علينا أن نقدِّم البدائل في كل شيء، وذلك لأنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد فراغ بشكل دائم، وإذا لم نملأ الفراغ عند أجيالنا فإن غيرنا سيملأها كما يجري الآن، لأنه عندما قصَّر أهل الفكر والرأي والشأن العام عن تقديم البدائل الإسلامية، راح الناس إلى ما يجدونه مطروحاً...
يوم الأحد 26 جمادى الأولى 1429هـ الموافق /1 يونيو6 / 2008م انتقل إلى رحمة الله تعالى آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره)
مقدمة
البحوث الحضارية هي تلك البحوث القيمية التي تبحث في مشكلات الحضارة الإنسانية، وذلك لأنه لا حضارة إلا بالحضور المؤثر لمنظومة القيم الإنسانية في الحياة الاجتماعية، والأديان السماوية كلها وختامها المسكي هو الدِّين الإسلامي العظيم لأنه الدِّين الوحيد الذي لديه تلك المنظومة الكاملة والشاملة للحياة، كما لديه التجربة العملية لتكل المنظومة العلمية وقد أثبتت جدارتها خلال القرون الماضية، كما أن الواقع العالمي يشهد لها بعظمتها وريادتها رغم كل الانتكاسات التي منيت بها خلال مسيرتها الطويلة. وما كان ذلك إلا بسبب الانحراف عن المنهج القويم، والمسار السليم، والصراط المستقيم.
وبما أن الحضارة، تنطلق من الفكر، والثقافة، فنحن في هذا العصر نعاني من تفاقم هذه المشكلة التي تتلخص بالثقافة، التي يقول عنها سماحة الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): "الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعيِّن مستقبل الأمة.. فالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة تسير سيراً متميزاً في الحياة، فكرياً، وعملياً، ونظرياً، وسلوكياً". (السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص16)
ولكن ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، وفي ظل حضارة الرقم الإلكترونية التي حوَّلت الكرة الأرضية إلى قرية كبيرة، ولكن مزَّقت الأمة الإسلامية إلى أكثر من خمسين دولة وهي تسعى لتقسيمها أكثر، رغم أن عصرنا عصر التكتلات والتجمعات في كل شيء، إلا هذه الأمة التي يجمعها كل شيء ولكن فرقتها الثقافة المختلفة، بين المدارس التي حولتها من ثقافة الوحدة، والأخوة، والعدل، والمساواة، والشورى، إلى التكفير، والقتل، والتهجير خدمة للقوى الخارجية، وذلك لأنهم "عرفوا أن سرّ هذه الثورات يكمن في الثقافة، التي يحملها هؤلاء المسلمون، ولذا حاولوا تغيير هذه الثقافة وبالفعل استطاعوا تبديلها إلى ثقافة استعمارية، أو مخلوطة على أحسن الفروض، ولذا تسنّى لهم استعمار البلاد الإسلامية سنين طويلة وحتى الآن، واستطاعوا تقطيع البلاد الإسلامية، وفصل بعضها عن بعض بحدود مصطنعة، كما استطاعوا نسخ القانون الإسلامي وإبداله بالقوانين الشرقية أو الغربية..
إن الثقافة الإسلامية واضحة المعالم، وهي موجودة في الكتاب والسنة والكتب الفقهية والإسلامية بشكل متكامل، فإذا استطعنا إعادة هذه الثقافة وتعميمها فعندئذٍ نكون قد تقدمنا خطوة أخرى في طريق تحقيق الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة". (السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص19)
التبعية الثقافية الكارثية للأمة
فالعلَّة في الفكر والثقافة، يقول الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه الله): "لأنّ دور الفكر هو القيادة، وهذه القيادة لا ينحصر تأثيرها في الاتّجاه العام لحياة الإنسان فحسب، بل تتدخّل في كل مفردة من مفردات حياته". (ومضات: ص35)
ومشكلة الأمة الإسلامية في التبعية الفكرية الثقافية التي صارت كارثية عليها، لأنها مسخت لها هويتها، وأرادت أن تستأصلها من جذورها، وتُخرجها من فكرها، وثقافتها، وعاداتها، وتقاليدها وحتى من دينها، فوقعت الأمة بحالة من الانفصام في الشخصية الحضارية لها، التي ظهرت وبشكل فاقع جداً ما بين جيل الآباء والأبناء، فتجد عند الآباء الأصالة والشخصية، وعند الأبناء المياعة والتبعية، وهذا ما نراه بأم العين في كثير من البيوت والأسر العريقة في مجتمعنا اليوم.
