هل من الممكن استعادة الدين أو الاسلام مؤثرا راكزا في الحياة الحديثة في المجتمعات المسلمة أو في التاريخ الحديث الذي دخلت فيه المجتمعات المسلمة راغمة وليست مختارة وبعد قرن من التراجع الاسلامي أمام مؤثرات وتطبيقات الحداثة وعملية الفصل بين الدولة والاسلام وبين المجتمع والاسلام أحيانا التي مارستها التأثيرات الحداثية...
لقد ظل التاريخ الاسلامي يحدد الهوية الاسلامية جغرافيا على مديات المساحات الممتدة من أفريقيا الى آسيا والتي قامت على أراضيها دول ومجتمعات الاسلام أمبراطوريات كبرى وأمارات وسطى وأخرى صغرى، وقد تناول تلك الحدود أو حدود هذه الجغرافيا الاسلامية المستشرقون والمؤرخون الأوربيون في تحديدهم المجال الهوياتي والثقافي والحضاري للإسلام من خلال دراساتهم وبحوثهم التي تناولوا فيها تاريخ دول وشعوب وعقائد هذه الجغرافيا تحت اسم عالم الاسلام أو العالم الاسلامي مما أسهم في ترسيخ حدود ومجال هذه الهوية الكبرى.
يقول بروس بي لورنس "تقوم الحضارة الاسلامية باستحضار شبكة جغرافية-ثقافية أوسع من أن يمكن تحديدها بمجرد الولاء للاسلام دينا وطقوسا وشريعة". (1)
وقد صورت الرحلات الاستكشافية التي قام بها الرحالة المسلمون تلك الجغرافيا ومنحتها في الذاكرة الاسلامية ذلك البعد القائم على التواصل شبه الأبدي، وهنا نذكر رحلة المقدسي أبو عبد الله شمس الدين بن محمد البشاري في القرن الرابع الهجري وقد انتهت رحلته في سنة 357هـ ورحلة ابن جبير أبو الحسن محمد بن أحمد الكناني في القرن السادس الهجري وقد خرج من غرناطة سنة 579هـ ورحلة ابن بطوطة محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي الشهيرة في القرن الثامن الهجري وقد بدأ رحلته سنة 725هـ -
وقد أعقبت تلك الرحلات الاسلامية الرحلات الاستكشافية والاستشراقية الفكرية الأوربية المتأخرة الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وقد منحت الذاكرة الأوربية ذلك التصور عن التواصل شبه الأبدي في هذه الشبكة الحضارية والثقافية في تلك الجغرافيا الاسلامية وكشفت عن تلك الحقيقة التاريخية والحضارية وصولا الى السياسية والتي تشكل أحد أهم مرتكزات الواقع الدولي الى ما قبل غياب الدولة العثمانية الاسلامية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ورغم دخول فرنسا الى هذا العالم واحتلالها مصر وبلاد الشام 1798 م–1801م واستيلائها على الجزائر وتونس والمغرب في الأعوام 1830 م و1881م و1912م على التوالي، ثم دخول بريطانيا الى اليمن ومصر والسودان في الاعوام 18390م و 1882م و 1898 م على التوالي، واحتلال ايطاليا ليبيا 1912م، والتي أعقبها الاحتلال البريطاني والفرنسي للعراق وبلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى، لكن كل هذه التدخلات والاحتلالات لم تؤثر في انتماء هذا العالم الى الديني والحضاري والثقافي والهوياتي للاسلام رغم محاولات هذه القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك محو الهوية الاسلامية في هذا العالم عبر إحياء المحليات القومية والاثنية أو سياسات الإلحاق بالغرب سياسيا وثقافيا وحتى هوياتيا، لكن هذا العالم كان يجد الرابطة الأساسية في وجوده الهوياتي والثقافي في الاسلام وهو ما دفع مجتمعات هذه الدول الاسلامية الى خوض غمار المواجهة والحروب مع هذه الدول الاستعمارية والمتقدمة بآليات الحرب والصناعة وتحت يافطة الهوية الاسلامية التي لا تجيز للآخر الكافر أن يحكم المسلمين.
