وجود اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية يقود دائما لإنكار العدالة السياسية والمساواة. الفرد المضطهد والفقير هو في الواقع غير قادر على المشاركة في العملية السياسية وسيبقى بعيدا عن حماية القانون والمحاكم القضائية. وكذلك، بدون حقوق سياسية وحماية قانونية متساوية لا احد يستطيع واقعيا حماية الحرية والحصول على حقوقه...
تُعتبر العدالة أهم هدف للدولة والمجتمع. انها أساس الحياة الانسانية المنظّمة. تتطلب العدالة تنظيم التصرفات الأنانية للناس لضمان توزيع عادل وتعامل متساوي بين الافراد المتساوين في المجتمع وتأمين فرص ومكافآت عادلة للجميع. انها ترمز للإنسجام بين المصالح الفردية ومصالح المجتمع. للعدالة أهمية مركزية في النظرية السياسية حيث ان الدفاع عن او رفض القوانين، السياسات، القرارات، وأفعال الحكومات، يُعبّر عنه بدعوات تحت اسم العدالة. الافراد المنخرطون في أي حركة لتأمين مصالحهم دائما ما يرفعون شعار: "نحن نريد عدالة". جميع حركات الحقوق المدنية هي بالأساس حركات لأجل العدالة.
ترمز العدالة الى حكم القانون، وغياب التعسف ووجود نظام لحقوق متساوية وحريات وفرص لجميع الناس في المجتمع. في الحقيقة، العدالة اعتُرف بها كأول فضيلة او مثل وأهم هدف يجب تحقيقه. في افتتاحية الدستور الهندي اُعطيت الأولوية لتأمين العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل الشعب. في وقتنا المعاصر يتم تصور العدالة اساسا كعدالة اجتماعية.
معنى وتعريف العدالة
العدالة مفهوم معقد يلامس جميع مظاهر الحياة الانسانية. كلمة عدالة اشتُقت من الكلمة اللاتينية (Jungere) تعني ربط او الارتباط ببعض. كلمة Jus ايضا تعني ربط او التزام. بهذه الطريقة يمكن تعريف العدالة كنظام يرتبط فيه الناس بعلاقات وثيقة. العدالة تسعى للتوفيق بين مختلف القيم وتنظيم جميع العلاقات الانسانية. وبهذا، فان العدالة تعني ربط وتنظيم وإشراك الناس مع بعضهم في نظام عادل وسليم للعلاقات.
بعض التعاريف الشائعة للعدالة هي كالتالي:
العدالة تعني توزيع حصص مستحقة لكل الاشخاص (سالموند).
العدالة تحمي حقوق الفرد بالاضافة الى نظام المجتمع (د. رافيل).
العدالة تتكون من نظام للعلاقات واجراءات يُمنح فيه كل فرد ما اتُفق عليه كشيء عادل (سي.اي. مريم).
بكلمة أخرى، العدالة تعني ضمان وحماية حقوق الكل بطريقة عادلة. انها ترمز للانسجام بين جميع الناس في حياة منظمة وتأمين حقوق الجميع بطريقة عادلة.
خصائص أساسية للعدالة
1- العدالة تتصل بعلاقات متبادلة بين أفراد يعيشون ضمن مجتمع.
2- العدالة تتركز على القيم وتقاليد المجتمع.
3- العدالة تتصل بجميع مظاهر السلوك الانساني في المجتمع، حيث توضع القوانين وتتأسس المحاكم في ضوء هذه الرؤية.
4- هدف العدالة هو توفير حقوق متساوية وفرص وخدمات للجميع بطريقة عادلة.
5- وظيفة العدالة هي إيجاد التناغم بين المصالح الفردية ومصالح المجتمع.
6- العدالة هي القيمة الرئيسية وترتبط بشكل وثيق بالقيم الاخرى كالحرية والمساواة والملكية.
7- العدالة هي مبدأ التوازن او التوفيق بين العلاقات الانسانية في المجتمع بطريقة تمكّن كل فرد من الحصول على حقوقه ،سواء من ناحية المكافآت او العقوبات.
8- العدالة لها عدة أبعاد: العدالة الاجتماعية،العدالة الاقتصادية، العدالة السياسية، والعدالة القانونية.
انواع العدالة:
1- العدالة الاجتماعية
في وقتنا الراهن يفضل عدد كبير من المختصين وصف مفهوم العدالة بالعدالة الاجتماعية. وهذه تعني ان جميع الناس في المجتمع هم متساوون ولا وجود لتمييز على أساس الدين او الطائفة او الجنس او المكانة. لكن مختلف الباحثين يوضحون مفهوم العدالة الاجتماعية بطرق مختلفة. البعض يؤمن ان العدالة الاجتماعية هي تخصيص حصة لكل فرد في الميدان الاجتماعي. طبقا لآخرين، تتمثل العدالة الاجتماعية بتوزيع الحقوق والمرافق الاجتماعية على اساس القانون والعدالة.
ما هي العدالة الاجتماعية؟
"العدالة الاجتماعية هي اسم آخر للحقوق الاجتماعية المتساوية. تهدف العدالة الاجتماعية لتزويد فرص متساوية لكل فرد ليطوّر صفاته المتأصلة"(باركر).
"بالعدالة الاجتماعية نعني إنهاء كل انواع اللامساواة الاجتماعية ومن ثم إعطاء فرص متساوية لكل فرد" (C. JP. B. Gajendragadkar).
الديمقراطيون الاجتماعيون ومفكرو الليبرالية الحديثة يعرّفون العدالة الاجتماعية بمحاولة إعادة بناء النظام الاجتماعي طبقا للمبادئ الاخلاقية. محاولات يجب ان تجري باستمرار لتصحيح اللامساواة الاجتماعية. انها ايضا ترمز لنظام عادل اخلاقيا يمكن الدفاع عنه من أجل توزيع المكافآت والالتزامات في المجتمع بدون أي تمييز او ظلم ضد أي شخص او طبقة.
