القيم يمكن أن تخلق القوة. فإذا كان بوسعي اجتذابك وإقناعك بأن ترغب في ما أريد تحقيقه، فلن أضطر إلى إجبارك أو الدفع لك للقيام بما أريد. إذا كانت الولايات المتحدة (أو أي دولة) تمثل القيم التي يجدها آخرون جذابة، فسوف يكون بوسعها أن تستفيد من ذلك باستخدام...
بقلم: جوزيف ناي
كمبريدج ــ في اجتماع عُـقِـد مؤخرا بين خبراء في السياسة الخارجية من البلدان عبر منطقة الأطلسي، أخبر صديق أوروبي المجموعة بأنه اعتاد على القلق بشأن تراجع القوة الصارمة الأميركية، لكنه الآن يشعر بالاطمئنان. من ناحية أخرى، يساوره الآن قدر أعظم من القلق إزاء ما يحدث في الداخل وكيف قد يؤثر هذا على القوة الناعمة التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية الأميركية. تُـرى هل كانت مخاوفه مبررة؟
أدرك القادة السياسيون الأذكياء منذ فترة طويلة أن القيم يمكن أن تخلق القوة. فإذا كان بوسعي اجتذابك وإقناعك بأن ترغب في ما أريد تحقيقه، فلن أضطر إلى إجبارك أو الدفع لك للقيام بما أريد. إذا كانت الولايات المتحدة (أو أي دولة) تمثل القيم التي يجدها آخرون جذابة، فسوف يكون بوسعها أن تستفيد من ذلك باستخدام سياسة العصا والجزرة. تقوم القوة الناعمة الأميركية جزئيا على الثقافة الأميركية والسياسات الخارجية عندما تكون جذابة في نظر آخرين؛ لكنها تستند أيضا إلى قيمنا وكيف نمارس الديمقراطية في الداخل.
كما تُـظـهِـر استطلاعات الرأي الدولية، لم تكن ولاية الرئيس دونالد ترمب رحيمة بالقوة الناعمة الأميركية. كان هذا في جزء منه رد فعل لسياسة ترمب الخارجية الكارهة للأجانب، والتي أبعدت الحلفاء والمؤسسات المتعددة الأطراف، فضلا عن استجابة إدارته العاجزة لجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). لكن الأمر الأشد إضرارا بالقوة الناعمة الأميركية كان متمثلا في الجهود التي بذلها ترمب لتعطيل الانتقال المنظم للسلطة السياسية بعد أن خسر الانتخابات في عام 2020. وفي السادس من يناير/كانون الثاني 2021، كما وصف السناتور الجمهوري بِـن ساسي غزو مبنى الكابيتول الأميركي، "نُـهِـب الرمز الأعظم في العالم للحكم المستقل في حين جَـثَـم زعيم العالم الحر مرتعدا خلف لوحة مفاتيح وهو ينشر التغريدات على تويتر ضد نائبه لأنه سعى إلى الوفاء بواجبات يمينه الدستورية".
كان ذلك صادما للدول الحليفة لأميركا ودول أخرى، وتضاءلت جاذبية أميركا. ولكن هل تتمكن القوة الناعمة الأميركية من التعافي؟
لن تكون المرة الأولى. تعاني الولايات المتحدة من مشاكل خطيرة، لكنها تمتلك أيضا القدرة على الصمود والإصلاح، وهو ما أنقذها في الماضي. في ستينيات القرن العشرين، تسبب إرث العنصرية في أميركا في اندلاع أعمال شغب كبرى في المدن، وازدادت الاحتجاجات ضد حرب فيتنام حدة وعنفا. وانفجرت القنابل في الجامعات والمباني الحكومية. وقتل الحرس الوطني الطلاب المحتجين في جامعة كنت. كما شهدنا اغتيال مارتن لوثر كنج الابن، واثنين من آل كينيدي. وأشعل زعماء الدهماء من أمثال جورج والاس نيران الكراهية. مع ذلك، في غضون عشر سنوات، استن الكونجرس سلسلة من الإصلاحات السياسية، وساعدت نزاهة جيرالد فورد، وسياسات حقوق الإنسان التي انتهجها جيمي كارتر، وتفاؤل رونالد ريجان، في استعادة جاذبية أميركا.
علاوة على ذلك، حتى عندما سار المحتجون في شوارع العالم للـتـنـديد بالسياسات الأميركية في فيتنام، فإنهم كانوا أكثر ميلا إلى إنشاد أغنية "سوف تكون لنا الـغَـلَبة"، وليس التغني بنشيد "الأممية". لقد أظهر نشيد حركة الحقوق المدنية أن قوة أميركا في اجتذاب الناس لا تعتمد على سياسة حكومتها بل تعتمد في قسم كبير من الأمر على المجتمع المدني وقدرته على انتقاد الذات والإصلاح.
