ما أقصده في العنوان هو: التصور العام عن حركة أو تيار اجتماعي أو ديني أو سياسي، فالعنوان يعبر عن هذا التيار ويختصره في كلمة أو جملة، مثلاً: "الأحزاب الإسلامية"، "الأحزاب العلمانية"، "التشرينيون"، "المستقلون"، وغيرها من العناوين الدالة على حركة لها نشاط في مجال معين. قد تكون للعنوان دلالة سلبية...
ما أقصده في العنوان هو: التصور العام عن حركة أو تيار اجتماعي أو ديني أو سياسي، فالعنوان يعبر عن هذا التيار ويختصره في كلمة أو جملة، مثلاً: "الأحزاب الإسلامية"، "الأحزاب العلمانية"، "التشرينيون"، "المستقلون"، وغيرها من العناوين الدالة على حركة لها نشاط في مجال معين.
قد تكون للعنوان دلالة سلبية، وهنا يمثل صناعة يروج لها ويتبناها الخصوم ويبذلون جهدهم في إقناع الناس بحجم السوء الذي يخفيه هذا العنوان.
وفي بعض الأحيان يكون العنوان جارفاً ولا يستطيع أحد تشويهه، تضطر غالبية العناوين الأخرى للخضوع له ومحاولة محاكاته تارة، أو تجاهله وكأنه غير موجود تارة أخرى.
مشكلته هذا النوع من العناوين في عمره القصير، فقد يسقط من القمة إلى القاع بمدة قياسية، خذ على سبيل التوضيح عنوان "التكنوقراط" الذي ظهر على سطح الجدل السياسي مع تظاهرات عامي 2015 و2016، وبلغ ذروته عند تشكيل حكومة السيد عادل عبد المهدي عام 2018، وذهب عبد المهدي بعيداً حيث فتح موقعاً إلكترونياً لترشيح وزراء حكومته.
اعتقدت فئة وازنة بأن هذه المرحلة بداية لترجيح كفة الكفاءات على حساب الوصوليين والسلطويين الذين يتوالدون عبر نظام المحاصصة الحزبية والطائفية والقومية.
لم يعمر "التكنوقراط" طويلاً فقد سقط خلال مدة قياسية ليس مع استقالة حكومة عادل عبد المهدي، إنما قبل تشكيلها، فقد تشكلت الحكومة على أساس الانتماء الحزبي والمحاصصة المعمول بها مسبقاً مع تغييرات طفيفة في التشكيلة الوزارية لصالح التكنوقراط.
النهاية البائسة لعنوان التكنوقراط دفنتها بدون تشييع، رمتها في مقابر العناوين الجميلة التي فشلت أو أُفشلت وغادرت بسرعة.
ولأننا شعب حالم ويعيش المثالية دائماً، كما أننا شعب يعيش تحت ركام دولة مهدمة منذ سنوات، فطموحنا الأول إعادة البناء من جديد، جاءت تظاهرات تشرين الأول 2019 مطلقة العنان لصرخة الجماهير بوجه المنظومة الحاكمة، حتى اعتقد أصحابها أنهم يعيشون أيام ولادة دولة جديدة بشكل كامل فذهبوا بعيداً في مطالبهم وحققوا جزءاً مهماً منها، وأخفقوا في أخرى.
سميت "تظاهرات تشرين"، و "ثورة تشرين"، و "حراك تشرين"، وصار المشارك والناشط في التظاهرات "تشريني" يفتخر بثوريته، وخصم شرس للأحزاب الحاكمة ولا سيما في الوسط والجنوب.
كان العنوان جميلاً ومحفز على إعادة زرع نبتة الأمل في صحراء صحاري اليأس الوطني، وحتى خصومه خضعوا له بشكل أو آخر، اعترفوا بوجوده ودعموا توجهاتها ولو لمحاولات السير مع التيار، إلا أن ذلك مثل قوة دفع هائلة ارتقت بسقف التوقعات وشحنت الهمم من جديد.
النبتة التشرينية قاومت الموت على عكس العناوين الأخرى، لكن نموها شبه متوقف، وتفرعت إلى أكثر من نبتة، أبرزها عنوان "المستقلون"، الذين ولدوا من رحم تشرين لكن بشكل أقل تأثيراً.
في الانتخابات الأخيرة شارك المستقلون ودفعوا الجماهير المقاطعة للانتخابات إلى المشاركة وتنظيم الصفوف وحققوا نتائج لا بأس بها، فاضطربت على أثر فوزهم الموازين السياسية، استبشر العراقيون خيراً بهذا العنوان السياسي الجديد، وعقدوا بعض آمالهم عليه.
وبعد مضي سبعة أشهر من الانتخابات الأخيرة وعدم تشكيل الحكومة الجديدة وخرق الدستور، والحاجة الوطنية الماسة للإسراع في إصلاح الوضع المتردي لم يستطع المستقلون تحقيق ولو جزء بسيط من آمال الناس.
ليس هذا فحسب، بل أن الجهات التي كانت معادية لعنوان تشرين بدأت بتشويه سمعة المستقلين، واتهامهم بالتماهي مع بعض الأطراف، لا سيما مع ظهور بعض التحركات غير المحسوبة من قبل المستقلين أنفسهم.
في ظل هذه الحالة أعلن الإطار التنسيقي عن مبادرة لحل الأزمة السياسية، بالتوازي مع مبادرة أخرى للتيار الصدري، إذ ركزت المبادرتان على تقديم عروض مغرية للمستقلين مقابل انضمامهم للإطار أو التيار.
لو نجحت أي من المبادرتين، واستطاعت تذويب المستقلين تحت عباءتها، ستكون أحدث مبادرة لموت العناوين السياسية الجميلة، وستكون أحدث الأخطاء التي ترتكبها المنظومة الحاكمة.
فالسياسي الفطن يستفيد من العناوين المقبولة اجتماعياً من أجل ترميم ما تهدم من النظام السياسي، وبناء قواعد جديدة تزيد الرابطة بين الشعب وحكامه، لكن العملية معكوسة هنا.
كلما برز عنوان جديد يدمر نفسه بنفسه لعدم جديته أو عدم نضوجه، كما أنه يتعرض لحرب خفية ومعلنة من قبل الحرس القديم لنفقد في كل مرة فرص إصلاح النظام السياسي وتقريب المسافات بين الشعب والمنظومة الحاكمة.
اضف تعليق