q
قد تسمع عن تقدم النظام الدولي وحقوق الإنسان وكل هذه العناوين الجميلة، وأنا أطلب منك أن لا تسمح لهذه الأفكار والعناوين بالاستقرار في عقلك قبل أن تراقب ما يحدث من تناقضات في النظام الدولي، أعتقد أنك قد توافقني الرأي بأن سبب كل هذه التناقضات والازدواجية في التعامل مع الدول هو التركيبة الطبقية للنظام الدولي...

من لا يحلم بمجتمع دولي عادل تتساوى فيها استجابة الدول لأخطاء الدول بغض النظر عن نوع الدولة المخطئة وحجمها وموقعها في النظام الدولي؟

لا أعرف عدد أو نسبة الأشخاص الذين يحلمون بنظام دولي عادل، لكنني أعرف نفسي الحالمة بالابتعاد عن الظلم والقهر وغزو الدول الضعيفة وغض الطرف عن جرائم الدول الكبيرة، ودعم الدول الحليفة مع وضوح مخالفاتها للقيم الإنسانية.

وأعرف عدداً لا يحصى من الكتاب يرصفون الكلمات لوصف النظام الدولي العادل القائم على مجموعة من القواعد الثابتة التي تحدد الحقوق والواجبات، وما يجب الامتناع عنه، وما هو مباح. عالم لا يفرق بين غني وفقير، ولا كبيرة أو صغير ولا حليف أو خصم.

محددات النظام العادل تصف الأفعال، وتصنفها إلى جيدة يستحق فاعلها الرفعة والثناء، وأخرى سيئة يستحق فاعلها العقاب، وثالثة لا مع هذه ولا تلك مباحة للجميع وهي جزء من الروتين اليومي للحياة.

وتوصيف الفعل في النظام العادل ضروري من أجل تجنب التمييز في التعاطي مع الفاعل حسب لونه أو دينه أو عرقه أو ايدلوجيته وغيرها من التصنيفات الماعنة للعدالة.

بكلمات أخرى تقول فكرة العدالة أن ما يجب أن ينظر إليه هو الفعل وليس الفاعل، وعلى أساسه نحدد استجابتنا بالعقاب أو بالثواب.

يرى الفيلسوف الأغريقي أفلاطون أن هكذا نظام لا يتحقق إلا عبر قيام دولة يحكمها الفلاسفة، حيث يجعلون لكل شيء معياراً، وبما أنهم أكثر الناس حكمة ودراية يستطيعون سياسة أمور المجتمع بما يضمن استقراره.

الحلم الافلاطوني لم يتحقق حتى الآن، إلا أنه أعطى جرعة معززة للمناعة ضد الظلم وتعلنا مع التفاعل المزدوج بين شخص وآخر في ظل شيوع التنظيم الطبقي للمجتمع، إذ ما زلنا نحلم بعالم فاضل يقربنا أكثر من مدينة أفلاطون الفاضلة.

لم يحكمنا الفلاسفة بعد افلاطون، ولا حتى من هم بدرجة قريبة منهم، إنما بقي العالم يخضع لمنطق القوة والعنف وفرض الإرادات بطرق تشبه تنظيم حياة الغاب.

والظالم الذي يبسط حكمه بالقوة يعرف أنه لا يستطيع اخضاع الجميع بشكل تام، يقوم بتقسيم المجتمع إلى طبقات، طبقة ضعيفة تبقى خادمة للنظام وعليها ثقل العمل والجهد، وأخرى تجمع الأقوياء تحت مسميات عدة كالنبلاء مثلاً، ولا يمكن للحاكم الظالم ضمان استمرار ملكه بدون طبقة من رجال الدين يستفيد منهم ويفيدهم لتبرير قراراته وإعطائها صبغة سماوية.

تلك هي خلطة النظام الطبقي التسلطي، وتحت سقفه المكون من عدة طبقات لا مكان للقواعد، والفعل بحد ذاته لا يسجل جريمة أو فضيلة، حيث لا حاجة لتوصيف الأفعال.

ماذا يحتاج في النظام الطبقي؟

يحتاج النظام الطبقي إلى تصنيف الأشخاص والكيانات أولاً، وعلى أساس هذا التوصيف يجري التفاعل معهم، مثلاً يحق للسيد في ظل النظام الطبقي قتل إنسان آخر بدون أن يعاقبه أحد، والسبب أن هذا الإنسان هو مجرد "عبد" وفق توصيف النظام الطبقي.

أما إذا قتل الإنسان "العبد" أحد أسياد البلد يقتل هذا الإنسان "العبد"، بسرعة دون الرجوع لنظام قضائي، بما أنه عبد تستطيع قتله بدون الشعور بالذنب أو الخوف من العقاب.

والتاريخ الإنساني يكاد يكون تاريخ النظام الطبقي في جميع أرجاء البسيطة، ويعتقد كثير منا أننا غادرنا ذلك النظام، فلم يعد هناك أسياد وعبيد، ولم تعد هناك طبقة للنبلاء وأخرى لرجال الدين، ولم يعد للملوك سلطة مطلقة.

هذا الشعور بالتخلص من الطبقية مجرد أوهام قيلت لنا وصدقناها، فالدول اليوم طبقات، طبقة الدول الغربية المسيحية البيضاء، وطبقية الدول الشرقية الطامحة للحاق بقطار الغرب السريع، وثالثة معدومة وظيفتها خدمة الغرب الأبيض والشرق الطامح وعلى رأسها دولنا العربية.

كل شيء عادل وقانوني وغيره خارج هذا التنظيم الطبقي أوهام نحاول تسويقها كهزاء لأنفسنا التواقة للعدالة.

كل ما قام به النظام الطبقي في العصور الوسطى وما قبلها وما بعدها يتم تطبيقه في النظام الدولي الحالي، لا ينظر للفعل، بل ينظر للفاعل أولاً، إن كان الفاعل للشر من طبقة الغرب الأبيض لا يعاقب، فهو سيد الكرة الأرضية، وإن كان الفاعل هو الشرق الطامح يتعرض للتوبيخ وربما عقاب بسيط حسب تسلسله داخل طبقته نفسها، لكن عندما تقوم الدول الفقيرة الجائعة بفعل تراه طبقة الدول الغربية غير مفيد تتعرض لعقاب لا يناله إلا العبيد في القرون الوسطى.

أقتل واغزو وانهب خيرات غيرك وافعل ما تشاء ولا تخاف من أحد إن كنت مصنفاً في طبقة الغرب، وإياك أن تفعل شيئاً بدون استشارة سيدك الغربي إن كنت من طبقة الدول الفقيرة والمعدومة، فأنت من طبقة العبيد.

قد تسمع عن تقدم النظام الدولي وحقوق الإنسان وكل هذه العناوين الجميلة، وأنا أطلب منك أن لا تسمح لهذه الأفكار والعناوين بالاستقرار في عقلك قبل أن تراقب ما يحدث من تناقضات في النظام الدولي، أعتقد أنك قد توافقني الرأي بأن سبب كل هذه التناقضات والازدواجية في التعامل مع الدول هو التركيبة الطبقية للنظام الدولي.

اضف تعليق