q
مقارنة مع عدم الثقة المتبادلة بين برلين وواشنطن، تعزز الأخيرة سبل التعاون الاستخباراتي مع تحالف "العيون الخمس، أي الدول الغربية الناطقة بالانكليزية، وهي أميركا وبريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلندا، والتي يشاع أنها "لا تتجسس على قادة بعضها بعضاً. في حقيقة الأمر، استثمرت واشنطن بشكل دائم وسخي في مقر...
بقلم: د. منذر سليمان و جعفر الجعفري

تزامن إعلان البيت الأبيض عن زيارة الرئيس جو بايدن الأولى لأوروبا، من 11 إلى 14 حزيران/يونيو الحالي، مع تبلور أزمة ثقة علنية بين واشنطن وكبار حلفائها الأوروبيين، بعد الكشف عن "تنصّت وكالة الأمن القومي" على كبار السياسيين في ألمانيا والسويد والنرويج وفرنسا، عبر خطوط شبكة الانترنت الدانماركية تحت الماء من العام 2012 إلى 2014.

وقد شمل التنصّت "مراسلات الهاتف الخاص للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل، ووزير خارجيتها (السابق) فرانك فالتر شتاينماير، وزعيم المعارضة (آنذاك) بير شتاينبروك، والرئيس الفرنسي مانويل ماكرون".

استغلت واشنطن "اتفاقية الكابل" المبرمة مع الدانمارك في تسعينيات القرن الماضي للتجسس على المسؤولين الأوروبيين. تسمح هذه الاتفاقية لواشنطن بالوصول إلى "كابلات الاتصالات السلكية واللاسلكية في (أراضي ومياه) الدانمارك". وقد آثرت الصمت بعد انتشار الخبر، تأكيداً على سياستها التي تعتبر "العمليات الاستخباراتية السرية أداة مشروعة". أما الاستخبارات الدانماركية، "شريكتها في الجريمة"، فقد رفضت التعليق على ما نشر.

على الرغم من تحالفهما الاستراتيجي أثبتت واشنطن أنها لا تثق بالمستشارة الألمانية التي عارضت عدوان حلف الناتو على ليبيا في العام 2011، والكشف عن تجسس واشنطن على هاتف ميركل الشخصي في العام 2013، "لشكوكها في مدى توافق مصالح الآخرين مع مصالحها"، بحسب النخب السياسية في مركز أبحاث "مؤسسة أميركا الجديدة". وتتجسد عدم الثقة بينهما فيما يخص السياسة الأميركية نحو روسيا، وإصرار ألمانيا على استكمال العمل في مشروع بناء أنبوب الغاز الروسي "نورد ستريم 2".

مقارنة مع عدم الثقة المتبادلة بين برلين وواشنطن، تعزز الأخيرة سبل التعاون الاستخباراتي مع تحالف "العيون الخمس"، أي الدول الغربية الناطقة بالانكليزية، وهي أميركا وبريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلندا، والتي يشاع أنها "لا تتجسس على قادة بعضها بعضاً". في حقيقة الأمر، استثمرت واشنطن بشكل دائم وسخي في مقر الاستخبارات البريطانية وقدراتها التي تعدّها "الأكثر قيمة للاستخبارات الأميركية".

أوضحت الوثائق السرّية التي كشف عنها المتعاقد السابق مع "وكالة الأمن القومي"، إدوارد سنودن، مديات التعاون الوثيق بين جهازي الاستخبارات الأميركي والبريطاني، ما دفع صحيفة "الغارديان" البريطانية القول إن وكالة الأمن القومي الأميركية موّلت ميزانية نظيرتها البريطانية "بنحو 100 مليون جنيه استرليني لمدة 3 سنوات في الحد الأدنى، لضمان نفوذها وسطوتها على برامج التجسس البريطانية"، منها نحو 15.5 مليون استرليني لتحديث مقرٍ استخباراتي موازٍ لها في مدينة "بود" الساحلية شمال شرق كورنوال ("الغارديان"، 1 آب/أغسطس 2013).

وأضافت الصحيفة أن سنودن حذّر من مخاطر العلاقة الوثيقة بين جهازي الاستخبارات المذكورين، "نظراً إلى جهودهما المشتركة في تطوير آليات تعينهما على التقاط مكالمات واتصالات عبر الانترنت وتحليلها، بل إن الجهاز البريطاني أسوأ من نظيره الأميركي".

وأردفت في توضيح العلاقة الاستخباراتية قائلة إن "وكالة الأمن القومي تتحمل نصف كلفة موقع تنصت بريطاني في قبرص. وعليه، ينبغي للاستخبارات البريطانية الأخذ بعين الاعتبار وجهة النظر الأميركية عند إقرارها بأولوياتها العملياتية".

لعل الجديد والأكثر خطورة في تعاون واشنطن ولندن الاستخباراتي استحداثهما نظاماً للتجسس على طائرات النقل المدنية منذ عام 2005، "لمراقبة الهواتف المحمولة جواً، وتتبّع إشارات الأقمار الاصطناعية والمحطات الأرضية السرّية"، وهو الأمر الذي أضحى متاحاً بعد سماح معظم شركات الطيران المدني باستخدام الهواتف الخاصة على متنها. من جانبه، نقل سنودن عن وثيقة داخلية لوكالة الأمن القومي في العام 2009 بأن "السماء يمكن أن تصبح مُلكاً للوكالة الأميركية".

