في المئة عام القادمة نحتاج الى رَكن المخلفات الماضية جميعها والبدء في وضع المخططات المؤسسة للحكم الرشيد الذي يسهم بتصحيح الخلل في النظم القائمة والتي عقدت الحياة السياسية، وترسيخ المتغيرات، وهذا لم يحصل الا بتعزيز الثقة بين الشعب والقوى السياسية، تقع على المسؤولين في الوقت الحالي مسؤولية تاريخية...
مئة عام كاملة انقضت من تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، مليئة بالمنعطفات السياسية والاحداث التي غيرت مجرى التاريخ في بلد الأنبياء ومهبط الرسل، ففي هذه العشرة عقود شهد العراق تحولا في انظمته وحكوماته ما لم يشهده نظير له على وجه المعمورة.
(الدولة الحديثة مفهوم أوروبي بدأ بالبروز في القرن السابع عشر ليترسخ على امتداد القرنين التاليين، الثامن عشر والتاسع عشر).
عودة للموضوع، بهذه المئوية تأسست الملكية وقضت عليها الجمهورية، وشهدت تقلبات سياسية واقتصادية وغيرها من النظم العامة التي تحكم او تنظم الحياة العامة للمواطنين، ورغم الطابع الحداثوي وإدخال النظام الديموقراطي الذي انتقل اليه العراق، بقي البلد يعاني من شدة التقلبات ولا زالت تلاصق آثارها الحياة السياسية والعامة.
لمن يقرأ تاريخ العراق الحديث لا يستغرب من الوضع الذي نعيشه في الوقت الحالي، فمنذ تشكيل الحكومة في عام 1921، تتواصل الخلافات السياسية، ونجد الحروب الداخلية قائمة، فلا يكاد ينتهي فصل من فصول السنة الا وهنالك تغيير في الوزارة او في التشكيلة الحكومية، ولا يمكن ان يكون ذلك امرا طبيعيا، فهو يدل على رخاوة الوضع السياسي منذ ذلك الحين وعدم ارتكازه على قواعد محكمة تجعله قادرا على الشروع بعمل وطني رصين.
ونتيجة لذلك عصفت الثورات الداخلية وازدهرت الانقلابات العسكرية، وتراجعت المشروعات التنموية والنهضوية في المجالات الاقتصادية وغيرها من المفاصل التي يُعتمد عليها لبناء دولة قوية متمكنة من النهوض بمؤسساتها، والسير بها وصولا الى العالمية او مصاف الدول التي اخذت توظف إمكاناتها لبناء مجتمعها من النواحي العلمية والتربوية وكل ما يتعلق بالرخاء.
عقب ذلك دخل البلد بمرحلة تغيير النظام الدموي الذي استباح جميع الحرمات، واوقف البلد عن التقدم لسنوات، وكأنه حكم على العراق والعراقيين بالإعدام مع إيقاف التنفيذ، فتراجع معه كل شيء، التعليم والصحة والقانون والنظام بمفهومه القائم على احترام القوانين الوضعية في البلد، ادخل البلد في حروب لا طائل منها سوى اشباع النزوات الفردية وإرضاء للإرادات الدولية، الخاضعة لمصالح هذه الدولة او تلك.
بعد عام 2003 دخل البلد من وجهة نظر العامة بحياة جديدة، وانتعشت الافراد ببعض من الحرية في الأفعال والاقوال، حتى صار الجميع يتحدث عن العلمية السياسية دون خوف، ووصمها بشتى الاوصاف، على العكس من السنوات الماضية التي حرمت عليهم التكلم مع النفس بموضوع سياسي، وكأنه النظام نجح بتوظيف الذات رقيب على ذات الفرد نفسه.
في العهد الجديد شهد العراق تعاقب رتيب على تشكيل الحكومات والانتقال السلمي للسلطة، لكن هذا لا يمنع من حدوث الانغلاقات، والصدامات الداخلية بسبب الاطماع والرغبة بالحصول على المزيد من المكاسب، ومع ذلك يمكن ان يكون هذا التغيير مؤشر إيجابي على انتقال العراق من مرحلة الى أخرى أكثر وعيا وأكثر انسيابية للمضي بالطريق السياسي.
