بينما يعتاش القطاع العام الحكومي، ويتطفّل على الريع النفطي عائدات صادرات النفط الخام، ويتم استخدامه "سياسياً" لترسيخ وإدامة ظاهرة الدولة العميقة وهي دولة موازية أكثر قوّةً ونفوذاً وفاعلية من الدولة التقليدية، لأنّها أكثر تحرّراً من رقابة السلطات الأخرى عليها، وأكثر حريّةً في العمل والتصرّف والإنجاز منها...
بينما يعتاش القطاع "العام" الحكومي، ويتطفّل على الريع النفطي (عائدات صادرات النفط الخام)، ويتم استخدامه "سياسياً" لترسيخ وإدامة ظاهرة "الدولة العميقة" (وهي دولة موازية أكثر قوّةً ونفوذاً وفاعلية من الدولة التقليدية، لأنّها أكثر تحرّراً من رقابة السلطات الأخرى عليها، وأكثر حريّةً في العمل والتصرّف و"الإنجاز" منها).. وبينما يسمح ذلك لهذه الدولة "العميقة" بمقايضة الرواتب والوظائف والمناصب والإمتيازات بـ"الصوت الإنتخابي".
بينما يحدث كل ذلك على مستوى "فوقي- دولتي" مُعيّن من الإقتصاد، يعمل "القطاع الخاص" في العراق حاليّاً على مستوى "بُنى تحتيّة" تابعة للمستوى الأوّل، ويقوم بأداء وظائف وأدوار "سياسية" من خلال ممارسته لأنشطة "اقتصاديّة" محدّدة، ومُرتفعة الربحيّة، يكون هدفها الرئيس هو "خلق" و"مُراكمة" "رأس المال المالي" اللازم لضمان سيطرة "القوى السياسية" الرئيسة الحاكمة، والمُتحكِّمة في العراق الآن.. وضمان تقاسم "رأس المال" هذا، وتوزيعه، و"مُحاصصته" بين هذه "القوى" ذاتها لأطول مُدّةٍ ممكنة، وتقديم مبررات "شرعية"، و"مشروعة" لتبرير التشبّث به، وعدم السماح لأي "قوى" أخرى(عداها) بانتزاعه منها.
وهذا الدور، وهذه الوظيفة لـ "القطاع الخاص" في العراق ليست جديدة. لقد سبق لـ "الدولة" العراقيّة (في مراحل سابقة) وإن قامت بـ "خلق" و"توظيف" قطاع خاص "موازي" للقطاع الخاص التقليدي، وأوكلت إليه مهام وأدوار مشابهة لهذه.. غير أنّ الفرق بين الحالتين هو أنّ تلك "الدولة" لم تكن متماهية مع هذا "القطاع"، وكانت "مُستقِلّة" عنه تماماً، و"مُترفِّعة" عليه، وكان هو من "يتطفّل" عليها، ولم يكن يحصل منها إلاّ على "حصّةً" معلومة (ومُحدّدة بصرامة سلطوية شديدة المركزية) من "الفائض الاقتصادي" الذي كانت تُهيمن عليه، كما لم تكن هذه "الدولة" تستمّد أسباب بقاءها و "نفوذها" و"هيمنتها" منه (كما يحدث الآن).
لقد كان "القطاع الخاص" في العراق دائما" اقتصاديّاً"، أمّا الآن فقد اصبح هذا القطاع "سياسياً" بامتياز، وبات يتمتّع بـ "حصانة" سياسية هائلة تجعله عابراً للمساءلة والرقابة والمُلاحقة والعقاب، وغير مُكترِّثٍ بـ "الآليات" القانونية التقليدية التي تعمل هذه "الترتيبات" الرادعة في إطارها العام، ومنذ عام 2003 (وإلى الآن)، يُمارِس هذا "النمط الخاص" من "القطاع الخاص" نشاطه "الاقتصادي" في مجالات رئيسة هي:
- نشاط الاستيراد الذي يشمل نطاقاً واسعاً من السلع.. ليقوّض بذلك أيّ أمكانية للنهوض بإنتاجية القطاعات الرئيسة، ويُضعِف قدرتها (الضعيفة أصلاً) على المنافسة، ويعمل على تفكيك "سلاسل القيمة" الخاصة بها (زراعة/ صناعة/ مستلزمات بناء وتشييد/أدوية ومستلزمات طبية/ صناعات غذائية وكيمياوية..).
- نشاط المقاولات الحكومية.. حيث لا إمكانية لأي تحديث وتطوّر في البنى التحتية الأساسية.
- نشاط التعليم.. حيث لا إمكانيّة لأي تحديث أو تطوّر في نظام و"منظومات "التعليم القائمة حالياً، والتي باتت الآن من بين "المنظومات" الأكثر تخلّفاً، والأدنى نوعية، مُقارنةً حتّى بدول "مُتخَلّفَة" أخرى.