وكذلك الحال في الجناح الشرقي للعالم الاسلامي فقد حاربت تلك الشعوب الاسلامية القوات البريطانية والنفوذ البريطاني في القرن التاسع عشر الميلادي وتشهد معارك وادي خيبر في أفغانستان مع الجيش البريطاني ومقاومة هذا النفوذ في الهند وايران القاجارية تعبير عن الرفض الحضاري والثقافي للطاريء الحضاري والثقافي وحتى الديني الذي كانت تمثله تلك القوى الأوربية والتي كانت إختصارا يطلق علي جيوشها وشعوبها في ربوع العالم الاسلامي اسم " الكفّار" وهو يعبر بنفس الوقت عن الخلفية الدينية–الاسلامية الراكزة في الهوية الحضارية والثقافية التي تطغى على تلك المساحات الواسعة الممتدة من أفريقيا الى آسيا، أو تلك الجغرافيا التي ظلت تشكل حدود العالم الاسلامي الى هذا اليوم، ويظل هو العالم الوريث للكتلة الحضارية الاسلامية رغم محاولات الفصل القومي التي مارستها أيديولوجيات الحداثة القومية والوطنية.
ولم تكن تلك الجغرافيا تسعى الى تقويض امتداداتها في عالم الاسلام الوسيط وهي تواجه انهياراتها السياسية مع بدايات أفول الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. فقد كانت دعوات الاصلاحية الاسلامية ومحاولات النهضة الاسلامية تنبعث من كبرى القوميات الأربعة في اطار الدول الاسلامية القائمة آنذاك والتي يتشكل منها هذا العالم الديني، وهي العربية والتركية والامازيغية والفارسية اضافة الى المغولية الهندية ولم تكن هناك مطالب بالاستقلال والانفصال القومي والعرقي، وكان قادة الرأي العام الاسلامي في مواطن هذه القوميات يتشاركون في الفكر والانتماء الهوياتي الإسلامي، فقد ظل الدين في هذا العالم الوسيط لاسيما في تلك الجغرافيا الاسلامية هو المعبر الأساسي عن هوية تلك الشعوب وذي الصلة الوثيقة بأفكار وتطلعات هذه الحضارة القديمة التي نشأت في ظل الاسلام.
وحين تخلت اديان المسيحية واليهودية ولو اضطرارا عن حقوق التأسيس للحضارة الغربية لصالح الحداثة التي حلت بديلا عن العالم الوسيط ونزعت الدينية عن رؤية وطريقة تفكير الغرب الحديث، ظل الاسلام مصرا على حق التأسيس لحضاراته ودوله وشعوبه وظلت فكرة وهوية التأسيس الاسلامي هي الفاعلة في الرؤية وطريقة التفكير في العالم الإسلامي، وهو تعبير عن هذا الالتصاق الجاد والحاد بين الاسلام وشعوبه من جهة والالتصاق بين الدينية الاسلامية والجغرافيا الأفروآسيوية من جهة أخرى، مما يدع اسرائيل تعيش هاجس القلق المستمر والخوف من استعادة الجغرافيا الاسلامية فكرتها وحضورها في الوعي الاجتماعي الاسلامي الذي قد يبرز بديلا عن الاسلام السياسي، لا سيما مع مسارات التصحيح التي بدأت تلتزم بها بعض الجهات والمؤسسات الاسلامية في استبدال الاسلام السياسي بالإسلام الاخلاقي أو الاسلام الروحي أو الاسلام الوسطي أو الاسلام التنويري المستنسخ عن الحداثة، لقد وصلت مسارات التصحيح حتى الى طالبان في أفغانستان، وهو ما يدع الاسلام أكثر قبولا ورواجا في دوله وشعوبه وأكثر انسجاما مع الهوية الدينية–الاسلامية لهذه المجتمعات.
فانفصال الاسلام عن آيديولوجيات السياسة لاسيما بعد فشل الاسلام السياسي العربي في تجارب الحكم التي خاضها عبر صناديق الاقتراعات غير المنسجمة مع قواعده الفكرية والآيديولوجية سيعيد الاسلام الى الفضاءات التقليدية المشحونة اسلاميا–اجتماعيا بالتبجيل الاجتماعي للأثر الديني–الاسلامي فيها مما يعيد أيضا للإسلام رمزيته الخيرية والتقوية العالية وبذلك يمهد الى تشكيل وعي اجتماعي–اسلامي ذا بعد ثقافي وحضاري يعيد انتاج الهوية الاسلامية من جديد.
