الإصلاح الاقتصادي الذي يترقبه الجميع صعب التحقق ما لم تكن هنالك إصلاحات في النظام الضريبي، ويبقى هذا الامر مرهون بالتوافق السياسي بعيدا عن مصلحة المواطن والوطن، فاذا اصطدمت الإرادة الوطنية بالسياسية يعني ذلك ان العراق لم يخرج بعد من دائرة الخطر الذي يمكن ان يفتك به في المستقبل القريب...
في العراق تكاد تكون ثقافة الضرائب معدومة او موجودة بصورة ضئيلة، ولا يقتصر ذلك على المواطن الاعتيادي بل كذلك رجال السياسية والعاملين في القطاع الحكومي جميعا، لا يعرفون أهمية هذا القطاع في تحسين الوضع الاقتصادي وإنعاش الحركة التجارية في البلد، وكلما ارادت الحكومة الاقدام على هذه الخطوة او التلاعب في نسبة الضريبة المستقطعة من المواطن يعتبره الشارع عقوبة حكومية جديدة.
النظام الضريبي ليس من النظم الجديدة في البلدان، فهو نظام معتمد من قبل الدول العظمى وكذلك المتوسطة والضعيفة بقوتها الاقتصادية، لكن نسبة الضرائب تعتمد على القوة الاقتصادية التي تتمتع فيها الدولة، فعلى سبيل المثال احتلت المكسيك المرتبة الأخيرة من بين 12 دولة هي الأعلى عالميا باستقطاع الضرائب، وتستقطع 9.8% من دخل الفرد موزعة على 8.4% ضريبة دخل، و1.4% للضمان الاجتماعي.
بينما حلت بلجيكا في المرتبة الأولى من بين هذه الدول، وتستقطع 42.6% من الدخل، موزعة على 26.6% كضريبة على الدخل و2% ضريبة للدولة و14% للضمان الاجتماعي.
وفي العراق بلغت نسبة ضريبة العقار المفترضة هي 9%% من سعر العقار المقدر، أما الضريبة على نقل الملكية فهي تصاعدية تبلغ من 3% وحتى 6% من قيمة الملكية، أما نسبة ضريبة الدخل فتبلغ 15% من صافي الربح.
هذا الاستعراض البسيط ليس لمعرفة ما تتقاضاه الحكومات من مواطنيها، لكن لمعرفة مدى أهمية هذا الجانب في رفد الدخل القومي للحكومة التي تفتقر لمصادر التمويل وتعتمد على مصادر الطاقة فقط، اذ تعتمد أكبر الدول الاقتصادية على إيرادات الضرائب المفروضة على المواطنين والشركات في القطاعين الخاص والعام، فقد بلغت نسبة مساهمة الضرائب في الدخل القومي الأمريكي عام 2010 -24.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولو أجرينا مقارنة سريعة بينها وبين ما يجنيه العراق من هذه الضرائب، نجد ان نسبة المساهمة الفعلية في الناتج القومي تبلغ 1% وهي تعد من النسب الضئيلة جدا، قبالة ما تشارك فيه الضرائب بالدخل القومي في البلدان الأخرى.
منذ تغيير النظام السياسي بعد عام 2003 طرأت الكثير من التغييرات على الأنظمة والقوانين الوضعية في البلاد، الا ان الحكومات المتعاقبة أهملت ملف الضرائب، غير شاعرة بضرورته ودوره الفعال في بناء أساس اقتصادي للبلد، وقد اعتمدت على المصدر الأحادي وهو النفط الذي يتسم بالأسعار المرتفعة ووفرة في الإنتاج، ما سهل عليها عبور الفترة القصيرة حتى تسلم الملف الى من يخلفها وهكذا يمشي الحال.
الاعتماد على النفط وإهمال مصادر التمويل الأخرى وضع الحكومات العراقية في أوضاع حرجة، اذ لم تشرع ببدائل تعوض فيها الانخفاض او الانحدار بأسعار النفط، وكذلك ما زامن ذلك من ضعف في التبادل التجاري الدولي بالنفط نتيجة الخلافات السياسية والتنافس بين المنتجين الذين أصبحوا يضاربون بالأسعار إرضاء للمجتمع الدولي، او الحصول على مكتسبات سياسية على حساب المنفعة الاقتصادية.
ومن المؤشرات المهمة المتعلقة بملف الضرائب في العراق هو اتسام الإجراءات المتبعة لضبط الايقاع بالسطحية دون الخوض في تفاصيل العمليات المشبوهة التي تحدث في المنافذ الحدودية ومديريات الجمارك، وقد نبه التقرير الذي أعدته هيئة النزاهة الوطنية الى أن أحد العوامل التي تقف عائقا في طريق الإصلاح الاقتصادي هو الفساد المستشري في هذا الملف.
ولا ينكر محاولات الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي الرامية لتقنين عمليات الفساد والسيطرة على الأموال المنهوبة في الموانئ، الا انها بقيت إجراءات مرحلية لم تصمد امام الكم الهائل من الفوضى التي ترافق آلية عمل الجهات المختصة في المنافذ الحدودية.
وتعطينا هيئة الجمارك العامة مثالا حيا على كمية الفساد المستشري في البلد، فقد أعلنت عن حصولها على (400 مليار دينار/306.5 ملايين دولار) خلال ستة أشهر في أحد الأعوام، لكن هذا المبلغ ضئيل جدا بالمقارنة مع استيرادات القطاع الخاص، حيث كان البنك المركزي العراقي قد أعلن أن الحوالات الخارجية والاعتمادات المستندية لاستيرادات القطاع الخاص لا تقل عن 30 مليار دولار في نفس العام، ولك ان تتخيل الفارق وحجم الفساد.
ملف الضرائب يعتبر من الملفات شديدة الحساسية بالنسبة لعامة الشعب والطبقة السياسية، الا انه يمكن الاعتماد عليه عبر اسهامه وبشكل كبير في انقاذ الاقتصاد العراقي من الانهيار في حال تعرض لنكبة أخرى، فالقانون الحالي قد لا يتناسب والحالة الاقتصادية التي يمر بها البلد، فلا بد من صياغة مسودة قانون ضريبي جديد يقوم الموازنة العامة للدولة عن طريق بوابة الضرائب.
وهذه الضرائب المتحصلة من العقار والعقود الحكومية، الى جانب ما يتم استقطاعه من شركات النقال وغيرها، يجب ان تذهب لمشاريع تنموية تولد حركة ديناميكية للأموال الداخلية في البلد، وبالنتيجة تعود بالفائدة على الفرد الذي دفع جزء يسير من دخله الشهري لصندوق الضرائب.
الإصلاح الاقتصادي الذي يترقبه الجميع صعب التحقق ما لم تكن هنالك إصلاحات في النظام الضريبي، ويبقى هذا الامر مرهون بالتوافق السياسي بعيدا عن مصلحة المواطن والوطن، فاذا اصطدمت الإرادة الوطنية بالسياسية يعني ذلك ان العراق لم يخرج بعد من دائرة الخطر الذي يمكن ان يفتك به في المستقبل القريب.
اضف تعليق