- نشاط المُضاربة، والتجارة غير المشروعة، وتهريب العملة، وغسيل الأموال، والإفلات من "السلطات" الضريبية والجمركّية.. حيثُ لا إمكانيّة لتحقيق أيّ استقرار مالي أو نقدي.
و في المحصّلة ستنتكِس جميع المؤشرّات الإقتصاديّة "الكُليّة" الرئيسة (معدلات نمو الناتج، والتضخّم، والبطالة، وتكوين رأس المال الثابت..)، وستُقمَع المبادرات والمشاريع الريادية(الفردية والجماعية) في جميع المجالات، وتختفي الحوافز اللازمة للعمل والإستدامة.. وستتحوّل أي خطة أو استراتيجية تنموية إلى مجرّد خدعة، أو أكذوبة نظرية، لا قيمة ولا معنى لها على أرض الواقع.
ما هو الحلّ بعد هذا كلّه؟
لقد تمّ طرح الكثير والكثير من الحلول (والتجارب الدولية المماثلة الناجحة) التي لم يأخذ بها أحد.. وقد عمل على صياغتها وتقديمها خبراء (وطنيّون ودوليّون)، ولم تجد طريقها للتطبيق، بل ولم يُسمَح لها بأن تُطبّق (لأسباب وتفاصيل كثيرة، معروفة ونمطيّة، لا أجِدُ أنّ ثمّةَ داعٍ لإعادة سردها الآن).
بكلّ بساطة، ودون إعادة اختراعِ لـ"عجلات" كثيرة، بعضها "حداثوية" شكلاً، وبعضها عفا على "مضمونها" الزمن.. فإنّ العراق الآن بحاجة إلى دولة مؤسسات "قويّة" (بمعنى دولة فاعلة وحديثة، تؤمن عناصرها الرئيسة بالتداول السلمي للسلطة، وبإدارة الثروة والموارد الوطنية وتخصيصها على أساس مُنصِف وعادل وكفوء .. وليست دولة أبويّة - استبداديّة).
وهذه الدولة هي دولة تعمل بـ "نظام السوق الإجتماعي"، أي على توفير بيئة مناسبة وملائمة لكي يعمل القطاع الخاص (المحلي والأجنبي) بحريّةٍ فيها، وعلى نطاق واسع.. مع تعزيز قدرة هذه الدولة في الوقت ذاته (من خلال وضع الإطار القانوني والدستوري المناسب) على حماية الملكية الخاصة، وتحصينها من "ولاية" وابتزاز القوى السياسية عليها.. وأيضاً على ضبط ايقاع السوق، والحدّ من اختلالاته وتشوّهاته وانحرافاته، وتقليل كلفته المجتمعيّة على الشرائح الأكثر ضعفاً وهشاشةً من الناس.
دولة كهذه، داعمة لقطاع خاص كهذا، هي القادرة على خلق أكثر من "دفعة قويّة" في الإقتصاد.
دولة كهذه، داعمة لقطاع خاص كهذا، هي الأكثر قدرة على الإستفادة من "الميزة النسبيّة" و"سلاسل القيمة"، و"الهوية الإقتصادية" للمحافظات.
دولة كهذه، داعمة لقطاع خاص كهذا، يمكن أن تنجح في تنفيذ تنمية "مكانيّة" ناجحة بالإعتماد على قدرات وموارد محليّة مُتاحة وعاطِلة (أو مُعطّلة)، وفي تحقيق عملية تنمية "وطنيّة"، اقتصادية واجتماعية، أكثر شمولاً واستدامة.
وقد تكون هذه أيضاً هي مجرّد "عجلة" نُعيد التأكيد هنا على اختراعها من جديد.. غير أنّنا في الحقيقة لا نملكُ "عجلةً" أخرى غيرها الآن.
ليس بوسعنا الآن اجتراح حلول غير تقليديّة "فنتازية -طوباوية-شعبويّة"، ودفع مُجتمَعٍ مُنهَك ومَنقَسِم إلى تحمّل كلف إضافية لتجريبها.
إنّ بإمكاننا "ركوب" هذه العجلة بسلاسة (وقد سبق وإن ركبتها اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا والصين والإمارات.. رغم اختلاف أنظمة الحكم فيها)، وأن نعمل من خلالها على تنويع الإقتصاد والتخلّص من"عبوديته" للريع النفطي.. وأن نقطعُ بها، ولو متراً واحداً، في طريقنا الطويل لمغادرة هذه المرحلة، التي هي الأسوء، في تاريخنا الاقتصادي "والسياسي" المليء بالخيبات والعثرات والأخطاء.
اضف تعليق