الامكان التاريخي في الاسلام الحضاري
لكن قد يبدو اعتراضا منطقيا أو واقعيا، هل من الممكن استعادة الدين أو الاسلام مؤثرا راكزا في الحياة الحديثة في المجتمعات المسلمة أو في التاريخ الحديث الذي دخلت فيه المجتمعات المسلمة راغمة وليست مختارة وبعد قرن من التراجع الاسلامي أمام مؤثرات وتطبيقات الحداثة وعملية الفصل بين الدولة والاسلام وبين المجتمع والاسلام أحيانا التي مارستها التأثيرات الحداثية العربية أو المنهجيات العربية المستنسخة عن الحداثة الأوربية... وهل يمتلك الاسلام ذلك القدر التاريخي في العودة الحضارية الى المجتمعات المسلمة ؟.
تقول كارين أرمسترونغ "كلما افتربنا من نهاية القرن العشرين وجدنا أن الدين قد أصبح ثانية قوة يجب أن يحسب حسابها، إننا نشهد إحياء للدين واسع الانتشار لم يتصوره كثيرون خلال الخمسينات والستينات من هذا القرن... على أي حال يبدو أن الدين حاجة إنسانية هامة لا يمكن إهمالها أو دفعها الى مواقع جانبية " (2) ويؤشر خوزيه كازانوفا ذلك الظهور العالمي للدين في الثمانينات من القرن العشرين ليستخلص عبرتين وفق قوله، العبرة الأولى أن الأديان موجودة لتبقى والعبرة الثانية أن الأديان تظل تضطلع بأدوار عامة في بناء العالم الحديث (3).
وقد احتل الإسلام موقعا مؤثرا ومهما وذا خصوصية فاعلة في هذه العودة المفاجئة للدين في ظل العلمنة المهيمنة في التاريخ الحديث، ولكنها بالنسبة للإسلام ليست عودة غير متوقعة بل هي كشفت عن حجم المماهاة الكاملة والقوية بين الاسلام ومجتمعاته الأفرو–آسيوية والتي شكلت ذلك العائق البنيوي والمركب في طبيعة هذه المجتمعات أمام موجات أو محاولات التغيير الحداثوي التي استهدفت هذه المجتمعات على مدى قرن من الزمان وهو القرن العشرين، ومن ثم يعود الاسلام ومن جديد وهو يشكل احدى أقوى الجبهات العالمية أمام الغرب الحداثوي التوسعي وامام الممثل الرسمي للغرب في عالم مابعد الحداثة وهي الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما دعا صموئيل هنتغتون الى التفكير جديا بالصدام الحضاري بين الغرب والاسلام وتوقعاته في صدام الحضارات.
ولكن هذا الصدام ليس بسبب العودة الأصولية للإسلام بقدر ما يحمله المشروع الغربي–الأميركي الحداثوي من نوايا الإصطدام بالإسلام بل أن هذه العودة للإسلام الأصولي إنما كانت بفعل تلك المواجهة المتعمدة بعد الإستفزاز الذي مارسته تلك القوى الكبرى للإسلام لا سيما في الازدراء الحضاري الذي تأسست وفقه المركزية الأوربية تجاه الحضارات والشعوب الأخرى.
لكن هل يعني ذلك أنها دعوة الى تجاوز المحلية والوطنية والتخلي عن الهوية الوطنية لصالح الهوية العامة للانتماءات الدينية–الاسلامية ؟، أم أنها دعوة الى الحقبة الماضوية في بنية الدولة الاسلامية ؟ وتحديدا في الدولة العثمانية التي وجدت من يؤسس لفكرتها في ظل المواجهة الحضارية مع الغرب أو في ظل المواجهة الطائفية في العالم الاسلامي. أو هي دعوة الى تأسيس النظم التقليدية التي تستند الى العرف الديني والاجتماعي في حكم وادارة البلاد ؟ طبعا قد تقود المقدمات الأولى الى مثل هذه الاستنتاجات لكنها ليست بالضرورة ان تكون نتاجا نظريا أو عمليا لهذه التصورات.
ولذلك نقول، ان التفكير بمثل هذه الأسئلة يطرح أزمة أخرى في طبيعة الفكر العربي المعاصر، انه ظل يخضع الى ثنائية الكون أو عدم الكون، ثنائية تجعل من الواقع محفوفا بخطر السقوط ان تجنبنا هذا الكون الافتراضي من الحلول والمعالجات في استنساخ تجارب الآخر ليس المختلف فقط وانما المعادي أيضا تاريخيا وسياسيا مما يدعنا بإزاء ذلك في عدم الكون دولة ومجتمعا حديثا داخلا في سياقات وسباقات هذا العالم الحديث.
