علينا اخذ كل فكرة مطروحة للمداولة وعرضها على العقل والمنطق فإن كانت منطقية وتقدم حلولاً حقيقية أخذنا بها، وإن كانت سيئة دحضناها وخلصنا البلد من تبعاتها، أما الاستمرار في \"تسميم البئر العراقي\" عبر تشويع سمعة الآخرين المختلفين معنا، فقد تقودنا هذه الممارسات إلى فناء النقاش المعرفي الفعال، وانقراض الحوار...
كانت الجيوش تستخدم أساليب عديدة لشل حركة الخصوم وتدميرهم بطريقة سهلة وقادرة على إلحاق أكبر قدر من الضرر الذي قد يصل إلى فناء العدو بشكل نهائي وانقراضه من على وجه الأرض، والأساليب ذاتها ما زالت مستخدمة أو لنقل إنها قابلة للاستخدام الآن بأي وقت تريده دولة ما ضد دولة أو مجتمع آخر.
حرب التدمير الرخصية هذه، تسمى اليوم بالحرب البيلوجية، وأتمنى أن لا تغادر المقال صديقي القارئ، فأنا لا أتحدث عن نظرية المؤامرة، إنما أريد التنبيه لقضية تاريخية وأخرى يجري استخدامها الآن بطريقة معدلة.
في الجانب التاريخي من القضية، كانت أبسط طريقة لتدمير العدو هي "تسميم البئر"، ويقال ان القائد اليوناني سولون كان أول من استخدم سلاح "التسميم" عام 600 قبل الميلاد، عبر تلويث مياه النهر الذي يستخدمه أعداؤه برمي جذور نبات هيليوروس ما تسبب بإصابتهم، ومن ثم هزيمتهم.
ومن بعد هذه الحادثة زاد استخدام الجيوش لسلاح تسميم ينابيع المياه والآبار والعيون والطعام، أو حتى إلقاء الجثث المتعفنة للجنود القتلى والمصابين بالأوبئة في معسكرات أعدائهم، ما يؤدي إلى نشر الأمراض، واشتهر اليونانيون والرومان باستخدام طرق الإبادة الجماعية هذه.
ولم يغفل المغول عن استخدام هذا السلاح الفتاك عبر إلقاء الجثث المصابة بالأمراض والأوبئة في ينابيع الأنهار والآبار، فسادت حرب تدمير الآبار والينابيع لتسهيل عملية القضاء على العدو بدون مقاومة أو خسائر بشرية من قبل الجيش الغازي(1).
العملية سهلة، ارمي بعض الجثث المتعفنة، أو المواد الحاوية للفايروسات والبكتريا المعدية وما عليك سوى الانتظار لبضعة أيام او أشهر لتشاهد بعينك كيف يتم القضاء على خصمك من قبل هذه الكائنات المجهرية.
الطريقة المعدلة
ما دمت قد وصلت الى هذه النقطة صديقي القارئ، تعال معي لنعرف الجزء الثاني من المقال، أريد التحدث معك بشأن "تسميم البئر" هذه الأيام، وخاصة في العراق، لكن قبل البدء دعني أقول لك عن البئر الذي أتحدث عنه ليس بئر الماء، بل مغالطة "تسميم البئر" المستخدمة في النقاشات الفكرية والسياسية من اجل تدمير النقاش والقضاء على الخصم بما يدفعه للانسحاب أو حتى التوقف النهائي عن النقاش مستقبلاً لأنه موبوء بأفكار تتعارض مع القطيع.
نأخذ على سبيل المثال النص الذي كتبه الصحفي محمد شفيق وتعرضه الدائم للسحق والتدمير الفكري لأسباب لا علاقة لها بما يتحدث عنه، إذ يقول شفيق: عندما تنتقد عدم الالتزام بإجراءات الوقاية من كورونا .. تتهم بأنك تقدم هذا النقد لكونك تملك راتباً وعملاً ثابتاً.
وعندما تؤيد تنظيم الدراجات والتكتك طبعاً دون التاثير على الأرزاق.. تُتَهَم بأنك تقدم هذه الفكرة لكونك تملك راتباً وعملاً ثابتاً.
وعندما انتَقَدْتَ قبل سنة قطع الطرق وبعض ممارسات المتظاهرين.. تُتَهم بأنك إذ تنتقد هذه الممارسات لأنك تملك راتباً وعملاً ثابتاً.
وعندما تنشر الإيجابية في الفيسبوك.. تُتَهَم بالدفاع عن الحكومة لأنك تملك راتباَ وعملاً ثابتاً.