هذه المشكلة المستعصية في هذا العصر تناولها سماحة السيد الفقيد، والمجتهد المجيد، والعالم الفريد في محاضرة من محاضراته الرائعة، وعالجها بطريقته البديعة، وأسلوبه الهادئ، فشخَّصها بنقاط، وأعطى حلولها بمسائل حسب الوسع الذي تستوعبه المحاضرة، ولكنها جميلة، ومفيدة، ومتميِّزة ككل محاضراته (رحمه الله عليه ورضوانه).
التبعية الثقافية أخطر أنواع التبعية
يقول السيد محمد رضا الشيرازي: "التبعية أنواع، فهناك التبعية الاقتصادية، والتبعية السياسية، والتبعية الاجتماعية، وهناك التبعية الثقافية، وهي أخطر أنواع التبعية، لأنّها تنبع من الداخل، فإنّ التبعية المفروضة من الخارج أمدها قصير في العادة، في حين أنّ التبعية إذا نبعت من الداخل وتحوّل الفرد إلى مستعبَد بمحض إرادته، فهذه العبودية ستكون طويلة وربما أبدية.. وقد نُقل أنّ مجموعة من العبيد الذين حرّرهم أحد الحكام خرجوا في تظاهرات رافضين التحرير ومطالبين بإبقائهم عبيداً! حيث إنّهم أُشربوا في قلوبهم العبودية والتبعية للأسياد، وإذا كان الشيء نابعاً من الداخل صعُب علاجه، وهذه هي التبعية التي يعمل المستعمرون على غرسها في صفوف المسلمين. ونذكر شاهدين على ذلك:
الشاهد الأوّل من العراق: فلقد واجه البريطانيون فيها مقاومة عنيفة، فواجهوا قوة الدِّين، وكان ثقيلاً عليهم وهم الإمبراطورية العظمى والوحيدة ـ كما يقولون ـ أن يُهزموا في العراق أمام مجموعة من الحفاة، تقول الجاسوسة البريطانية في العراق في مذكراتها (مذكرات مس بيل): "ففكرنا بطريقة لمواجهة الحالة، وانتهينا إلى ضرورة فصل المجتمع عن علماء الدين ومراجع التقليد"، ولكن كيف؟
تقول: "عن طريق إنشاء المدارس الحديثة"! وكانوا يوفدون أولاد رؤساء العشائر والشخصيات المهمة إلى اسطنبول بذريعة الإعداد العسكري وتلقي التدريبات، ويقومون ثمة بشحن عقولهم بما يشاءون.. وهكذا كانوا يقومون بإعداد أفراد من داخل المجتمع العراقي لا يفكّرون إلاّ بالطريقة الغربية وبما يخدم مصالح الحكومات الأجنبية.
الشاهد الثاني من إيران: لقد كتب أحد السفراء الغربيين تقريراً حول الأوضاع في إيران يقول فيه: إنّ مشكلتنا في إيران تتلخّص في الملالي والبازار (أي رجال الدِّين، والسوق)، فأيّ قانون نضعه إذا رآه الملاّ مخالفاً للدِّين يُحرّك السوق، والسوق يضغط بدوره على الحكومة، وبالتالي لا نتمكن من تطبيق ذلك القانون، يقول: "والحل في ذلك أن نُضعف التجار، وأن نُضعف نفوذ رجال الدِّين عن طريق إنشاء المدارس الحديثة". (ومضات؛ السيد محمد رضا الشيرازي: ص24)
فالخلل عندنا فكري وثقافي لأننا صرنا جميعاً من خرِّيجي تلك المدارس التي بناها لنا الأغراب فوضعوا فيها ما يخدمهم، واستقوها من مناهجهم الدراسية، وليتهم جاؤوا بها كاملة لتقدَّمنا وتطوَّرنا في مجالات العلوم العصرية المختلفة، ولكنهم مسخوها أيضاً فلا نحن حافظنا على ثقافتنا وتعليمنا ولا استطعنا أن نتعلم مثلهم، فضاعت الأجيال، وتأخرت الأمة، وفقدت الأمة شخصيتها الفكرية والثقافية، فوقعت الكارثة التي نعيش في أتونها اليوم.