أو من جهة أخرى إذا تجنبنا أو تخلينا عن الكون التاريخي الذي تمثله وتحظى به الأنا التاريخية في دول ومجتمعات العرب والاسلام التي حظيت بالنجاة من الفشل والانهيارات فانه يكون خروجا على تقاليدنا وعزوفا عن أصالتنا التي لانجد ذاتنا إلا فيها، تلك الثنائية من الحصار المفروض علينا فكريا وأيديولوجيا أسهمت الى حد بعيد في جمودنا وتوقفنا الفكري والحضاري ولم نعد قادرين على الابداع والعطاء الفكريين والمعرفيين فاما حداثويين بالكل أو ما قبل حداثويين بالمطلق وهو ما أدى بنا الى تلك العطالة الحداثوية والأصولية السائدة في مجتمعاتنا العربية.
ان واحدة من صور العطالة الحداثوية لدينا أننا نمزج دائما بين الحداثة والتنوير وهو ما أساء الى مفهوم التنوير دائما، فالحداثة حدث تاريخي وموضوعي يعبر عن تطور تاريخي حدث في أوربا ومجاله الموضوعي هو الحياة الأوربية بكل صورها وصيغها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأما التنوير فانه موقف فكري ومجال ذاتي تتكون فيه الآراء والأفكار والمفاهيم في مديات الرؤية الشخصية والذاتية للإنسان المفكر وهو نظري أكثر مما هو عملي وفي حالات انطباقاته العملية وتفعيل مضامينه الذاتية في الموضوع المعرفي والثقافي والاجتماعي فانه يكون هو الحداثة، وبذلك فهي تشكل الجانب الموضوعي والعملي من التنوير الذي هو عملية فكر محض، لكن المرحلة التاريخية له تسمى الحداثة.
ومن هذا الدمج بين الحداثة والتنوير تأسست لدينا فكرة أو عملية الاستنساخ المتكرر والمقصود للحداثة باعتبارها تنويرا انسانيا شاملا وعاما يخضع له التاريخ البشري الحديث وبشكل مطلق، وهي إحدى مغالطات فهم التنوير الذي يؤمن ويتأسس في النسبية الزمانية والمكانية وهو ما يتيح المجال للأمم والمجتمعات الأخرى ان تتبنى نماذجها وتطوراتها الحديثة وفق ثقافاتها وهوياتها وتقاليدها الفكرية الخاصة بها.
وهنا نضع مثالا لها دول مثل اليابان والصين التي استمدت تطورها من ذاتها الثقافية والتاريخية المحضة ووجدت مرجعيتها في أصولها التاريخية والاجتماعية، لقد نقلت اليابان العلاقات القرابية الاولى من الحقل الزراعي الى المعمل الصناعي وكان ذلك واحدا من أهم أسباب تطورها ورقيها الحضاري الحديث بينما تجاوزت الحداثة الصناعية الاوربية تلك العلاقات الانسانية الى العلاقات الأكثر مادية وتراتبية اقتصادية.
فقد آمنت الحضارات الشرقية المنبعثة أخيرا أن تكون تنويريا لايشترط فيك أن تكون غربيا، لكن الدمج الممارس عربيا لدينا ثقافيا وفكريا بين التنوير والحداثة الأوربية فأن تكون حداثويا يشترط ان تكون غربيا جعل ذاتنا العربية والوطنية تحتكم دائما الى المقارنة بيننا وبين الغرب الحداثوي او الغرب الحديث، وهو ما تسبب في إزدراء واقعنا وثقافاتنا ومن ثم تاريخنا وتقاليدنا الاجتماعية والسياسية والمتشكلة في العرف الاجتماعي والديني لدينا، وهو ما وضعنا بالنتيجة أمام مأزق الهوية الذي نتج عنه مأزق بناء الدولة، لا سيما وأن الازدراء تجاه هويتنا وشخصيتنا التاريخية جزء بنيوي في الفكر الأوربي الذي تعد الحداثة أحد تجلياته أو محطاته الأيديولوجية والمعرفية الأساسية والمهمة والمنتجة لكل أشكال المعارف والأفكار والسياسات الأوربية الحديثة.
