q
كثيرا يتم الحديث عن الاصلاح في العراق، وغالبا ما تم تشويه هذا المصطلح بسبب عدم انطباق الشعارات على العمل وعلى الممارسة. بل أصبح مصطلح الدولة فضفاضا وتقابله دول أخرى في الداخل تكتسب الشرعية بسبب الدعم الاجتماعي الناتج عن الجهل أو المنفعة الشخصية أو الطائفية أو المناطقية...

كثيرا يتم الحديث عن الاصلاح في العراق، وغالبا ما تم تشويه هذا المصطلح بسبب عدم انطباق الشعارات على العمل وعلى الممارسة. بل أصبح مصطلح الدولة فضفاضا وتقابله دول أخرى في الداخل تكتسب الشرعية بسبب الدعم الاجتماعي الناتج عن الجهل أو المنفعة الشخصية أو الطائفية أو المناطقية وعن طريق القوة وفرض الإرادات أيضا.

ولو قسمنا المشروع الاصلاحي في العراق سنجده ينطلق من وجهة نظر دينية تارة، ومن رؤية ترتبط بالعالم والأنظمة الحديثة التي يطلق عليها بالأنظمة الوضعية تارة أخرى، وهو إشارة الى أن هناك اتجاهين:

الأولى: سلطة تستمد شرعيتها من الأحكام الدينية.

الثانية: سلطة وضعية تستمد سلطتها من التجارب.

إلا أن كل فريق يتهم الآخر، بمعنى أن كل خطاب هو معارض للدولة أساسا، وفي المقابل نجد الممارسة أكثر تعقيدا. ونجت الدولة في كثير من الأحيان عن طريقين:

الأولى: داخل الاصلاح الديني عبر تجنب النقد للمجال السياسي بحيث يؤخذ بالحسبان مراعاة التحالفات مع السلطة أو الحاكم.

الثانية: طريق الاصلاح العكسي الذي ينشد دعم السلطة الدينية وأجهزتها. وبالتالي تم اعادة بناء الدولة وفق هذه الثنائية التي تتحكم بها التوافقات والتصورات.

لذا يرتبط مفهوم الاصلاح بمفهوم بناء الدولة ومؤسساتها، ولا يمكن للمنازعات على أقل التقادير حاليا أن تتخذ من أحد التوجهين الديني أو الوضعي بشكل مفرط في بناء النظريات والتطبيق. إذ أن أصالة التطبيق ترتبط بالمستحدثات بين هذين المفهومين وممارستهما عندما تتم إضافة الشرعية لأحدهما من دون الآخر وما يخلفه ذلك من تداعيات مزعجة.

حالة القمع التاريخية خير دليل على ذلك وكيف أصبحت الأحزاب تاريخيا جاذبة للنزاعات وفيما بعد تم حظر هذه الأحزاب واعدم رموزها أو تم تهجيرهم.

ان فهم جوهر التحديث السياسي المطلوب يستند الى فهم دوافع المجتمع ورموزه -أسباب تسليم المجتمعات زمام أمورها بشكل مطلق- لذا فالحيز المطلوب في بناء الدولة يستند على فائدة الفصل بين السياسي الانتهازي ومراقبته وبين دعم وتقويم المجتمع الذي يطيع بشكل أعمى.

العراق لا يختلف منطق السياسي فيه عن منطق الأسر المالكة والحاكمة التي تبيح الشرعية لنفسها وانها صاحبة الحق في بناء تلك الدولة وفق تصوراتها.

تاريخيا يمكن أن يكون ذلك السياق مقبولا لأنه تشكل وفق فترات الغزوات ونشات مكونات اجتماعية وسياسية وفق هذا المنطق.

في عراق ما بعد عام 2003 تختلف النظرة كليا وفق منطق الديمقراطية والتغيير والدستور، فحتى تلك الأنظمة كانت تراعي الكثير من الحالات من بينها التخفيف من الاجراءات السلطوية التي يفرضها بيت الحكام أو حاشيتهم.

لكن في العراق يبدو أننا أمام تكرار هذا التاريخ في وقت نحن بأمس الحاجة الى الخروج من مرحلة عدم الاستقرار السياسي وحكم الوراثة والامبراطوريات.

لذا أننا اليوم امام اقطاعيات لا تستطيع أن تعمل على استقرار الواقع بحكم طبيعته، لإنه يرتكز على الفردية والمركزية المركزة، وبنفس الوقت لما تعددت أقطاب هذه الاقطاعيات أضعفت قوة المركز، فيما نجد المجتمعات المتفاهمة كالعشائر على سبيل المثال إنها منحت المركز قوة قد يؤهله كيف يكون قويا في حالات معينة.

من هنا يمكن أن نستنتج أن بناء الدولة يدعمه الخيار الثاني -المجتمعي- وبنفس الوقت إن عدم وجود هذه المجتمعات حرم سلطة المركز في كثير من الأحيان بان تبني بعيدا عن تلك المجتمعات.

القفزة النوعية في بناء الدولة الحديثة تقف على الحراك والتنظيم الشعبي من أجل الديمقراطية. فحتى عندما تهيمن تلك الاقطاعيات السياسية والدينية على عملية الانتقال، نجد مقدارا من الوعي والنشاط الشعبي، فعندما تتكاتف الطبقات المتنوعة والوسطى من أجل نشر الوعي ومواجهة تلك السلطات الاقطاعية ومواجهة فساد السلطة بشكل مباشر وغير مباشر فمن الممكن أن يحصل الاصلاح والتغيير.

تجربة العراق منذ عقدين من الزمان في التظاهرات خلفت تراكما معرفيا الى حد ما فاق في بعض الأحيان مرحلة الهيجان والفوران يمكن أن يعول عليها الى حد كبير في وضع الانتخابات على مسارها الصحيح. حيث يمكن للحراكات الاجتماعية الجديدة بانماطها المختلفة مع المجتمع المدني فمن المؤكد سيتشكل مفهوم "الحركة الاجتماعية الحديثة أو الجديدة" بل يمكن أن تظهر عن بناء اجتماعي لمؤسسات بعيدا عن السلطة عبر القطاع الخاص والمنظمات والاكتفاء الذاتي مع بقاء حالة الوعي والاحتجاج من أجل التأثير على السلطات والمؤسسات الحكومية. بمعنى أنها تشكل مراكز نفوذ بعيدا عن الدولة في حال تطلب الأمر ذلك من أجل إتاحة الفرصة للتثقيف ومساندة مشروع بناء الديمقراطية وبناء الدولة على اعتبارها "مهد الدولة".

وهناك أمثلة كثيرة عن تلك النماذج من الحراك منها في دول أمريكا اللاتينية ودول أخرى يمكن قراءة تجاربها بشكل منفصل، وتقف النخب في منطقة رمادية وجامدة بين الديمقراطية وبين الوصايا أو التسلط والاقطاعيات الجديدة.

العراق اليوم دولة ضعيفة حتى النخاع، وهي دولة تهمين فيها غالبا ما يطلق عليهم "حديثو الأسنان في العمل السياسي" والخاصية الفريدة والايجابية للانتقال تكمن في عملية التنظيم الشعبي والحراك من أجل بناء الدولة الحديثة وفق أطر انسانية ترعي جميع المكونات.

وعلينا ان نقف موقف المشكك أمام المستقبل الغامض. فالنفوذ القوي لتلك الجماعات لازال في مراحله المبكرة ويمكن بنفس الوقت أن يقود الى عدم الاستقرار في المستقبل، وبالتالي سيمنع تقدم الديمقراطية وبناء الدولة، فالشروط لن تتوافر الى الان في غالبية القوى السياسية، فان الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية الحالية تجعل العبور نحو الجادة بأمان يكتنفه الكثير من التحديات والصعوبات.

*كاتب صحفي وباحث عراقي

اضف تعليق