قد يختلف العراق عن غيره من البلدان المؤسساتية، فعندما يتأخر إقرار الموازنة العامة في العراق تبقى الجهات المعنية غير مبالية ولا يعنيها الامر، وجل همها تتخلص من الضغط الشعبي والاحراج الجماهيري، بينما في غيره من الدول التي يمثل عدم تحديد الموازنة في نهاية السنة...
احتبست الانفاس وقلت نسبة الاوكسجين في المناخ السياسي، ومؤشر الصبر بدأ ينخفض تدريجيا ويقترب من النفاد لدى الطبقة العامة، فقد أصيب العديد بحالة من الغثيان، ومجرى التنفس سيطر عليه الاحتقان، حالة مزمنة تتناوب على ضرب الجسد السياسي في العراق، ويبدو ان ندوب الموازنة الاتحادية لا تزال عميقة وتحتاج الى عناية فائقة من اجل التماثل للشفاء.
توصيف قد يكون مقارب لما حصل بعد اخفاق البرلمان العراقي بتمرير قانون الموازنة العامة الذي اخذ حيزا كبيار من حديث العامة في الأيام القليلة المنصرمة، فلم تتمكن أي قضية أخرى من اخذ موقع الصدارة بوجبات الحديث اليومية التي تقدم كطبق رئيس في المنازل والمطاعم وغيرها من الأماكن.
منذ أكثر من شهر ونصف بدأت الوفود الكردية تتخذ من بغداد محطة للتفاوض حول اشد القضايا سخونة بالنسبة للإقليم الذي لا يزال عصيا على حكومة المركز، ويمتنع عن إعطاء ما بذمته من أموال لخزينة الدولة العامة، ومع ذلك نجدهم يماطلون ويستخدمون الحيل لانتزاع المزيد من المركز المتشظي.
عدم وصول الكتل السياسية الى حل مقنع وسريع اسهم بهز الشارع العراقي الذي انفجر غضبا، واصبح جميع من يشارك بالعملية امام انظارهم هم المسؤولون عن تعاستهم ورداءة افعالهم.
تمخض عن الضغط الشعبي على البرلمان ترادف التصريحات من قبل اللجنة المالية بان الأسبوع القادم سينتهي النزاع، وان اليومين المقبلين ستفرح طبقات متعددة بعد حسم اهم النقاط الخلافية، وتواصل الصريحات لنصل الى برج الساعات القادمة والمخرجات والنتائج معلومة بالطبع كما لاحظنا في السنوات الماضية وكيفية التعامل مع الموازنات السابقة.
تأخر الحلول وتعلق البعض منها بهذه الصيغة، يعود لعدم وضع الحلول الجذرية لمثل هذه المحاور وتبقى التوافقات مرحلية ولا تصمد امام المواقف والتغيرات السياسية، ذلك لان القوات التي استندت إليها هذه الحوارات لا تزال هي نفسها التي لاذت بها سابقاتها.
ينتظر من إقرار الموازنة انعكاسا إيجابيا على شرائح مختلفة، فالمواد التي اخذت بالتصاعد ستؤدي الى انعدام الحياة لطبقة واسعة من أصحاب الدخل المحدود، فأدخل الجمع في دوامة حياتية لها اول ولا يعرف اين آخرها، في الوقت الذي أصبح فيه العامل يستجدي قوت يومه وقد لا يجد من يمن عليه بعمل يوم او أكثر بقليل.
السبت القادم او غيره من الأيام ستقر الموازنة وليس هذا ما يؤرق الفرد العراقي هو إصرار بعض الكتل وكذلك الحكومة هو الإبقاء على سعر الصرف الحالي، أسعار السلع زادت أكثر من ضعف القيمة، وهي بارتفاع مستمر لا سيما مع اقتراب شهر رمضان.
ربما يوجد اعتقاد يتشارك فيه نخبة واسعة ان التأخير او المماطلة التي يسلكها البرلمان العراقي هو لزيادة احتقان الجمهور وغضبه، وبالتالي يقبل بموازنة موهة لا يعرف منها أي شيء سوى ان مرتبه الشهري جاري، ولا تأخير فيه، بينما لو اطلع المواطن البسيط على هذه الموازنة المعوقة لأقام الدنيا ولم يقعدها.
اهم الأشياء التي يجب ان يعرفها المواطنين هي ان الموازنة العامة هي الأداة الاقتصادية الوحيدة الفعالة التي تستخدمها الدولة للتأثير على الاقتصاد الكلي، فعبرها يتم معرفة حجم التضخم الذي سيصيب البلد وحجم النشاط التجاري الذي سيحدث ببلد معين.
ومن خلال هذه الأداة أيضا يمكن تحديد التوجه العام للدولة واهتماماتها وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية خلال السنة، ويهمنا أيضا ان نعرف الارتباط الوثيق بين الموازنة الاتحادية والبرنامج الحكومي، فعبرها نستطيع تشخيص اتجاه البوصلة الحكومية وما سهم القطاعات ذات الأهمية القصوى فيها.
قد يختلف العراق عن غيره من البلدان المؤسساتية، فعندما يتأخر إقرار الموازنة العامة في العراق تبقى الجهات المعنية غير مبالية ولا يعنيها الامر، وجل همها تتخلص من الضغط الشعبي والاحراج الجماهيري، بينما في غيره من الدول التي يمثل عدم تحديد الموازنة في نهاية السنة استعدادا للعام القادم يوقف نبض الحياة، وتتعطل جميع المشروعات الخاصة والعامة.
التفاؤل الشعبي يبدو انه اخذ بالتلاشي خلال الأيام الماضية، فلا تزال الموازنة ترقد على سرير الجدل الدائر بين حكومة المركز والاقليم من جهة، وبين اقطاب حكومة بغداد واحزابها من جهة أخرى، اذ دخلت القضية في حيز الاستهلاك الإعلامي والسياسي للكتل السياسية التي استخدمتها للترويج الانتخابي.
اضف تعليق