والعجيب الغريب في المسألة أن لدينا منظومة متكاملة في ديننا وثقافتنا الإسلامية، ففرضوا علينا ثقافتهم، ومناهجهم، وأجبرونا على التخلِّي عن مناهجنا، وديننا، فصارت مادة التربية الإسلامية هامشية، ولا تدخل حتى في المجموع العام للدرجات الدراسية، فهي أشبه بحصَّة تربوية أخلاقية، واستوردنا كل العلوم منهم كالسياسة، والاقتصاد، والتجارة، وحركة السوق، والبنوك، والمصارف، والإدارة، والتنمية البشرية، والفلسفة، والاجتماع، والنفس، وكل العلوم الإنسانية، وهنا السؤال الذي لن تجد له جواباً عند كل المسؤولين وأصحاب الشأن العام في الأمة، وهو: لماذا استوردتم كل هذه المناهج من الخارج وأصولها وفروعها نبتت في أرضنا، وانتشرت من عندنا؟
نعم؛ استوردتم الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والنووي، والذَّرة، وكل هذه النظريات العلمية التي وضع آباؤنا أصولها وسرقها هؤلاء وفرعوا لها فروعها، ولكم أن تعودوا وتستوردوها ولكن لماذا استوردتم المناهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية وهي تخصنا ولم تدرِّسوا ما لدينا من علوم؟
يقول سماحة الفقيه الشيرازي في المسألة: " لقد كان الغرب في القرون الوسطى يغطّ في ظلام الجهل والتخلف في كل المجالات، كما يعترف مؤرخوهم بذلك. ففي المجال الصحي كانت مستشفياتهم كاصطبلات الحيوانات، أما الوضع العلمي فيكفي أن نعرف أنهم كانوا يقتلون علماءهم ويحرقونهم، و(المقصلة) الموجودة في لندن والتي كانت تفصل رؤوس العلماء وغيرهم، عن أجسادهم شاهدة على ذلك.
وأما المرأة فكانت محتقرة أيما احتقار، حتى بُعث نبينا (ص) وغمر العالم بأنواره، وما مبادئ حقوق الإنسان وحرية الرأي، وما يعبّر عنه بالديمقراطية في عالم اليوم إلاّ حصيلة احتكاك الغرب بالحضارة الإسلامية، فإذا كان الإنسان المعاصر ينعم بقدر من الحرية، والأمن، والعلم والمعرفة، فإنما ذلك ببركة النبي الأعظم (ص)". (الرسول الأعظم (ص) رائد الحضارة الإنسانية: ص35)
ومن هنا جاءت الكارثة الكبرى في الأمة حقاً، ولقد رآها وشعر بها، وتحسسها سماحة السيد الفقيه، وأعطى لها الحل الأمثل والممكن لخَّصها في أربعة نقاط أساسية، ونحن نُلخِّصها بتصرف منا، وذلك لكيلا نُطيل على الأخوة العزاء، ولكن لا بد لنا من البحث والحديث عن الإصلاح في هذه الأمة المنكوبة، والمظلومة، ولكن ليس بالعنف والتكفير والقتل والإبادة ولكن بفكر ومعتدل وطرح هادئ كما فعل السيد الفقيه الشيرازي.
وسائل مكافحة التبعية الثقافية
يقول سماحته: "وهي متعددة نذكر منها"، على سبيل المثال لا الحصر وربما هي أمهات الوسائل التي يمكن لنا ولهذه الأمة أن تكافح هذا الداء العضال "التبعية الثقافية" في الأمة الإسلامية.
1- إنشاء المعاهد التعليمية ابتداءً من الابتدائية وانتهاءً إلى الجامعة.
فالمعالجة الأولى يجب أن نعيد التعليم إلى ثقافتنا الأصيلة؛ "وهذا الأمر ممكن وعملي ونافع حتى لو فكّرنا فيه بلحاظ معادلات الربح والخسارة... إننا نحتاج إلى مزيد من المعاهد الإسلامية في بلاد الغرب، بل في بلادنا، يحتاج العراق اليوم إلى معاهد تعليمية موجّهة، أفلا نتمكن من القيام بدور ولو محدود في هذا المجال؟ (ومضات؛ السيد محمد رضا الشيرازي: ص26)
وقبل ذلك ألا نستطيع إنشاء دورات تعليمية في العطلة الصيفية؟ وهل نعلم تأثيرها الكبير؟"
فأول ما خسرنا التعليم، فبدأنا بخسارة الثقافة، وشخصية الأمة، ولذا يجب أن نبدأ الإصلاح الحضاري اليوم بإصلاح العملية التعليمية برمَّتها، من الحضانة والروضة، وحتى أعلى مراتب الدراسة الجامعية، لتكون نابعة من قيمنا وثقافتنا وموروثنا الفكري، وتعاليم ديننا الحضاري، وسيرة رسول الله (ص) رائد الحضارة الإنسانية وأهل بيته الأطهار (ع).
