تكريم الانسان وتعظيمه وحفظ حقوقه وكرامته، ينبغي ان يستقر في نفوس أصحاب السلطة او من يشرفون على تقديم الخدمات العامة للمجتمع، لان خدمة الانسان من اهم مقاصد الحكم الصالح، وهو الأساس الذي يستطيع الحاكم ونظامه ومؤسساته البناء عليه لإقامة دولة مستقرة تنعم بالأمن والسعادة والرفاهية والتطور الحضاري...
الأساس في خلق الله (عز وجل) للإنسان هو لتكريمه وتعظيمه وتفضيله على الكثير من خلق الله، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء:70، ولذلك كان من اشد الظلم عند الله تعالى هو ظلم الانسان لأخيه الانسان، خصوصاً عندما يحتل الظالم سلطة اعلى (حاكم/ وزير/ قاضي/ مسؤول/ موظف/ تاجر/ زوج/ اب...الخ)، تتيح له ممارسة الاستبداد وسلب الحقوق التي منحها له الخالق بغير وجه حق، فلا فرق بين ظلم الانسان والأمة الا بمقدار الضرر الذي يلحقه الظالم، فكلاهما ينذران بالهلاك ولو بعد حين، وهو ما حذر منه امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): "وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة من إقامة على ظلم فإن الله يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين بمرصاد ومن يكن كذلك فهو رهين هلاك في الدنيا والآخرة".
هذا الشعور، وأعني تكريم الانسان وتعظيمه وحفظ حقوقه وكرامته، ينبغي ان يستقر في نفوس أصحاب السلطة او من يشرفون على تقديم الخدمات العامة للمجتمع، لان خدمة الانسان من اهم مقاصد الحكم الصالح، وهو الأساس الذي يستطيع الحاكم ونظامه ومؤسساته البناء عليه لإقامة دولة مستقرة تنعم بالأمن والسعادة والرفاهية والتطور الحضاري والفكري والاقتصادي.
ويلخص هذا العمل تحت شعار "الرحمة للرعية" الذي رفعه امير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمالك بن الاشتر بقوله: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط بينهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤثر على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله تعالى من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله تعالى فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله تعالى، فإنه لابد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته".
الرحمة للرعية ينبغي ان تطبق بمفهومها الواسع لتشمل الجميع، فلا انتقائية او محسوبية او مجاملة للبعض فيها على حساب الاخرين، وهنا ينبغي مراعاة امرين مهمين:
1. النظر الى الطبقات المسحوقة من المجتمع، ومن تعيش دون خط الفقر، فلهم الأولوية في أي مبادرة إنسانية او خدمة عامة.
2. الاهتمام بأفراد المجتمع التي عانى افرادها من تقلبات الزمن وعدم استقرار الحكم فيها، فهم الاجوج الى العدل الاجتماعي والرحمة لهم.
وقد وجه امير المؤمنين (عليه السلام) واليه على مصر لهذه النقطة الجوهرية بقوله: "ثم اعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح بالقصد فيما تجمع وما ترعى به رعيتك فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت وكرهت".
وللوصول الى مقاصد الحكم الصالح عند امير المؤمنين (عليه السلام): وهي خدمة الانسان، وعمارة الأرض، والرحمة للرعية، وتطبيق العدل الاجتماعي، وحفظ كرامة الانسان وحقوقه، ومحاسبة الفاسدين، اشترط الامام علي (عليه السلام) جملة من الشروط والاهداف العملية التي ينبغي على الحاكم السعي الى تطبيقها من اجل الوصول الى الهدف المنشود نذكر منها:
1. اقصاء الفاسدين والاشرار عن الحكم ومنعهم من التسلط على الرعية: "إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة".
2. ان يكون الحاكم القدوة والمثل الأعلى، وعليه ان يبدأ بتعليم نفسه قبل الاخرين الحكمة والعدل والصبر والرحمة وغيرها من صفات الحاكم العادل: "إن من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس".
3. الاهتمام بتقديم أفضل الخدمات واجودها للعامة، وان لا يقتصر نظره على فرض الضرائب والتضييق على المجتمع: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا".
4. تقريب اهل الاحسان والكفاءة والمعرفة، وعدم مساواتهم باهل السوء وانعدام الخبرة والجهل، حتى يستقيم النظام وتتطور الدولة ومؤسساتها بسواعد اهل الخبرة والمعرفة والكفاءة: "ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة".
5. الإبقاء على الأمور والسنن والقوانين الصالحة والنافعة التي شرعت وتعارف عليها الناس قبل توليك للحكم بحجة انها لم تشرع من قبل الإدارة الجديدة، فهذا سيؤدي الى المزيد من الارباك والسخط: "ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها".
5. الاهتمام بالطبقة الفقيرة، كما ذكرنا سابقاً، وجعلهم الهدف الأسمى والغاية الأهم في الحكم، من اجل رفع الحيف والظلم عنهم ورفعهم من مستوى الطبقات السفلى الى وضع اقتصادي وخدمي وتعليمي أفضل: "ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، وأحفظ الله تعالى ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص طعمك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن لا تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فاعذر إلى الله تعالى في تأدية حقه إليه".
6. الحذر من البطانة السيئة للحاكم، التي تزيف الحقائق وتروج الاباطيل، وما تجلبه من سوء في إدارة الدولة واستنزاف مواردها لصالح طبقة محدودة دون غيرهم وتوجب سخط المجتمع على الحاكم: "ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة، تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترك، يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة".
والخلاصة: ما احوجنا اليوم الى العودة الى جذور هذه المعرفة والحكمة الحقيقية، ومناهل الحكم الصالح، والعلاقة الصادقة بين الحاكم والمحكوم، بعيدا عن زيف الشعارات والاقوال الخالية من الأفعال، التي خلقت مسافة واسعة بين طبقات المجتمع والطبقة الحاكمة، وأدت الى تراجع الثقة وانعدام التفاعل الإيجابي بينهما، وبالتالي الخروج عن معادلة الحكم الصالح.
اضف تعليق