لقد تعاطفت كل أوربا دولا وشعوبا مع ظاهرة الرسوم المسيئة الى النبي محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" باعتبارها حرية حداثوية في التعبير عن الرأي وهي حجة الرئيس الفرنسي ماكرون في التبرير الأوربي للإساءة الى المشاعر الدينية للمسلمين، وهو إزدراء بطبيعته الثقافية الأوربية نجده في "شجب العلماء الغربيون الإسلام بدعوى أنه دين تجديفي وشجبوا نبيه محمد بدعوى أنه المدعي الأكبر الذي أسس دينا عنيفا استخدم السيف كي يفتح العالم... كما صور في المسرحيات الصامتة على أنه عدو الحضارة الغربية الذي حارب القديس جورج. أصبحت هذه الصورة غير الصحيحة عن الإسلام إحدى المثل التوارثة في أوربا" (4) وهي الصورة التي ما زالت تؤثر في مفاهيم الغرب عن عالم الإسلام وفق أرمسترونغ (5) وهو الذي يفسر وبشكل كلي حقيقة العنف الأوربي تجاه الأخر المسلم وتبريراته في الحس الازدرائي.
فالازدراء هو أخطر سلوكيات ونتاجات الحداثة الأوربية التي أنتجت ظاهرة الاستعمار وبشكل اكثر سوءا من استعمار امبراطوريات عالم ماقبل الحداثة، فقد حولت عمليات الاستعمار الحديث الشعوب المستعمرة الى أقنان فاقدي الإرادة والقرار تحت يافطة الوصاية على الشعوب التي هي أضخم تعبير أوربي عن الازدراء لهذه الشعوب ودفعت شعوب الإسلام ثمنا باهظا بإزاء تلك السياسات الاستعمارية، وفي مناخات هذا الازدراء الثقافي صنعت قوى الحداثة ودولها الأوربية أسوأ الحروب في التاريخ البشري وهما الحربين العالميتين في القرن العشرين للتعبير عن حالات الازدراء المتبادل بين شعوب ودول أوربا، وللتعبير عن ذلك المأزق الانساني والتاريخي الذي صنعته أوربا جاءت فكرة وعبارة صدمة الحداثة.
وقد حاول المثقف الحداثوي العربي تبرير الاغتراب الذي أخذ يهيمن على مشاعره بتلك التناقضات الحادة بين التنوير وواقعنا العربي المزري في بنيته وصميم تركيبته، لكنه في الحقيقة يتقمص في رؤيته الحداثوية ذلك الجزء من الازدراء الأوربي الموروث في تكوينات المركزية الأوربية. وهو ما يفسر ظاهرة العنف الرمزي–اللفظي السائد في الخطاب الحداثوي العربي تجاه الذات العربية ويفسر أيضا ذلك العنف السياسي والقسري والجسدي الذي مارسته قوى التحديث القومي واليساري في طور السلطة في دولنا ومجتمعاتنا.
ان النتيجة الأكثر تأثيرا لأفكار وسلوك الازدراء الحداثوي بنسخته الأصلية الأوربية وبنسخته التقليدية العربية والتي استهدفت الذات العربية والاسلامية أعادت التفكير ومن جديد بالهوية الاسلامية وإمكانية الحضور التاريخي للإسلام الحضاري والثقافي وتحديدا مع انبعاث الصحوات الاسلامية في الثلث الأخير من القرن العشرين، وهنا أخذ الصراع مع الغرب الاستعماري وبقايا الاستعمار الثقافية والفكرية والحداثوية بعدا نظريا حضاريا وثقافيا وهو يستكمل مسارات النهضوية الاسلامية الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين الميلادي، وقد أعيدت في ظل هذه الصحويات طباعة الأعمال الكاملة للشيخ الطهطاوي وللسيد جمال الدين الافغاني وللشيخ محمد عبده وباشراف أحد منظري هذه الصحوات وهو د. محمد عمارة وهو تعبير عن التواصل بين هذه الصحويات والنهضوية أوالاصلاحية الاسلامية بعد مرور قرن من الزمان عليها.
