كانت الجلسة الأولى لمجلس النواب بدورته الخامسة عبارة عن عاصفة سياسية، ولا غرابة في ذلك، فأرض السياسة هنا جرداء، لم تزرع فيها الالتزامات الدستورية والقانونية والأخلاقية، فتحولت إلى كثبات تتطاير على الجميع ولا يستطيع أحد حتى الآن إيقاف عواصفها التي لا يعرف اتجاهها...
الجفاف والفيضانات والعواصف والأعاصير نتيجة طبيعية للتغيرات المناخية، تتسبب هذه التغيرات بصراعات شرسة بين الكائنات الحية حيث تقل مصادر الغذاء وتقترب المسافة بين الحياة والموت، ولم يكن العراق بعيداً عن التغيرات المناخية على كوكب الأرض، كما أنه كان وما يزال يعيش الجفاف والفيضانات والأعاصير السياسية.
في الطبيعة تعرف الكائنات الحية بالأزمة قبل حدوثها من خلال مجساتها الخاصة، فتتخذ عدة أساليب للتعاطي معها، أبرزها الهجرة إلى منطقة جديدة فيها وفرة بالغذاء، أو تتأقلم مع الجفاف لكنها ستكون أكثر قسوة ضد منافسيها لاشتداد مخاطر الموت.
وهذا يشبه ما حدث للوضع العراقي المتأزم، هاجرت القوى السياسية مدة ليست بالقليلة، ثم عادت ثم سافرت حسب طبيعة النظام الحاكم، وطريقة تعاطيه مع معارضيه.
وفي بعض الحالات حاولت القوى السياسية التأقلم مع أزمة الجفاف السياسي، فقد تموضع كل فريق بالطريقة التي تضمن له البقاء في ظل ندرة موارد التغذية السياسية وعدم رغبته في الهجرة مرة أخرى.
التأقلم أعادهم إلى أصولهم الأولى ومشاريعهم القديمة، لم يذهبوا للمستقبل بحثاً عن الحلول لكونه _أي المستقبل_ غير مجرب وطرقه غريبة، وحتى من كان حديث العهد بالسياسة وتعقيداتها لم يأتي بجديد، فقد أصر على أن يأتي بعربة التكتك وهذا ما فعله نواب حركة امتداد التي تمثل القوى التي انبثقت من تظاهرات تشرين.
كان مشهداً استعراضياً بامتياز لم يقنع الجمهور العراقي الذي انتقد الطريقة التي دخل فيها نواب حركة امتداد واستعراضهم في ساحة التحرير قبل ذلك لأن الوفاء للمتظاهرين لا يأتي عبر ركوب التكتك ولا المشاحنات السياسية، إنما عبر المشاريع السياسية والمشاريع الخدمية التي تنفع المواطن وتنتشله من وضع المتردي.
ولم يكن حال الكتلة الصدرية أفضل من زملائهم في امتداد، فقدوا لبسوا القماش الأبيض كعملية محاكاة لما يقوم به أنصار التيار وزعيمهم السيد مقتدى الصدر حيث يرتدي الأبيض تعبيراً عن استعداده للموت في سبيل الايدلوجيا التي يتبناها التيار الصدري.
كما تملك الكتلة الصدرية خزيناً أيدلوجياً ممزوجاً بالدين عبر الصلاة على محمد وآل محمد وهي جملة طويلة نصها الآتي: "اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم وأنصر ولدهم مقتدى مقتدى مقتدى، يا الله يا محمد يا علي يا مهدي انصرنا".
امتزج الكفن مع هذه الصلاة الصدرية المؤطرة بالآيدلوجيا لتثير حفيظة نواب تشرين الذين شعروا بأنهم يعيشون سباق تسلح آيدلوجي، فبينما جاء التكتك ليكون سلاحاً رمزياً مؤدلجاً بالضد تماماً من الكفن الصدري، افتقد التشرينيون للشعار الثابت، فرفعوا شعاراً ضعيفاً بترديدهم "ننعم تشرين".
أما تحالف الفتح وقوى الإطار التنسيقي التي تضم أغلب قوى الحشد الشعبي المشتتة بين الفتح وحركة حقوق وائتلاف دولة القانون والقوى الحشدية الأخرى، فقد ضاقوا بما شاهدوه من تحولهم إلى قوة ثانوية وسط عاصفة صاخبة تقذف بالشعارات وتربع بعضها وتنزل أخرى.
أرادت قوى الحشد على استحياء تنظيم استعراضها لإرضاء جمهورها الذي لم يعد يثق بقدرتها على انتزاع شيء مفيد لصالح هذا الجمهور المتضرر من الوضع السياسي كما هو حال غالبية أبناء الشعب العراقي، لكن هذا الجمهور تحديداً يرى أنه ضحية أخطاء ارتكبها الجميع وسجلت باسمه فقط.
والحقيقة الأكثر ايلاماً بالنسبة لقوى الحشد وجمهوره أنهم كانوا مشغولين بنصب كمين سياسي للقوى الأخرى عبر تشكيل الكتلة الأكثر عدداً طمعاً في تكرار ما فعله المالكي مع اياد علاوي عام 2010، لكن الخطة فشلت وتمت إعادة تدوير الحلبوسي رئيس لمجلس النواب، وهذا يترتب عليه طبعاً قيام نفس النواب الذين انتخبوا الحلبوسي بانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.
وحيث انتهت الجلسة العاصفة لم يتوقف تساقط الكتلة السياسية وجنوحها نحو عاصفة أخرى لا تقل خطورة عن سابقاتها، تحمل من رمال السياسة الكثير حيث لا توجد أي أرضية ثابتة، لا الدستور ولا القوانين ولا أي ضوابط أخلاقية أخرى يمكنها أن تمنع تحرك أرض السياسة بدون أن يتحكم فيه أحد.
كانت الجلسة الأولى لمجلس النواب بدورته الخامسة عبارة عن عاصفة سياسية، ولا غرابة في ذلك، فأرض السياسة هنا جرداء، لم تزرع فيها الالتزامات الدستورية والقانونية والأخلاقية، فتحولت إلى كثبات تتطاير على الجميع ولا يستطيع أحد حتى الآن إيقاف عواصفها التي لا يعرف اتجاهها.
اضف تعليق