث الخلافات بين دول الناتو ومن ثم منع تحقيق الاجماع على ضم دول جديدة لحلف الناتو، وقد يدفع كل ذلك الاتجاه نحو التسوية بشروط روسية حيث يمكن ان تكتفي روسيا بالحدود الحالية مع اشترط تغيير نظام الحكم في كييف او على الاقل ضمان تحييدها وعدم ضمها لحلف الناتو. كما تراهن روسيا على ان اطالة امد الحرب قد يؤدي الى انقلاب محلي على نظام بولنسكي وتشكيل حكومة موالية لموسكو.
وبالمقابل فإن ستراتيجية الولايات المتحدة في استنزاف روسيا عبر اطالة امد الحرب اثبتت ضعفها وارداد اثارها على الغرب، وبالمثل فإن فكرة هزيمة روسيا عسكريا من قبل الجيش الاوكراني امرا لايمكن تحقيقه نظرا للتفوق الهائل الذي يتمتع به الجيش الروسي في كافة صنوفه من حيث المعدات والاسلحة والفكر والتخطيط الاستراتيجي والعملياتي لقادته، ولذا لم يحقق الجيش الاوكراني اي تقدم ميداني رغم كل الدعم الذي يقدمه الناتو.
وعلى الرغم من محاول الولايات المتحدة جر روسيا الى التصعيد عبر دفع اوكرانيا الى شن عمليات استفزاز ضد روسيا عن طريق توجيه ضربات خلف الخطوط - مثل الهجمات على المناطق الحدودية في روسيا ومهاجمة شبة جزيرة القرم - فانها تبقى عمليات غير مؤثرة على الجغرافية العسكرية التي فرضها الروس ولم تحدث اي تغيير في الموقف الميداني. وحتى لوقامت الولايات المتحدة بتجهيز اوكرانيا بأسلحة ومعدات متطورة (كالطائرات والمسيرات والصواريخ الهجومية ذات المديات المتوسطة) لمنح الجيش الاوكراني القدرة على مهاجمة الجيش الروسي او شن ضربات على الاراضي الروسية، فان مثل هذا الخيار لن يؤد الى هزيمة روسيا اذا تمتلك روسيا القدرة على تدمير هذه المعدات، واتخاذ خطوات تصعيدية قد تعجل بانهيار نظام الحكم في كييف.
ويبقى امام الولايات المتحدة وحلفائها خيارا تصعيديا واحدا وهو الدخول المباشر في الحرب وهو خيار غير محبذ لدى الغرب لأنه سيجر الطرفين الى المواجهة المباشر بين القوى النووية وستكون عواقبه كارثية.
واخيرا فان الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو اصبحوا امام خيارين احلاهما مر، فأما ان يجنحوا للتسوية السلمية ويقبلوا بشروط روسيا المذلة وهو ما يعني اعترافها بتغير قواعد القوة والسيطرة في النظام العالمي، او ان يدخلوا بشكل مباشر في الحرب لإيقاع الهزيمة بالجيش الروسي في اوكرانيا وبذلك يكونوا قد فتحوا بابا امام تصعيد الحرب الى مستويات كارثية.
اضف تعليق