أيهما أفضل، أن يشبّ الطفل خائفا معتمدا على كف أمه وأبيه، أم يكون مستقلا وذا شخصية مستقرة وراسخة؟، قد لا يكون الطفل معيارا صحيحا لقياس استقلالية الإنسان، ولكن بالفعل يوجد أطفال يرفضون أن يقادوا من أيديهم، هكذا يمكن أن ينشأ ويترعرع الطفل في حاضنة تدعمه لبناء شخصية تتحمل المسؤولية...
هناك نزعة تكوينية مغروسة في الإنسان تدفع به نحو الاستقلال الذاتي، أي أنه يحاول أن لا يكون تابعا بقدر الإمكان، حتى الأطفال في بعض الأحيان يعطون الكبار إشارات عن رغبتهم بالاستقلال، رغم ضعف الطفل وعدم معرفته للكثير مما يدور حوله، لكنني شخصيا لاحظت هذه الرغبة موجودة لدى فئات عمرية مختلفة، بدءاً من الطفل وصولا إلى الشيخ.
بعض الأطفال يرفض أن تقوده أمه من يده وهو في طريقه إلى المدرسة، يحاول الافلات من قبضة كف أمه أو قبضة أبيه، فيسحب يده ويسير كما يريد هو لا كما تريد أمه أو أبوه أو أخو الأكبر، هذه الحركات على عفويتها وغياب القصدية عنها، لكنها تؤكّد أن الطفل يريد أن يتحمل مسؤولية نفسه، لكنه في لحظات الضعف أو الخطر هو الذي يبحث عن الكف التي تدلّه على الطريق الصواب الخالي من المخاطر.
الاعتماد على الآخرين يختلف من شخص إلى آخر حسب طبيعة الحاجة له، فهناك من يطلب المعونة وهو بحاجة لها فعلا، مثلا يتعرض لخطر ما، أو تنقصه حاجة لا يمكنه بلوغها إلا من خلال آخرين، لكن هناك من يعوِّد نفسه على طلب المعونة بغض النظر عن حاجته لها، وهو في هذه الحالة مصاب بما يسمى بحالة الاعتماد المزمن على الآخرين، وهذا إعلان واضح عن عدم الرغبة بتحمّل المسؤولية، حتى لو فقد استقلاليته وأصبح تابعا.
الطفل الذي يرفض الانقياد لكف أمه أو أبيه، يجب أن نشجعه على ذلك، ولا ننهره أو نوبخه أو نخيفه من هذا الفعل، فقد ينظر له الكبار على أنه عناد، أو أنه قد يعرّض الطفل لمشاكل، لكن هذه الفعل أو الرغبة تدل أيضا على أنه يسعى نحو بناء شخصية يمكنها أن تتحمل مسؤولية نفسها وواجباتها، وإن كان الطفل لا يدرك ذلك، بمعنى هو لا يعرف لماذا يرغب بإفلات يده من كف أمه، لكننا من الأصحّ أن نشجعه على ذلك، كون هذا الفعل ينبع من أعماقه بطريقة طوعية، ودونما أي ضغط أو توجيه، إنه يفعل ذلك تحت ضغط الجينات.
الشباب بين الإقدام والتردد
لكن هناك أطفالا تسعى أمهاتهم كي يسيروا في الشارع وحدهم لكنهم يرفضون ذلك، بل يحاولوا بشتى السبل أن يمسكوا بيد ما تقودهم، ولا يخطون خطوة واحدة إذا لم يجدوا كف الأم أو الأب لتقوده، إنه شعور داخلي يدفع الطفل لهذا السلوك، لكن السؤال المهم أيهما أفضل، أن يشبّ الطفل خائفا معتمدا على كف أمه وأبيه، أم يكون مستقلا وذا شخصية مستقرة وراسخة؟، قد لا يكون الطفل معيارا صحيحا لقياس استقلالية الإنسان، ولكن بالفعل يوجد أطفال يرفضون أن يقادوا من أيديهم.