لكن هذه الصحويات الاسلامية التي ركزت على الاسلام الحضاري والثقافي وعلى غرار النهضوية الاسلامية الأولى اصطدمت بالسلفية الاسلامية التي انبعثت بقوة مع طفرة الاسعار للبترول في سبعينات القرن العشرين وتزودت بهذا المال واستغلت الفشل الاقتصادي والسياسي الذي تسببت به الأنظمة السياسية والعلمانية العربية لتحدث شرخا فكريا وثقافيا في الفكر الاسلامي الصحوي من خلال تبني الاسلام دينا سياسيا والمناداة بتطبيق الشريعة، وهو ما يقتضي العودة الى مفهوم الخلافة وتسييس النظرية الدينية بكاملها في مجال تطبيق الشريعة التي لا تتحقق إلا بإمساك السلطة السياسية والدينية بنفس الوقت، وكانت تلك البداية في ظهور الاسلام السياسي العربي بديلا عن الاسلام الصحوي بل أن الاسلام السياسي كان قد استغل هذا الاسلام الصحوي وتخلل من خلاله الى الأوساط الدينية والفئات المتدينة لينشر أيديولوجيات العنف الفكري–التكفيري والأفكار الجهادية الأصولية والتي نقلت الصراع الحضاري والثقافي مع الغرب الى صيغ الصراع الهوياتي–الديني مع الغرب لاسيما باستعمال مصطلحات ومفاهيم "الكفار" و"النصارى واليهود" وعداوتهم الأزلية للمؤمنين، وهو ما كان يتجنب استعماله وتداعياته الاسلام الاصلاحي المبكر والاسلام الصحوي المتأخر اللذين كانا يعبران عن هذا الصراع بالتحدي الذي يواجه الأمة الاسلامية وإمكانية الحضور التاريخي للإسلام الحضاري، وهو يكشف عن الهوية الاسلامية في مواجهة تحديات حضارية وثقافية تستوجب الدخول الفاعل والمؤثر في التاريخ الحديث وليس الانقضاض على هذا التاريخ ومحاولات العودة الى التاريخ الماضي أو العصر الذهبي للإسلام والذي وضعته السلفية والأصولية هدفا ممكنا وجديرا بالتنفيذ وفق أوهام الأيديولوجية الأصولية وضميمتها السلفية.
ونتيجة المقارنة دائما بأوربا التي أدمن عليها الفكر العربي فإن المقارنة السلفية والأصولية الاسلاموية وعلى الضد من الحداثة العربية فإنها استبدلت المقاربة أو المقارنة الحضارية النهضوية والصحوية الاسلامية وكذلك الحداثوية العربية بالعدوانية الدينية والخصومة التقليدية والتاريخية بين الرومانية والعباسية، وهي الخصومة السياسية التي أنتجت مصطلحات ومفاهيم دار الحرب ودار الاسلام والكافر المحارب والكافر الذمي والتي تأسست وفقها الاسلاموية الأصولية ونمت في مناخاتها أفكار الاسلام السياسي العربي، وبذلك افترق الفكر الاسلامي العربي الحديث عن التفكير الحضاري والثقافي ولم يعد له دور فكري في إنتاج علم كلام اسلامي حديث، ويمكننا التعبير عنه بعلم جدل اسلامي يستند الى المفهوم الحضاري والثقافي للهوياتية الاسلامية في عالم بدت فيه الهويات فاعلة في مسارات الدخول الى العالم والتاريخ الأكثر حداثة أو اختصارا عالم مابعد الحداثة، وهو ما يشكل الشرط الذاتي في الامكان التاريخي في استعادة الاسلام الحضاري لاسيما وأن الشرط الموضوعي التاريخي المعاصر بدا حاضرا وبقوة في الاستفزاز أو التهديد الهوياتي الذي تمارسه القوى الرأسمالية الكبرى.
فقد كان عالم الحداثة يستند الى الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا وعلى أسس هذه العناصر المركبة والبنيوية في الحداثة كانت تتشكل السياسة بكل أبعادها النظرية والعملية في ذلك العالم الحداثوي، وعلى أسس منها تمت صياغة مباديء حقوق الانسان والشرعة الدولية – الأممية والتي بدأت تفقد فاعليتها وتأثيرها في مسارات السياسة الدولية والاقليمية والمحلية نتيجة النضوب التاريخي للحداثة بعد التحولات التي شهدها العالم الحديث في ظل التطورات التقنية والاقتصادية وهيمنة الرأسمال أو البرامج البنكية والمصرفية الدولية على سياسات ومخططات الدول الكبرى والذي صارت دول العالم الثالث وما يقارب ثلثي العالم الحديث في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية ضحية دامية جراء تلك السياسات.