وعندما تنتقد ظاهرة التجاوز على الأرصفة والطرق.. طبعاً انت عندك راتب وتشتغل.
تتكلم بالانتخابات وتحديث بطاقة الناخب.. طبعا هكذا تقول. انت عندك راتب وتشتغل.
وما يتعرض له الصحفي محمد شفيق نتعرض له يومياً عبر أجوبة تلغي النقاش من أساسه، وتحرمنا من تقديم النقد لظواهر مختلفة تستحق النقاش العميق، وهي مغالطات منطقية تسمى كما أشرنا آنفا بمغالطة "تسميم البئر".
وتقوم مغالطة "تسميم البئر" على البنية الثنائية الآتية:
1- تقديم معلومات غير مرغوبة وفيها اتهامات معلنة أو مبطنة عن الشخص (أ).
2- إذن، كل دعوى يقولها الشخص (أ) خاطئة.
ولتبسيط الفكرة بالعودة إلى منشور محمد شفيق، فإن هناك اتهام مبطن بأن كل من يملك راتباً لا يهتم بغيره من المواطنين المعوزين الذين قد يخرقون الإجراءات الصحية من أجل العمل واستحصال الرزق، أو يتظاهرون ضد الحكومة من أجل إصلاح أوضاعهم.
وبما أن من يملك راتباً لا يهتم بغيره من المواطنين فلا يحق له الحديث عن تنظيم دراجات التكتك، ولا الإصلاح السياسي، ولا تحديث بطاقة الناخب، والسبب أن أفكاره قد تعرضت للتسميم عبر الإيحاء بأنه بات غير مؤهل للحديث عن الموضوعات التي يتناولها.
البئر العراقي والنقاش العام
وإذا فصّلنا الكلمة كما نفعل مع أي مفهوم، سنجد أنها تشرح نفسها بنفسها دون الحاجة إلى أي تعقيد، فكلمة تسميم تعني تشويه، أما كلمة بئر فتعني سمعة الشخص وصورته، والماء الذي في البئر سيختلف حسب كل موقف، فقد يعني الخطاب الذي يقدمه الشخص أو النقاش، أو المحاضرة …الخ. أما كلمة مغالطة، فتعني حسب معجم المعاني الاستدلال الزائف.
وباختصار، يُقصد بمغالطة تسميم البئر تشويه سمعة وصورة شخص ما قصد السخرية من الكلام أو الأفعال التي ينوي القيام بها سواء كانت المعلومات المُقدَّمَة صحيحة أو خاطئة، وبالتالي فسينجرف الجمهور مع هذا التسميم وسيرى أن الماء ملوث وغير صالح للشرب(2).
في الخلاصة محاولة لاستعراض المغالطات التي تستخدم بكثرة من اجل قتل النقاش وهو ما أدى الى تسميم المجال العام العراقي، وجعله غير قابل للشرب (النقاش)، فلا نتحدث مع فلان لأنه يتبع التوجه السياسي الفلاني، ولا نناقش فلان لأنه لم يحصل على شهادة عالية، ولا نتحدث مع فلان لأنه من المحور السياسي (أ)، وفلان لا يستحق الحوار لأنه من المحور السياسي (ب)، وإلى ما لا نهاية من مغالطات تسميم البئر.
علينا ان ننتبه للافكار المطروحة بغض النظر عن قائلها، فإن كان موظفاً وانتقد عدم الإلتزام بالإجراءات الصحية فهذا لا يعني أن كلامه غير سليم بحجة أنه يملك راتبا ولا يفكر في غيره، وإن كان ينتمي للحزب (ج) وانتقد إجراءات الحكومة تجاه مسألة معينة فهذا لا يعني أن فكرته غير سليمة لأنه ينتمي لهذا الحزب، فقد تكون أفضل فكرة طرحت لحل المسألة.
في النهاية علينا اخذ كل فكرة مطروحة للمداولة وعرضها على العقل والمنطق فإن كانت منطقية وتقدم حلولاً حقيقية أخذنا بها، وإن كانت سيئة دحضناها وخلصنا البلد من تبعاتها، أما الاستمرار في "تسميم البئر العراقي" عبر تشويع سمعة الآخرين المختلفين معنا، فقد تقودنا هذه الممارسات إلى فناء النقاش المعرفي الفعال، وانقراض الحوار في بلاد الرافدين ومنشأ أول طريقة لتخزين الأفكار عبر اختراع الرُقُم الطينية.
دعونا نتحرر من حرب تسميم البئر العراقي.
اضف تعليق