على النقيض من أصول القوة الصارمة (مثل القوات المسلحة)، تكون العديد من موارد القوة الناعمة منفصلة عن الحكومة وتجتذب الآخرين على الرغم من السياسة. فأفلام هوليود والمسرحيات الموسيقية الشعبية التي تعرض نساء مستقلات أو أقليات مُـمَـكَّـنة قادرة على اجتذاب الآخرين. وكذا تفعل الصحافة المتنوعة الحرة في أميركا، والعمل الخيري الذي تقوم به مؤسساتها، وحرية البحث في جامعاتها. وتطور الشركات والجامعات والمؤسسات والكنائس وحركات الاحتجاج قوة ناعمة خاصة بها، والتي قد تعزز آراء الآخرين حول أميركا.
ولكن في حين قد تعمل الاحتجاجات السلمية على توليد القوة الناعمة، فإن الغوغاء داخل مبنى الكابيتول وحوله في السادس من يناير/كانون الثاني كانوا بعيدين تماما عن السلمية. كانت أحداث ذلك اليوم صورة توضيحية مزعجة للطريقة التي أدت بها سلوكيات ترمب إلى تفاقم الاستقطاب السياسي، وهو ما يواصل فعله من خلال جعل أسطورته حول الانتخابات المسروقة اختبارا حاسما في الحزب الجمهوري.
من المؤكد أن الولايات المتحدة شهدت زيادة في الاستقطاب السياسي قبل انتخاب ترمب في عام 2016. لكن ترمب أبدع في استغلال وتأجيج الشعبوية الكارهة للأجانب والمهاجرين كسلاح سياسي للسيطرة على الحزب الجمهوري، مما أدى إلى إخضاع الجمهوريين في الكونجرس لتهديدات التحدي الأساسي من جانب أنصاره. ولا يزال كثيرون يشعرون بالخوف إلى الحد الذي يجعلهم عاجزين عن معارضة أكاذيبه حول انتخابات 2020. ما يدعو إلى التفاؤل أن العديد من مسؤولي ومشرعي الولايات، في ظل النظام الفيدرالي، تصدوا لجهود ترمب لترهيبهم وحملهم على "إيجاد" الأصوات. ويخشى بعض المتشائمين أن هذا الاتجاه قد لا يستمر.
عند مخاطبة أولئك الذين يشعرون بالحزن لزوال الديمقراطية الأميركية، من الأهمية بمكان أن نذكرهم بأن الإقبال غير المسبوق على الانتخابات في 2020 أطاح بزعماء الدهماء. وجرى تأييد النتيجة في أكثر من ستين قضية نظرتها المحاكم وأشرف عليها قضاء مستقل، بما في ذلك بعض المعينين من قِـبَـل ترمب. وأخيرا، صدق الكونجرس على النتيجة.
هذا لا يعني أن كل شيء على خير ما يرام في ما يتصل بالديمقراطية الأميركية. فقد تسببت رئاسة ترمب في تآكل مجموعة من المعايير الديمقراطية، ولا يزال الاستقطاب باقيا، كما يصدق أغلب الجمهوريين أكاذيبه حول الانتخابات. وتساهم نماذج أعمال وسائط التواصل الاجتماعي في تفاقم الاستقطاب القائم من خلال الاعتماد على خوارزميات تستفيد من إثارة "تفاعل" المستخدم، ولم تستجب شركات مثل فيسبوك وجوجل (وببطء شديد) إلا بالكاد، تحت ضغوط من الرأي العام وجلسات الاستماع في الكونجرس.
في الوقت ذاته، لا تزال الثقافة الأميركية تتمتع بمصادر للمرونة قَـلَّـلَ المتشائمون من شأنها في الماضي. تُـعَـد حرية الصحافة، والمحاكم المستقلة، وحق الاحتجاج السلمي، بين أعظم مصادر القوة الناعمة التي تتمتع بها أميركا. وحتى عندما تتسبب سياسات حكومية خاطئة في التقليل من جاذبية أميركا، فإن قدرتها على التأمل في الذات والتصحيح الذاتي تجعلها جذابة للآخرين على مستوى أشد عمقا. كما أخبرت صديقي الأوروبي المتشكك، فإن القيم تتغير مع الأجيال، والجيل الأكثر شبابا هو أحد مصادر الأمل.
اضف تعليق