ومع هذا العدم الاقتصادي والانهيار السياسي الذي صارت اليه تلك الدول الثالثية اكتسب حضور الهويات لديها فاعلية في المواجهة والمقاومة وتحديدا مع بدء سياسات العولمة الرأسمالية في تسعينات القرن العشرين، وقد ألجأت تلك التهديدات الرأسمالية الأميركية الى إستحضار التفكير الهوياتي بقوة في العالم، ويبدو أن الرؤية الأميركية الاستراتيجية وبصيغتها الثقافية والسياسية إنتبهت الى حجم الخطر الممكن في إنبعاث الهويات الكبرى بما فيها الهويات الوطنية أو الهويات الدينية العامة فلجأت الى التفتيت الهوياتي للعالم ولشعوب العالم من خلال ما طرحته هذه الرؤية التفتيتية في نظرية التعددية الثقافية وحقوق الاثنيات والأقليات الدينية والعرقية والهويات الفرعية التي وجدت لها متسعا خطيرا في الخطاب الاميركي السياسي الدولي وشكلت أبجدياته طبيعة الاستفزاز الهوياتي الموجه نحو الهويات الكبرى والهويات الجامعة.
وهو ما يدع الهويات الكبرى والجامعة تستعيد تنظيم نفسها وترتيب أوراقها من جديد وهي آلية دفاعات ذاتية تلجأ اليها دائما الهويات في حال استفزازها أو احساسها بأخطار التهديد الوجودي لها، وهو ما يفسر بقاء ودوام بقاء الهويات الدينية الكبرى والأكثر استجابة في هذا الاستعداد للمواجهات الهوياتية هو الاسلام الذي كان يتشكل تاريخيا في وجوده الجغرافي ضمن مجالات هويات دينية اخرى مسيحية وزرادشتية ومانوية وصابئية ووثنية على امتداد عالمه الاسيوي–الأفريقي والذي أثبت في تجربته التاريخية تلك قدرته على الاستجابة الى كل تلك التحديات واستطاعته أن يسبغ ذلك العالم الشاسع جغرافيا والمتعدد ثقافيا والمتجذر حضاريا بصبغة الاسلام وتمكين الهوية الدينية الاسلامية فيه من الهيمنة على هذه المساحة الشاسعة من الجغرافيا رغم الاختلافات البنيوية الاجتماعية والثقافية والاختلافات العرقية والاثنية بين شعوب هذه الجغرافيا الدينية. وهو مايشكل القوة المستبطنة في الامكان التاريخي في استعادة الاسلام الحضاري والثقافي في ظل التهديد الهوياتي الذي تمارسه القوى الرأسمالية الكبرى والممارسات الازدرائية عموما للغرب تجاه الاسلام ولعله يشكل البديل الأساسي عن الاسلام السياسي.
ولعل التجربة التاريخية الاسلامية والعربية الحديثة تعكس اهمية التأصيل التاريخي والثقافي في البناء الحديث لعالمنا الاسلامي لا سيما من خلال مثال الدولة الذي يعد المثال الأساس في دخول العالم الحديث والعمل في بنائه كما توقع الكاتب خوزيه كازونوفا لعودة الدين في بناء العالم الحديث.
فالغرب الحداثوي كان قد لجأ الى أساليب بناء الدولة في عالم الاسلام بعد الحرب العالمية الأولى ومحاولة تشكيله نموذجا للدولة فيه قائم وفق أسس التعقادية الاجتماعية والفصل بين السلطات وأشكال الملكية الدستورية وقد أحرز نجاحا في ذلك بسبب التوافقات ليست النظرية ولكن العملية بين أفكاره في الدولة والنظم التقليدية السياسية والاجتماعية الدينية والعرفية في هذه المجتمعات المسلمة والمتعلقة بالطبيعة الأبوية لهذه المجتمعات والتي مثلتها الملكيات الدستورية وغير الدستورية العربية خير تمثيل هنا نضع العراق الملكي والممالك والامارات والمشيخات الخليجية مثالا على كلامنا.