2- اجعلوا بيوتكم قبلة
الإسلام بدأ من المسجد، فكان مقر القيادة والثقافة والتربية والتعليم، فالأمة تخرَّجت من المسجد، والحضارة الإسلامية انبثقت من ذاك الركن الحضاري، الذي جعله رسول الله (ص) محوراً تدور حوله الحياة الإسلامية كلها، فعندما نعود إلى ذاك الركن ونُعيده إلى حياتنا وثقافتنا تعود لنا عزتنا وكرامتنا ويسمع العالم صوتنا، ويروا صورتنا الراقية، ويرهبوا جانبنا، ويخافوا من غضبنا.
هذه الفكرة الحضارية يطرحها سماحة السيد الفقيه الفقيد لأولئك المتغرِّبين والمهجَّرين في بلاد الغرب ولكن اليوم صارت عندنا في بلادنا، وغزونا فيها أيضاً فصار كل شيء كنا نسمع عنه في تلك البلاد من خلف البحار صارت في بلادنا، وشواطئنا، ومدننا، وملاعبنا، حتى غدت لا تتميَّز بينها وغيرها مما نراه بأم العين، من ثقافة التحلل والجاهلية في القرن الواحد وعشرين.
يرى سماحته، أن الحل لهذه المعضلة هي بقوله تعالى: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (يونس: 87)، أي لا تتوزّعوا، وتتبعثروا، وتتشتّتوا، في المجتمع المنحرف فتذوبوا فيه، بل لتكن بيوتكم بعضها بجوار بعض ومقابل بعض". (ومضات؛ السيد محمد رضا الشيرازي: ص28)
فتكوَّنوا في تجمعات إيمانية، فأبناؤكم وبناتكم لا يعيشون تلك الحالة من المياعة والخلاعة والمجون المنفلت من كل القيود القيمية والفضيلة الأخلاقية التي تنتشر في المجتمعات، فأعيدوا تجمعكم أينما كنتم وليكن محوركم المسجد لتعيشوا الوحدة والانسجام وتتوارثوا الفضيلة والتقوى.
3- تقديم البدائل الفكرية
سماحة السيد الفقيه لا يكتفي بتشخيص المشكلة ويُجرِّدها عن الواقع، بل يُريدنا أن نعيش الواقع ونسعى لنُصلحه، ونُعيده إلى حظيرة الإسلام كما كان قبل سنوات فقط، لذا يقول: "لا يكفي للمهتم بشؤون المجتمع أن يقول: إنّ أمراً ما هو خاطئ، بل عليه تقديم البديل الصحيح أيضاً، ونحن عندما نقول مثلاً: إنّ السياسة الموجودة غير صحيحة، فالمطلوب منّا تبيين السياسة الصحيحة، وهكذا في فروع الحياة الأخرى كالاقتصاد، والتربية، والعلوم الإنسانية التي تدرّس في الجامعات الحديثة، وهذا الأمر بحاجة إلى تخصّص واجتهاد". (ومضات؛ السيد محمد رضا الشيرازي: ص29)
هذه هي الواقعية المطلوبة من العالِم فعلاً، لا أن يكون مجرداً في تفكيره، ولذا إما يصطدم بالواقع المؤلم عندما يخرج إلى المجتمع، أو ينعزل عن الناس، ويعيش في كهفه الخاص، كالسياسي الذي يعيش في قبَّته العاجية، فكلاهما منعزل عن المجتمع وكلاهما المطلوب منه إصلاحه، لا الإبتعاد عنه وتركه لقمة سائغة بين أيدي اللصوص بمختلف أشكالهم وألوانهم.