هكذا يمكن أن ينشأ ويترعرع الطفل في حاضنة تدعمه لبناء شخصية تتحمل المسؤولية، وعائلة أخرى يمكن أن تحطّم هذه الإرادة لديه، فيصبح ذا شخصية مهزوزة لا يمكنها الاعتماد على نفسها، ينطبق هذا على الشباب، فهذه الفئة ذات الأهمية البالغة للمجتمع، يمكن أن تنشأ ذات شخصية قوية، تتصدى لمسؤوليتها بجدارة، وتعتمد على قدراتها ومؤهلاتها في كثير من الأحيان، في حين هناك شباب على العكس تماما، فتجدهم متردّدين عاجزين عن اتخاذ أي قرار في صالحهم أو ضدهم.
السبب هو البناء الأسري والمجتمعي، فالأسرة يمكنها أن تصنع شبابا مسؤولا قويا ومتوازنا، أو العكس، وللمجتمع أو البيئة الاجتماعية دورها أيضا في تدمير أو بناء شخصية الشباب، إضافة إلى هذين الطرفين، يبقى هناك طرف آخر غير العائلة وغير المجتمع، يقع عليه الوزر الأعظم في بناء الشخصية، وهو يتمثّل بالشاب نفسه.
الشاب يجب أن يبني نفسه، بعيدا عن أساليب التبرير والتعكّز على الآخرين، فإذا كانت الأسرة ضعيفة أو فقيرة لأي سبب كان، وغير قادرة على دعم أبنائها الشباب، بسبب قلّة مواردها، أو جهلها بإدارة تلك الموارد، أو لأي سبب آخر، هنا يأتي الدور الذاتي المهم والكبير للشاب في تحمله للمسؤولية، بل هناك من يرى أن الشاب حتى لو توفرت له ظروف دعم مناسبة من العائلة أو الأقارب، فهذا ليس مدعاة للاعتماد عليهم لأنه هو المسؤول الأول عن بناء نفسه، كما أن فوائد البناء الذاتي الصحيح تعود أولا على صاحبها.
أنا المسؤول الأول والأهم
وهناك من يبقى حبيس النظرة والأمل للحصول على وظيفة في الدولة، وتبقى كل جهوده وآماله تتركز على هذا النوع من العمل الوظيفي محدود الموارد، وما أن يحصل بعض الشباب على وظيفة حكومية حتى تنطفئ أفكاره المستقبلية بشكل شبه تام، وبعضهم يطمئن بأنه حصل على راتب محدود وانتهى الأمر، فتموت لديه الرغبة في تطوير وتنويع موارده، وبهذه الطريقة يكون عبدا مطيعا للدولة، ويقتنع بصورة تامة بالمورد المالي (الراتب) الذي يحصل عليه، ولا يخطر في باله أن هناك شباب يحصلون في اليوم الواحد ما يعادل راتبه الشهري بالكامل، يحدث هذا حين يتملص الشاب من مسؤوليته في بناء نفسه ومستقبله.
كيف يتصرف الشاب في هذه الحالة؟، إن آفاق العمل تتطور بشكل متسارع على مستوى العالم، وأن مرحلة الشباب هي الأنسب للإنسان كي يتصدى لمسؤولياته الكبيرة، نعم يحتاج الشباب إلى دعم الآخرين، ولكن حجر الزاوية يكمن في الاستعداد الذاتي للشاب، فليس هناك من يكون بديلا له في إنجاز هذه المهمة، حتى أبوه أو أخوه أو صديقه لا ينفع أن يكون بديلا في قضية بناء الذات والتصدي المتميز للواجبات والمسؤوليات، ويجب أن يؤمن الشاب بنفسه وقدراته، ويترك جانبا التطلع إلى معاونة الآخرين له، عليه أن يقول لنفسه بحزم (أنا المسؤول الأهم والأول على بناء شخصيتي وحياتي)!!
اضف تعليق