وهناك ملاحطة تاريخية جديرة بالأخذ بنظر الاعتبار وهي ان الفوضى والفشل كان مصير كل الدول العربية والاسلامية التي انتهجت طرائق وأساليب الحداثة الأوربية المضادة للتقليديات الحضارية والثقافية الإسلامية، وهي تنطبق تقريبا على كل الجمهوريات العربية والاسلامية التي تأسست في أعقاب انهيار أنظمتها الملكية التقليدية، قد نستثني دولا جمهورية مثل ايران وباكستان والجزائر، لكن الحمولة الاسلامية في هذه الجمهوريات الثلاث قوية جدا وتسمى اثنين منها بالجمهوريات الاسلامية رسميا - فالنظم الجمهورية غريبة وغير منسجمة مع هذه التقليديات الاسلامية بينما ظلت قائمة وبمنجى عن الفوضى والانهيار كل الدول العربية والاسلامية التي حافظت على الرمزية الاسلامية لدولها وأنظمتها وعلى التقليدية الدينية في قبال الحداثة المستنسخة ولم تنتهج تلك الطرق الحداثية في بناء ذاتها وهويتها مما قد يعيد التفكير بالمنهجيات الاسلامية التقليدية في العلاقة بالدولة والنظم السياسية التي تدير هذه الدولة وتحكمها.
ولعلنا نشاهد ذلك في الحنين الشعبي المتأخر الى الأنظمة الملكية التقليدية العربية التي أسقطتها الانقلابات العسكرية بتأثير أفكار الحداثة السياسية أو الأفكار الجمهورية، ورغم عاطفية ذلك الحنين أو عاطفية التصورات المتأخرة عن الفترات الملكية العربية إلا أنها تشي بقدر من الايمان النفسي الذي غالبا ما يمهد الى الايمان الفكري بضرورة العودة الى منابع ومصادر القوة المتوقعة في الهوية والتراث والممثل لها الاسلام الحضاري والثقافي وبمنأى عن الاسلام السياسي، لاسيما مع انسداد الآفاق في الحلول الحداثوية المقترحة في الديمقراطية ومباديء الحكم الحديث لا سيما في ما بعد تجارب الربيع العربي.
وهنا نضع دول الممالك العربية والاسلامية مثالا واضحا على هذا التصور التاريخي أو الحال التاريخي المعاصر للإسلام الثقافي والاجتماعي وإناطة التأسيس الهوياتي فيها للثقافي والاجتماعي الذي يجد مصادره ومنابعه الأولى بالنسبة لهذه الدول أو الممالك في الاسلام التقليدي. هنا نضع دولا مثل المغرب وماليزيا وهي ممالك تقليدية – قديمة ودولا مثل العربية السعودية والإمارات والمشيخات الخليجية وهي دول وانظمة رغم حداثتها التاريخية سواء على مستوى نشأتها او في إداراتها لكنها تقليدية في رؤيتها التأسيسية وفي نظريتها الستراتيجية في طبيعة الحكم والملك وهي تستند الى قيم ما قبل الحداثة في التنظير لمشروعيتها التاريخية وشرعيتها الدستورية ذات الصيغة العرفية التقليدية.
بينما كان الفشل واخيرا الانهيار مصير الدول العربية والاسلامية التي تمردت على التقليدية السياسية والاجتماعية وتطبيقات العرفية الدينية – الاسلامية وأسقطت أنظمتها الملكية التي كانت تستمد مشروعيتها من التقليدية الاسلامية في أنظمة الملك لاسيما في النسب القريشي او التحايل الشرعي عليه أو في وظيفة الحراسة للدين والدنيا التي أرستها نظريات الفقه السياسي في الاسلام. وهنا نضع العديد من هذه الدول العربية والاسلامية مثالا على ذلك المصير واختصارا كل الجمهوريات العربية والاسلامية التي ظهرت على امتداد هذه الجغرافيا الاسلامية – تونس ليبيا مصر سوريا العراق اليمن السودان وكذلك أفغانستان - وقد وقعت كل تلك الجمهوريات في مطبات ومنزلقات الاسلام السياسي لا سيما بنسخته الأصولية والرؤيوية المتطرفة في عقيدته السلفية.
ورغم أن بعض الممالك العربية التقليدية كانت مصدرا لهذا الفكر ومغذيا ماديا له لكنها ظلت بمنأى عن خطره وتداعياته الأمنية والسياسية الخطيرة نتيجة الحصانة التقليدية للبنية الدينية والاجتماعية في الجبهة الداخلية لهذه الدول وأنظمتها الاستبدادية وهي مستمدة من التأويلات التقليدية للإسلام التي تعد الأهم في الإمكان التاريخي في الاسلام الحضاري غير المؤدلج بمضمون سياسي وشكل ديني.
اضف تعليق