ثم يضرب مثالاً رائعاً من مدرسة الإمام الصادق (ع) أعظم مدرسة عرفها التاريخ البشري، فيقول: "لقد ربّى الإمام الصادق(ع) مجموعة من التلاميذ، وكان كلّ منهم متخصّصاً في مجال.. إنّ تقديم البدائل يتطلّب منّا تخصّصاً ومعرفة بالمباني والمناهج ويحتاج إلى اطّلاع على الصغريات الخارجية، لأنّ بيان الحكم كما يحتاج إلى معرفة الكبريات الكلية يحتاج إلى معرفة الصغريات الخارجية أيضاً، كما لا بدَّ أن يتفرّغ كلّ منّا لأحد الفروع والمجالات، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع، فعلم الاجتماع مثلاً مليء بالنظريات الإلحادية، فلابد من أن نعرض إزاءها نظريات إسلامية". (ومضات؛ السيد محمد رضا الشيرازي: ص30)
4- الاهتمام بالأدب والفن
فعلينا أن نقدِّم البدائل في كل شيء، وذلك لأنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد فراغ بشكل دائم، وإذا لم نملأ الفراغ عند أجيالنا فإن غيرنا سيملأها كما يجري الآن، لأنه عندما قصَّر أهل الفكر والرأي والشأن العام عن تقديم البدائل الإسلامية، والقيمية، راح الناس إلى ما يجدونه مطروحاً في الواقع الذي يعيشونه، وإن كان مستهجناً في البداية – السفور أوَّل أمره – ولكن لم يمضِ إلا سنوات قليلة حتى صار هو الغالب الشائع في مجتمعاتنا والحجاب والستر هو المستهجن..
ولذا يطرح سماحة الفقيه الشيرازي مسألة في غاية الأهمية وهي الاهتمام بالأدب، والفن، لأنها من صميم المجتمعات، والثقافات، بل هي التي تُعطي المجتمع وتبلور له ثقافته، فيقول: "لقد غفلنا نحن كثيراً عن هذا الجانب، في حين إنّ له تأثيراً كبيراً في صوغ عقليات الناس بصورة مباشرة وغير مباشرة.. هل تعلمون مدى تأثير أفلام الكارتون في عقول الأطفال؟
وهل تعلمون أنّ كثيراً من هذه الأفلام تحمل إلى أطفالنا قيم الحضارة الغربية؟
إنّ لكل حضارة قيماً، وإنّ الأفلام المنتجة في الغرب تعبّر عادة عن تلك القيم، وهي تنتقل إلى أولادنا الصغار حتى ذوي الخمسة أعوام أو أقل، وينشأ أولادنا على تلك القيم من حيث لا نعلم".
إصلاح الفكر والثقافة
بهذه النقاط الأربعة وأساسها واحد كما ترون ويتلخَّص؛ بأن نهتمَّ بالتربية البيتية والتعليم الإسلامي ونُقدِّم البدائل السَّليمة، ونملئ الفراغات الاجتماعية بكل ما هو مفيد من فكرنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا التي ورثناها عن سادتنا من آل محمد (صلوات الله عليهم)، لأنهم هم الثقل الناطق المسؤول عن بناء ثقافة الإسلام والمسلمين، وعندما ابتعدت الأمة عنهم راحوا يبتعدون عن دينهم، وفكرهم وحضارتهم، وتسلَّط عليهم مَنْ شوَّه لهم فكرهم وثقافتهم وأعادها إلى الجاهلية من جديد.
والإصلاح في هذا العصر ممكن لا سيما إذا استغلَّينا كل إمكانيات هذه الثورة الرقمية العملاقة في إشاعة فكر وثقافة أهل البيت الأطهار (ع)، فإننا قادرون على تغيير العالم لأننا نشكل ثمنه إذا لم نقل ربعه كمسلمين، ولكن مشكلتنا في أنفسنا، وما غرسه الأعداء بيننا.
يقول سماحته: "إننا قادرون بإذن الله تعالى على التقدّم في هذه المجالات إذا شمّرنا عن سواعد الجدّ وتوكّلنا على الله وتفرّغ بعضنا للتخصّص فيها.. فالمطلوب منا أن نبدأ بملء هذه الفراغات بالتوكل على الله تعالى والاستمداد منه والاستعانة بأوليائه الطاهرين (ع)".
فالصلاح والإصلاح الحضاري في الأمة ممكناً وإن كان صعباً ولكن يجب أن تكون على أساس تلك القواعد السليمة للفكر والثقافة الإسلامية، وأول وأعظم ركيزة لها هي؛ (الرحمة، والسلام)، ونبذ العنف بكل ألوانه، وأشكاله، والتسلح بالفضيلة، والأخذ بالإسلام كله كمنظومة متكاملة، لا أن نتخذه عِضِين (مقسَّماً)، كما اتخذت قريش القرآن عِضين، فتاهت وضلَّت عن سواء السبيل.
نسأل الله تعالى أن يرحم سماحة السيد الفقيه الشيرازي برحمته الواسعة إنه أرحم الراحمين.
اضف تعليق