والشعارات عبر التاريخ هي خطابات أميبية، تنبسط وتنقبض بحسب الأزمنة والظروف، لكنها لا تنتج ستراتيجيات تطبيقية، ولا تصنع إنساناً، لأنها لا تنتقد أصحابها ذاتياً، قدر تسويقهم كقيّمين على الناس. لا نشك في أنَّ الثقافات الكلامية والشفاهية، والكتابية، ينحسر فيها التفكير التفكيكي والتحليلي...
تكثر في مجتمعات معيّنة، الشعارات، والنصائح، والوعظيات، ولا تسفر عن منتج، أخلاقي، وماديّ، وعلى جدران أماكن عامة وخاصة، تلصق مادة الغراء، منشورات "النظافة من الايمان"، لكن المواضع تمتلئ بأكوام القمامة.
وفي مؤسسة ومصنع وشارع، تثبّت المسامير على الحيطان، كليشات (الوقت من ذهب) بينما الموظفون يستغرقون في الروتين، الذي يكدّس الواجبات على المناضد، وفي بلدان معينة، تُؤسَّس مكاتب النزاهة ومؤسسات الرقابة، وتتشدق النخب والناس بالعفّة، وتنتصب في المكاتب، دروع الإخلاص وشهادات الأمانة، بينما البلاد تغرق في بحر الفساد.
وقد حدث لدى أمم أنَّ المسؤولين يشيدون بالتواضع، ونسف الحواجز مع الناس، والتجول في الأسواق والميادين الشعبية، لكنهم يقضون جلّ وقتهم في الأبراج العاجية، والمكاتب الوثيرة، ويصلون إلى الناس بقوافل السيارات الفخمة، ومن حولهم الحمايات والخدم.
وحدث في شعوب، أنَّ المفاهيم تتكدّس، وتلال الكتب ترتفع، وتعج مرافق المجتمع بالوعاظ والناصحين والزهاد، لكن المسؤوليات لا تدار بكفاءة، والنزاهة تضيع بين صراخ المنظرين، وسيطرة عقيمي الفكر، وسطحيّي الفهم.
ويُستدل على الفجوة الواسعة بين القول والفعل، حين تقرأ في واجهات المدارس، والمتاجر، عبارة من مثل "من راقب الناس مات همًّا"، بينما الواقع يحفل بمراقبة الآخرين، والتطفل على حياتهم.
وفي كل هذه الامثال، تُرصد المثاليات الإيجابية التي تحولت إلى شعارات جوفاء لأنها لا تطبّق، تسوّقها أيضا نوافذ الوعظ، والمئات من الفضائيات، ومواقع التواصل، ونغمات الهاتف الجوال، وواجهات المتاجر والمولات، والدعائيون الواتسابيون والفيسبوكيون في مختلف شؤون الأدب والأخلاق والعلم. بأنَّ أطنانا من هذه الشعارات والأوراق والكتب المثقلة بالنصوص، تروّج للبديهيات وكأنها حقائق مطلقة، وللإنشاء وكأنه نظريات علمية.
وما من شكّ في أنَّ الروح الانفعالية، والعقل الترويجي، والوصولية على سلالم الشهادات الصورية، والخطب الدعائية هي التي تقود هذه السلوكيات. وقد بلغ بالدعائيين، وأصحاب السرديات الماضوية، المستندة إلى التخيلات والجهل في التفكير، قدرتهم على الإقصاء والتشكيك والتخوين لكل من يفضح دلالاتهم الإعلانية، ليتحولوا إلى أوصياء على الاخلاق، بل وعلى المهنية، وأصحاب المهارات الحقيقية.
والمؤكد أنَّ ذلك يجد له مرتعاً، في الدول التي تعاني من تخلف واضطراب العقائد الاجتماعية، وانحسار الوعي، وتلاشي العلم والثقافة والمدنية، وفي عصور التخلف، إذ ينتشر الوعاظ والقصاصون والشعاراتيون، ومشلولو العقل ويتناسلون، بأعداد أكثر من أصحاب الإنتاج، والابداع والتفكير العلمي.
والشعارات عبر التاريخ هي خطابات أميبية، تنبسط وتنقبض بحسب الأزمنة والظروف، لكنها لا تنتج ستراتيجيات تطبيقية، ولا تصنع إنساناً، لأنها لا تنتقد أصحابها ذاتياً، قدر تسويقهم كقيّمين على الناس. لا نشك في أنَّ الثقافات الكلامية والشفاهية، والكتابية، ينحسر فيها التفكير التفكيكي والتحليلي، ابتداءً من التعليم الأوّلي إلى الجامعي، وتكون مرتعاً وخيماً للغوغائية الفكرية التي تقود التربية والتنشئة عبر أمثولات اجتماعية شائعة، تستند إلى الخرافة والتأويل الخادع الذي يجعل الفرد يفكر بالعاطفة لا العقل.
اضف تعليق