أحد امراض العصر العراقي، هو اللهاث وراء الوظائف الحكومية، بشهادات شكلية، ليتحول التعليم إلى وسيلة توفر الفرص للبطالة المقنعة، بتخريج آلاف المنظّرين سنويا، وتعجز عن رفد المجتمع بالمبدعين في الإدارة، والزراعة والصناعة، والاقتصاد والحرف، تخيل شعبا يغصّ بالموظفين الكسالى والخريجين النظريين، والذوات المبجّلين، وأرباب الكلام...

تبدأ النهضات بالمواطن الإيجابي الذي يتمّ واجباته، وينفذ التزاماته تجاه الدولة، بنفس حرصه على نيل حقوقه. وفي العراق، والكثير من دول الإخفاق الحضاري، يبرز (الانسان النصف) الذي وصفه الكاتب مالك بن نبي، بانه ذلك الفرد الشديد الإلحاح على طلب حقوقه، لكنه لا يقوم بالحد الأدنى من الواجبات.

المواطن النصف، لا يكتفي بالإسراف في طلب الحقوق دون الواجبات فحسب، بل ويجد التبريرات لذلك، ويعتبر نفسه على حق حين يقضي جلّ وقت الوظيفة الرسمية، دون انجاز، وحين يعتبر عمله، منّة واحسانا للآخرين، يتوجب عليهم شكره وتبجيله، وتكريمه، وحين لا يدفع الضرائب، ويتململ من استقطاع جزء يسير من الراتب لأجل الخدمة العامة، وحين يرفض الانصياع للقوانين في الشارع، وعذره في ذلك، أنَّ الأموال تذهب إلى جيوب الفاسدين، وان لا جدوى من العمل لأنها "خربانة"، وما إلى ذلك من أعذار.

الدول التي غرقت في مستنقعات التخلف، وانطمست في رماد الحروب، لم تتعافَ من وباء الانسان النصف، الا بتغيير ثقافته وتحويله إلى مواطن كامل المسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه، واعتباره الواجب تجاه الدولة، مهمة إلزامية، يؤدي فشلها إلى إثارة غضب القانون، والمساءلة الأخلاقية.

أكثر من ذلك، يوصَف الانسان النصف، بانه ناقص الوجدان، فضلا عن كونه متمردا، ولنتصور شعبا جلّ سكانه من الاتكاليين، النفعيين، فاغري الأفواه، ومقيدي الأيدي التي لا تعمل، إلا بالعمولات، والاغراءات. نحتاج إلى طالب يذهب إلى المدرسة والجامعة ليتعلّم لا ليحصل على شهادة ديكورية.

نريد عاملا ينتهي وقته بتحقيق الإنجاز، لا نحْر الوقت بالكسل. نعوز إلى موظف يقدّس عمله، ولا يترك المراجعين في الطوابير. نحتاج إلى مواطن ايجابي يحصل على معاشه بعرق جبينه.

نحتاج إلى الابتكار والابداع، لا المناصب التي تهدر الجهد بلا انجاز.. الجهد القليل والدخل الكثير، معادلة الشعوب الميّتة، والمتأخرة، التي نبذ مواطنها المهن والعلوم والحرف، فراح يلهث وراء الشهادات الصورية، والحفلات الطقوسية، والتنظيرية، والالقاب، والخواطر، فاهمل التطبيق المهني والتعليم المفيد، والبحث العلمي، وتطبيقات العلم، لينتهي الامر إلى جيل لا يعرف الابداع، ولا يحترم الإنتاج.

أحد امراض العصر العراقي، هو اللهاث وراء الوظائف الحكومية، بشهادات شكلية، ليتحول التعليم إلى وسيلة توفر الفرص للبطالة المقنعة، بتخريج آلاف المنظّرين سنويا، وتعجز عن رفد المجتمع بالمبدعين في الإدارة، والزراعة والصناعة، والاقتصاد والحرف.

تخيل شعبا يغصّ بالموظفين الكسالى والخريجين النظريين، والذوات المبجّلين، وأرباب الكلام، والموظفين المنافقين على الناس والوقت، وأصحاب الشعارات، الذين تسللوا إلى أخطر المناصب والوظائف من دون انتاج.

لكن ذلك لن يحدث، الا حين تتوفر الدولة على احترام كرامة الإنسان وحريته والمساواة وسيادة القانون، حيث المواطنة هي معادلة متوازنة من الحقوق والواجبات، تختلف كليا عن الجنسية بمعناها الإداري والقانوني، كونها إحساسا بالانتماء والمصير المشترك.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق