الحوار يجب ان يجري بطريقة منظمة، وملائمة مع توضيح للمفردات الأساسية قبل ان يطرح أي شخص ادّعاءً حول موضوع النقاش، او خصائصه. المشاركون يجب ايضا ان يجيبوا لبعضهم البعض بعدالة، والذي يتمثل في ملاحظة الفرق بين المناقشة والمحادثة. هذا يعني ان احدا لا يجب ان يدفع الخصم...
كان سقراط منهمكا في إستجواب قاس مع زملائه المواطنين الأثنيين، حتى عوقب بالموت عام 399 ق.م بتهمة إفساد الشباب والترويج لألهة جديدة. دفاع سقراط عن هذه التهم وكما ورد عن افلاطون يتمثل بـ: 1- سقراط لم يكن ابداً معلّما لأي أحد، و 2- لم تكن لدى سقراط أي معرفة يمكن تعلّمها. وبدلا من ذلك، هو انشغل في سعي مميز يسمى الفلسفة، او "حب الحكمة"، والذي شكّل "حياة مختبرة". بدون هذه الحياة المختبرة، لم تكن الحياة تستحق العيش.
ولكن كيف تم هذا؟ لطالما اشتهر سقراط بإتقانه للجهل، وكما تمثّل في حوارات افلاطون التي سميت "سقراطية" معبراً عن فشله في العثور على الحقيقة حول الأسئلة التي أثارها في اختباراته، وهذا يقود المرء للتساؤل: ما فائدة الاختبارات اذا كانت بلا نتيجة تذكر؟ وكيف يمكنها ان تحسّن حياة أي شخص؟
في حوارات افلاطون، دائما ما يُعرض سقراط باحثا عن تعريف لمفردات أخلاقية مثيرة للخلاف، مثل العدالة، الشجاعة، التقوى. افلاطون يدمج تلك النقاشات ضمن سياقات دراماتيكية تعطينا فكرة عما هو غير مؤكد. يوثيفرو، الذي حضر للمحكمة لمعاقبة والده، يلتقي بسقراط عند مدخل المحكمة وحيث كان سقراط على وشك ان يواجه تهمة العصيان. كلتا هاتين الحالتين مثيرتان للإشكال وكلاهما تتطلبان، من المرء فهما لطبيعة التقوى. هل اختبر الأثنيون أنفسهم بما يكفي ليعرفوا ما اذا كانوا يعملون الشيء الصحيح في إتهام سقراط؟ هل يوثيفرو اختبر نفسه بما يكفي ليعرف انه كان يعمل الشيء الصحيح في معاقبة والده؟
يوثيفرو كان عرضة للاستجواب من قبل سقراط حول طبيعة التقوى، وان جميع أجوبته بدت تقود الى تناقضات. النقاش يستمر الى ان أصبح يوثيفرو غاضبا، مدركا انه ليست لديه فكرة واضحة يقدمها عن التقوى. هذه الصيغة ذاتها تكررت في العديد من حوارات سقراط.
الآن، وبعيدا عن الادراك بان الشخصيات في الحوار تجهل ما تظن معرفته، كيف يمكن لهذا النوع من التحقيق ان يحسّن حال المشاركين فيه؟ ربما يقود الى التواضع والى التردد في أفعال غير عادلة (مثل محاكمة سقراط، او أبو يوثيفرو). يمكن ايضا للمرء ان يتوقع ان مثل هذا التحقيق يمكن ان يقدم أجوبة للمعضلات الأخلاقية. لكن هذه الرؤية تخالف حقيقة انه حتى لو ان سقراط اعتقد ان الفلسفة يمكنها إعطاء الحقيقة حول المسائل الأخلاقية (كما كان يأمل)، لكننا لانراه يصل الى الهدف الذي سعى اليه.
افلاطون يترك العديد من حواراته مفتوحة لتعطي إحساسا بالالتباس لدى المتناقشين، الذين تلقّوا سلسلة من الأسئلة المحيرة. هذا هو الذي قاد العديد من القرّاء – القدماء والجدد – للتساؤل عن الهدف منه. يجب ملاحظة ان الادّعاء الرئيسي بان "الحياة غير المختبرة لا تستحق الحياة" لاتعني ان الحياة بدون مجموعة واضحة من الحقائق لا تستحق العيش، وانما ان الحياة بدون اختبار لاتستحق العيش. السؤال اذاً أصبح كيف اعتقد سقراط ان الاختبار من النوع الذي مارسه قد يجعلنا أفضل حالا؟
بالنسبة الى سقراط هذا الاختبار له شكل مميز – او نوع محدد من المحادثة. عند قراءة الحوارات الافلاطونية، يلاحظ المرء مرة بعد اخرى كيف ان الانتباه يُوجّه الى الشكل المميز لهذه الممارسة من المحادثة، خاصة في حوار افلاطون حول ممارسات الكلام (جورجياس). هذا النص يوفر فكرة عن القدرة التغييرية المحتملة للمحادثة. الحوار بالنسبة لافلاطون، يتم تصوره كـ "طرح اسئلة والاجابة عليها"، واحيانا تُوضّح كـ "تفنيد او قبولها التفنيد"، لأنها اساسا تجري عبر إستكشاف نتائج المقدمات المُعلنة، او التي أقر بها المحاور. الحوار وفق هذه الخصائص هو سعي مشترك، مؤلف من طرفين او اكثر يتبادلون الرؤى، ليقرروا ما اذا كانت الرؤى هذه منسجمة. سقراط يبدو حازما طوال الحوار الذي هو جهد جماعي مع المشاركين الساعين "باهتمام مشترك"، نحو الصالح العام.
الانخراط في السعي الى هدف مشترك يوفر اتجاها مقبولا بشكل متبادل، لكي لا تكون الأسئلة بلاغية خالصة، كما لو ان طرفا ما يبدأ الكلام، ولا هي يتم توظيفها لضمان الخير الخاص، كانتصار جدلي. هي يتم توظيفها لأجل مهمة إلقاء اللوم على كل منْ ثبت ان ما قاله "ليس حقيقيا".
هذه الطريقة من الاشتراك في الاختبار كمشروع جماعي تتطلب التقاسم، لأن كل واحد يأخذ دوره "سائلا ومجيبا على الأسئلة". هذا يتطلب مساواة في توزيع "حصص نقاشية": لا أحد يجب ان يأخذ اكثر من حصته في النقاش، وبالتالي يُوجّه الانتباه باستمرار الى حب الـ "الكلام المختصر".
ان تقاسم حصصا متساوية لا يُحكم بمساواة رياضية صارمة، احيانا يكون مسموحا وربما مطلوبا التوسع في الكلام او الحجة. اذا كان أحد الأطراف لا يفهم او لا يستطيع الاستفادة من الجواب، فان حصة اخرى ربما تؤخذ للتوضيح. هذا يساعد في التعامل مع الاعتراضات التي يستخدمها سقراط ذاته في مختلف المسائل. الأجوبة يجب ان تُعطى استحقاقها النقاشي، والذي يتقرر بمقدار الاستعمال لها، وهذا يُعد تجسيدا لمساواة تناسبية.
ان أهمية التقاسم، المساواة، والمقابلة بالمثل، في خلف السؤال وأمامه وفي الجواب وفي أخذ الدور كمستجوب وكمجيب، يوضح لماذا تُعتبر الصداقة هامة جدا لحوار سقراط – لأن هذه هي بصماته المميزة.
يعترف سقراط بالصداقة مع كل المحاورين الثلاثة في جورجياس، هو باستمرار يتعامل معهم كأصدقاء. العلاقات الحوارية هي علاقات بدون هيمنة، والصداقة هي الإعتراف الذي يعطيه كل واحد للآخر كمساوي يشترك في تقاسم متبادل. العلاقات الحوارية تجسد خصائص المساواة في الصداقة، بمقدار ما يأخذ كل واحد دوره في الأسئلة والأجوبة، كل واحد يُستمع له بشكل متساوي، ولا احد أقل أهمية من الآخر، حيث ان قيمة كل مشارك وكل مقترحات تنال التقدير. الإعتراف بالآخر كمساوي هو مطلوب لكي يُنظر له كمستحق للتعامل بالمثل في المحادثة. مثل هذه المقابلة تبيّن العناية والخصائص المساعدة للصداقة، التي يربطها سقراط بما يقوله كل طرف للآخر من حقيقة، وعمل الإحسان لصديق هو ايضا مرتبط بإثبات ان الآخر خاطئ وانه يتم تخليصه من بعض الهراء. طيبة المتناقشين تجعلهم يتوصلون الى نتائج مرضية.
الآن، هذه الظروف الحوارية هي مثالية، لاشك، ان المتحاورين بمن فيهم سقراط نفسه – ربما يفشلون في بلوغها في مختلف المسائل، لكنهم مع ذلك، ينظّمون الممارسة النقاشية، وفقا للخصائص التالية:
1- الحوار يجب ان يجري بطريقة منظمة، وملائمة مع توضيح للمفردات الأساسية قبل ان يطرح أي شخص ادّعاءً حول موضوع النقاش، او خصائصه.
2- المشاركون يجب ايضا ان يجيبوا لبعضهم البعض بعدالة، والذي يتمثل في ملاحظة الفرق بين المناقشة والمحادثة. هذا يعني ان احدا لا يجب ان يدفع الخصم لإرتكاب الخطأ، وانما يجب مساعدة الطرف الآخر وجعله واع في الزلات والمغالطات التي هو مسؤول عنها. اذا اُتبعت هذه القاعدة، فان المتناقشين سوف يضعون اللوم في التباسهم على أنفسهم وليس على الطرف الآخر.
3- النقاش يجب ان يجري باعتدال، والذي يعني عدم التسبب في فقدان أعصاب أحد وإمكانية عمل تنازلات عندما تكون مطلوبة. الانتباه الى شكل النقاش السقراطي يبيّن ان الكيفية التي يتحدث بها المتناقشون مع بعضهم هي بنفس أهمية ما يقوله كل واحد منهم للآخر. يجب الاعتراف ان المتناقش مساوي، يتقاسم النقاش، لا يأخذ اكثر من حصته، ويقابل الآخر بالمثل في روح السؤال والجواب، ويتقدم بإعتدال وبإنصاف. هذه المعتقدات الحوارية تعزز الفضائل. تلك الفضائل ليست "نتائج" مرغوبة، او تُكتسب من "شيء" محدد، وانما هي تُغرس في فعالية المحادثة، كما مارسها سقراط. هناك أخلاق للمحادثة بُنيت في الممارسة السقراطية. وبناءً على هذا، فان محتوى النقاش (مثل تعريف الفضيلة) يُستوحى ضمناً ويُفهم من جانب المتناقشين في أداء شكله. وهذا يقترح جوابا لسؤالنا: كيف يمكن للحياة المختبرة تجعلنا أفضل حالا، حتى عندما لا تقود دائما لنتائج؟ لو نحن جعلنا المحادثة فنا، وممارسة مستمرة، كما فعل سقراط، عندئذ هذا ربما يكفي لتعويد المرء على الفضائل التي تنطوي عليها عمليات المحادثة. لذا يجب ان نجعل فن المحادثة مستمرا، فهو الذي يجعلنا أفضل.
اضف تعليق