"تجسس إسرائيل" على أميركا

لم يكن الجاسوس مزدوج الجنسية جوناثان بولارد الأول أو الأخير في مسار التجسس "الإسرائيلي" على أركان الدولة الأميركية ومرافقها الرسمية والتجارية والفكرية، وهو الذي أمضى 30 عاماً خلف القضبان. وما فتئت الحكومات "الإسرائيلية" تسخّر ما استطاعت من موارد وجهود ومواطن ضغط من أجل إطلاق سراحه قبل انتهاء محكوميته، ما اضطر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق، جورج تينيت، التهديد بتقديم استقالته، في العام 1998، في حال رضخت إدارة الرئيس بيل كلينتون لضغوط "اللوبي الإسرائيلي".

الثابت في علاقة الطرفين "المميزة" هو مسار طويل من التجسس المتبادل، أحدثها كان عثور الأجهزة الأمنية الأميركية على "أجهزة مراقبة للهواتف المحمولة قرب البيت الأبيض ومواقع أخرى حساسة في واشنطن" في العام 2019، ولكن لم يقم الرئيس السابق دونالد ترامب "بتوبيخ الحكومة الإسرائيلية" على فعلتها، كما درجت العادة. وأكدت الأجهزة الأمنية الأميركية مسؤولية "إسرائيل" في زرع أجهزة تنصت في أنحاء مختلفة من العاصمة واشنطن.

وعليه، تصدرت "إسرائيل" قائمة الدول النشطة في التجسس على الولايات المتحدة روسيا والصين، بحسب تقارير المسؤولين الأمنيين، كما وثقت نشرة النخب السياسية "بوليتيكو" ذلك بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2019. ونالت "إسرائيل" مرتبة "الاستخبارات الأجنبية المعادية" للولايات المتحدة، بموجب وثيقة استخباراتية سرّية في العام 2013.

وأكد مدير قسم الموارد العالمية لمكافحة التجسس لدى "وكالة الأمن القومي" مكمن الخطر في مذكرة سرّية في العام 2008، بتحديده "إسرائيل" مراراً بصفتها أول مصدر تهديد للأمن القومي الأميركي، قائلاً: "أحد أكبر التهديدات التي تواجهها وكالة الأمن القومي مصدره وكالات استخباراتية صديقة، مثل إسرائيل".

ومنذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، عززت الأجهزة الأمنية الأميركية جهودها الاستخباراتية. ونشرت صحيفة "واشنطن بوست" تقريراً أطلقت عليه "الميزانية السوداء" لمجمّع الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، تحدثت فيه عن رصد ميزانية تقدر بـ 52.6 مليار دولار لتلك الجهود في العام 2013 ("واشنطن بوست"، 29 آب/أغسطس 2013).

واستطردت الصحيفة قائلة إن "إسرائيل" جاء ذكرها في نواحٍ متعددة من تقرير الميزانية المذكورة، بصفتها "هدفاً استخباراتياً رئيسياً"، ووصفت أيضاً بأنها "جهاز استخبارات أجنبي معادٍ" للولايات المتحدة.

الضابط السابق في الـ"سي آي إيه"، بول بيلار، بعد استقالته من الخدمة التي دامت 28 عاماً، كان شاهداً على عدد من حوادث تجسس "إسرائيل" على بلاده، أولها تجسس "الملحق العسكري الإسرائيلي في واشنطن، فرايم بن أرتزي" في العام 1948.

وقال لمجلة "نيوزويك" إن "الحركة الصهيونية أرسلت جواسيسها إلى الولايات المتحدة قبل إعلان قيام دولة إسرائيل"، وإنهم "حصلوا على المكونات الرئيسية لقنابلهم النووية من أميركا" ("نيوزويك"، 6 أيار/مايو، 2014).

تورد "وكالة الأمن القومي"، بين الفينة والأخرى، بيانات تتحدث عن "استهداف إسرائيل للحكومة الأميركية عبر أجهزة تنصت الكترونية، من ضمنها أجهزة هواتف محمولة مخترقة" اصطلح على تسميتها نظم "ستينغ راي"، والتي تقوم بخداع الأجهزة المحمولة لإرسال مواقعها وبيانات هويتها الخاصة ومحتوى البيانات المستخدمة، وهو ما كشفته نشرة "بوليتيكو" (12 أيلول/سبتمبر 2019).

واستطردت النشرة قائلة إن أحد ضباط جهاز مكتب التحقيقات الفيدرالي أكد أن قسم "مكافحة التجسس" لديه أجرى تحليلاً لتحديد مصدر تلك الأجهزة، "ومن الواضح أن الإسرائيليين كانوا مسؤولين" عنها.

يشكو ضباط الاستخبارات الأميركية من إفراط عملاء الاستخبارات "الإسرائيلية" في الثقة بنفسهم وإفلاتهم من العقاب. وقد أوضح المنسق السابق لمكافحة الإرهاب، دانيال بينجامين، الأمر في مقابلة مع نشرة "بوليتيكو"، قائلاً: "أبلغني مسؤول رفيع في الموساد بأن إسرائيل لا تتجسس على الولايات المتحدة. فرددت عليه بأن نقاشنا انتهى ما دام يشك في مستوى ذكائي" ("بوليتيكو"، 12 أيلول/سبتمبر 2019).

بناء على ما تقدّم، ليس المراد تحديد حوادث التجسّس المستمرة من تل ابيب ضد واشنطن، وعلى المستويات كافة، بل الإضاءة على زاوية كانت وسائل الإعلام الأميركية، الرسمية وشبه الرسمية، تتفادى الدخول في متاهاتها، تجنباً لعواقبها وما ستسفر عنه من تداعيات على مجمل المشهد السياسي الأميركي.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

اضف تعليق