ومع ذلك يبقى المواطن هو العنصر المغلوب على امره والخاسر الأكبر في العهدين السابق والحالي، فلا تولي الحكومات الحالية أي اهتمام لما يحدث لعامة المواطنين، والانشغال في الامتيازات الحزبية هي الصفة السائدة، وتراجع مع ذلك جودة الخدمات الصحية، وأصبحت المدارس الخاصة بديلا عن الحكومية، وبالتالي ازداد الضغط على الفرد بصورة تضاهي الماضي على الرغم من علاته المتراكمة.
بعد انقضاء مئة عام يزال المواطن العراقي يخشى المجهول، ولا يعلم ما الذي سيحدث في الغد القريب، وهذا ناتج بالتأكيد من غياب السياسات الواضحة من قبل الحكومات، والاكتفاء بالقرارات المرحلية التي تتسم بالذوبان وعدم صمودها مزيدا من الوقت امام المتغيرات السياسية والتطورات الحاصلة في جميع الميادين.
سبب الضعف التشريعي في البلد يعود الى التنصل من المسؤولية، وكل حزب يحكم لا يريد إكمال المسيرة، بل يعمد الى نسف ما قبله والتأسيس من جديد، وهنا الخلل الكبير الذي جعل العراق يعاني التراجع المستمر وليس التقدم المطلوب، وقد عمت حالة من التخبط والتضارب بوجهات النظر والتصادم في الطروحات الضيقة التي تعود لوجهات نظر شخصية او حزبية غير مجدية ولا تناسب الحالة التي يمر بها البلد.
من المآخذ الكبيرة التي تؤخذ على الحكومات العراقية السالفة والحالية بأنها لم تعرف مدى ما يحتله العراق من أهمية من خلال ما يمتلكه من موقع جغرافي مؤثر في الخارطة العالمية، بل تم توظيفه ليكون جزء من إثارة القلاقل في المنطقة وليس جزء من الاستقرار المطلوب؛ لتنمية المشروعات الاقتصادية والعمل على المشروعات التي تخدم أبناء المنطقة.
في المئة عام القادمة نحتاج الى رَكن المخلفات الماضية جميعها والبدء في وضع المخططات المؤسسة للحكم الرشيد الذي يسهم بتصحيح الخلل في النظم القائمة والتي عقدت الحياة السياسية، وترسيخ المتغيرات، وهذا لم يحصل الا بتعزيز الثقة بين الشعب والقوى السياسية.
تقع على رجال السياسية في الوقت الحالي مسؤولية تاريخية ووطنية لا يمكن تجاهلها، للقضاء على دوامة الازمات القائمة، التي نخرت جسد الوطن وحولته الى هزيل نحيف لا يقوى على مواجهة التحديات ومواكبة التطورات في مختلف مظاهر الحياة.
المئة عام القادمة بحاجة الى التخلص من سياسية المحاور التي ضاعفت الهم الشعبي، وحرمت المواطنين من خيرات بلدهم، فلا بد من اتباع سياسة خارجية تحاول إيقاف التدخلات الخارجية، وكف الصراعات الإقليمية التي اتخذت من العراق ارضا خصبة لنموها، وبالتالي تحويل البلد من مرتعا للأطماع، الى جنة للعيس بسلام ووئام.
مرت المئة الأولى بحلوها ومرها وذهبت معها أحلام الملايين من البشر وبقت أحلام آخرين معلقة على الأيام القادمة بأن تكون نقطة تحول لعراق خال من الاتعاب، وقائم على التوافق السياسي والنمو الاقتصادي الذي يحدثه ابناءه لتوفير بيئة يستطيع فيها الافراد العيش كما الشعوب الأخرى التي تنعم بالرفاهية والاستقرار.
اضف تعليق