في الدستور الهندي هناك عدة أحكام تضمنت رؤية لتأمين العدالة السياسية والاقتصادية، حيث جرى إلغاء سياسة العزل دستوريا. كل مواطن مُنح حق متساوي في الوصول للأماكن العامة، اماكن العبادة واستعمال أماكن الترفيه. لا تستطيع الدولة التمييز بين المواطنين على اساس المولد او الطائفة او اللون او الجنس. العزل والتمييز العنصري هما ضد روح العدالة الاجتماعية. غياب الطبقات ذات الامتيازات في المجتمع هو سمة اساسية للعدالة الاجتماعية.
2- العدالة الاقتصادية
وهي في الحقيقة مرتبطة بإحكام بالعدالة الاجتماعية لأن النظام الاقتصادي هو دائما جزء مكمل للنظام الاجتماعي. الحقوق الاقتصادية والفرص المتوفرة للفرد هي دائما جزء من كامل النظام الاجتماعي. العدالة الاقتصادية تتطلب ان يمتلك جميع المواطنين فرصا كافية للعيش والحصول على اجور عادلة ليتمكنوا من إشباع حاجاتهم الاساسية ومساعدتهم للتطور اكثر. الدولة يجب ان توفر آمان اقتصادي اثناء المرض او الشيخوخة او في حالة العجز. لا أحد او جماعة تكون في وضع تستغل به الآخرين، او تُستغل. يجب ان يكون هناك توزيع عادل ومتساوي للثروة والموارد بين كل الناس. الفجوة بين الغني والفقير يجب ان لا تكون حادة. ثمار الازدهار يجب ان تصل لكل الناس.
هناك عدة رؤى مختلفة بشأن معنى العدالة الاقتصادية. الليبراليون يعتبرون المنافسة المفتوحة كشيء عادل وهم يدعمون الملكية الخاصة. من جهة اخرى، يسعى الاشتراكيون لتأسيس سيطرة كاملة للمجتمع على كامل النظام الاقتصادي. هم يعارضون الملكية الخاصة. ومهما كانت الايديولوجية او النظام، يبقى هناك شيء واحد واضح وهو ان كل المواطنين يجب ان يحصلوا على الضروريات الاساسية للحياة. كل المواطنين يجب ان يمتلكوا حاجاتهم الاساسية لحياة مقنعة (طعام، ملابس، وقاء، تعليم، صحة، وما شابه).
3- العدالة السياسية
وتعني إعطاء حقوق سياسية متساوية وفرص لكل المواطنين ليشاركوا في ادارة الدولة. المواطنون يجب ان يمتلكوا الحق في التصويت بدون أي تمييز على اساس الدين، اللون، الطائفة، الجنس، المولد، المكانة. كل مواطن يجب ان يمتلك حقا متساويا في التصويت والمنافسة في السباق الانتخابي.
4- العدالة القانونية
ولها بُعدين – صياغة قوانين عادلة ومن ثم إقرار العدالة طبقا للقوانين. عند عمل القوانين، يجب ان لا تُفرض رغبة الحاكم على المحكومين. القوانين يجب ان ترتكز على الرأي العام والحاجات العامة. يجب ان تؤخذ دائما بالاعتبار القيم الاجتماعية، الاخلاق، الأعراف، فكرة العادل وغير العادل. عندما لا تستجيب القوانين للقيم الاجتماعية والقواعد الاخلاقية، فان المواطنين لن يقبلوا بها وسيرفضوا طاعتها. في هذه الحالة يصبح فرض القانون مشكلة. القوانين تكون عادلة فقط عندما تنال القبول من الناس ليس بسبب الخوف من قوة خارجية وانما عندما تكون مستوحاة من شعور داخلي في انها قوانين جيدة وعادلة ومعقولة. العدالة القانونية تعني حكم القانون وليس حكم الفرد. انها تتضمن شيئين: ان جميع الناس متساوون امام القانون، وان القانون يطبق بالتساوي على الجميع. انها توفر آمان قانوني للجميع. القانون لايميز بين الغني والفقير. استثناءات موضوعية واجبة للعدالة من جانب المحاكم تُعتبر مكوّن أساسي للعدالة القانونية. الإجراء القانوني يجب ان يكون بسيطا وسريعا وعادلا وغير مكلف وفعال. يجب ان تكون هناك آلية فعالة لمنع الافعال غير القانونية."هدف القانون هو تأسيس ما هو شرعي، وتوفير أمان قانوني ومنع الأفعال غير القانونية" (سالموند).
وهكذا، يصبح للعدالة اربعة ابعاد هي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية. كل هذه الاشكال مترابطة مع بعضها وذات اعتمادية متبادلة. العدالة تكون حقيقية فقط عندما توجد في جميع ابعادها الاربعة. بدون عدالة اجتماعية واقتصادية لن تكون هناك عدالة سياسية وقانونية واقعية.
وجود اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية يقود دائما لإنكار العدالة السياسية والمساواة. الفرد المضطهد والفقير هو في الواقع غير قادر على المشاركة في العملية السياسية وسيبقى بعيدا عن حماية القانون والمحاكم القضائية. وكذلك، بدون حقوق سياسية وحماية قانونية متساوية لا احد يستطيع واقعيا حماية الحرية والحصول على حقوقه الاجتماعية والاقتصادية. ايضا، العدالة تحتاج الى وجود حقوق، وحرية ومساواة في المجتمع وفقط حينذاك يمكنها ان تشكل طابع الحياة في المجتمع.
اضف تعليق