الرسول والأئمة قد تحملوا أعباء رسالة الله إلى الإنسان، وهم قد بينوا للإنسان خرائط السعادة والرفاه، في الدنيا والآخرة، ولولاهم لكان البشر يتيهون ويضيعون في طرق هذه الحياة الملتوية. بيان سبل السعادة للإنسان، هو أفضل بكثير من إيجاد حياة مادية فحسب. فانظر إلى ما قدّمه الرسول...
مقدمة واقعية
كنا في نهاية القرن الماضي ننعم في الجوار الطاهر للسيدة الطاهرة بنت الأطهار، سيدتي ومولاتي السيدة زينب الكبرى (ع)، في دمشق الشام، حيث كانت تُعدُّ من الحواضر العلمية ذات الثقل والوزن العلمي والحوزوي في التاريخ والواقع الشيعي في تلك الفترة من الزمن وذلك قبل أن يغزوها الغربان، وشياطين الأرض، حيث جاؤوا وكتبوا على جدارها: "سترحلين مع النظام".
في تلك الفترة التي كانت منطقة السيدة زينب (ع)، منطقة حرة كأي ساحة من ساحات الحرية في المدن العالمية الراقية كما أراد لها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، فتقدمت فيها الحركة العلمية وتطورت الحوزات بشكل رهيب جداً، وكان لنا الشرف في الدراسة في حوزة الإمام القائم العلمية فيها، حيث كان الأخوة والأحباب والزملاء من كل الدول ذات التواجد الشيعي فيها، فكانت حقيقة أيام يُبكى عليها دماءً بدل الدموع لجمالها ونشاطها وتنوعها، فقاتل الله الجهل والجاهلية.
الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي
أنا ما رأيته شخصياً، ولا تكلمتُ معه مباشرة، ولم يعرفني وربما لم يسمع حتى باسمي، ولكنني عرفته جيداً، وتعرَّفتُ عليه من عدة طرق، كان أهمها:
1- السادة من إخوته وأقربائه الذين كانوا متواجدين في الحوزة العلمية الزينبية العامرة، وكانت تربطنا بهم علاقة أخوية إيمانية، فكانوا يحكون لي عن سماحة السيد الفقيه، لا سيما أخي وصديقي جناب الخطيب البارع الشيخ جلال معاش الذي طالما حدَّثني عنه.
2- بعض تلاميذه وطلابه من الفضلاء الذي عرفوه عن قرب ودرسوا عنده وتربوا على يديه الكريمتين زمناً من عمرهم كل بحسبه ودرسه، فقد التقيتُ ببعض هؤلاء الكرام وحدَّثوني عن السيد الفقيه، وعلمه وأخلاقه.
3- كتبه التي قرأتُ بعضها – ما حصلتُ عليه حينها – فهي من باب الحكمة العيسوية التي تقول: (مِنَ الثَّمَرَةِ تُعْرَفُ الشَّجَرَة)، وهي من المعارف العلمية التي تُخبر عن الشخص وفكره وأخلاقه وعلمه، كما أن المحاضرات التي كانت تُبثُّ ومازالت من العديد من الفضائيات، والتي عشقه فيها الكثير من المؤمنين ونحن منهم..
في ذلك الحين وذات يوم من أيام الصيف حيث الجو الحار والحوزة معطلة كنا نتزاور مع بعض الأعلام الكرام أثناء زيارتنا إلى السيدة زينب (ع) لا سيما في أيام العطل الرسمية، سمعنا بوفاة سماحته وكان التعجب، والذهول من وقع الخبر على الكثير من الأصدقاء لا سيما الذين عرفوه عن قرب، وأحبوه صادق الحب.
فكنتُ أتمشى في السيدة مع أخ فاضل من أساتذة الحوزة وكان شديد التأسف على السيد الفقيد، والتفت إليَّ وسألني: ألا تعرفه؟
فقلت: لا للأسف الشديد لم ألتقِ به من قبل، ولكن الكثير من الأصدقاء كانوا يحكون لي عن علمه وفضله وعظيم أخلاقه، وأنت منهم احكِ لي عن سماحته كما رأيته وخبرته شيخنا.
فتأسف وتلهَّف ووقف ونظر إليَّ وقال كلمة لا أنساها: "هل رأيتَ ملاكاً، أو تصورتَه، كان السيد إذا رأيته تظن أن ملاكاً يمشي على قدمين"، إلى هذه الدرجة وكان يؤكدها بقوله: "أبداً كأنه ملاك يمشي على قدمين"، تلك هي الصورة التي رسخت في ذهني وخيالي عن سماحة الفقيه الفقيد.
وبهذه المناسبة السنوية لفقده المفجع أحببتُ أن أشارك الأخوة الكرام هذه الذكرى الأليمة، وأن أتناول موضوعاً واحداً كتب عنه سماحته ألا وهو رسول الله (ص) الذي كان سيده ومولاه وأسوته ومقتداه في حياته كلها قولاً وعملاً والله العالم، حيث نأخذ بعض أفكاره لنعرف طريقة تفكيره بجده رسول الله (ص) وأسلوبه بتناول شخصيته المباركة ورسالته الخاتمة، من خلال كتابه؛ (الرسول الأعظم رائد الحضارة الإنسانية).
الرسول الأعظم (ص) عظيم العظماء
في مقدمة حديثه في كتابه عن رسول الله (ص) يقول سماحته: "حينما يبحث الإنسان في ثنايا التاريخ يجد هناك عباقرة وعظماء، استطاعوا أن ينالوا درجة المجد، ويقتطفوا زهور الفلاح، وتمكنوا من أن يرشّوا عبير الخير والتقوى على جبين المجتمع.
وفعلاً.. لقد أدّى هؤلاء العباقرة رسالتهم التي كُلّفوا تبليغها إلى البشرية، وتحمّلوا أعباء الهداية والإرشاد، والسير بالإنسانية إلى الفلاح والسعادة والتقدم والرفاه.. وعندما يسبر الإنسان أحوالهم، ويدقّق في الصفات الحسنة التي يمتلكونها، يجد أنّ هؤلاء العظماء لم ينبِغوا إلاّ في بعض العلوم، ولم يتحلُّوا إلاّ ببعض السِّمات الحميدة، وقلّ أن يُرى أحدٌ منهم وقد نبغ في جميع العلوم وأحاط بها إحاطةً مستوعبةً، وتحلّى بكلّ المزايا الحميدة، والأخلاق الفاضلة، ويبرز في رأس قائمة القِلّة هذا؛ رسول الإسلام العظيم، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) هذا الرسول الذي ضحّى بكل ما يملك في سبيل إماطة ضباب الجهل والغفلة والرذيلة عن البشرية، وجهد طيلة عمره الشريف من أجل إنقاذ البشرية من المستنقعات الموبوءة بالرذيلة والفشل والسقوط..
وما أجدر بالإنسان أن يبحث في حياته (صلى الله عليه وآله) الكريمة، ويُحاول أن يدرسها دراسة موضوعية، ليتخذه (صلى الله عليه وآله) قدوة في كافّة أعماله، ويجعله (صلى الله عليه وآله) الأسوة الحسنة، قال الله تعالى: (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21، الكتاب ص 11)
نعم؛ هكذا كان رسول الله (ص) فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين من الجن والإنس أجمعين، بل لكل العوالم المنظورة، والمخفية، فهو الرحمة المهداة إلى البشرية خاصة وللناس كافة بالتبشير بالجنة، والإنذار من النار، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28)
فهو من الناس ورسول الله الخاتم إليهم ليُنقذهم من الجهالة وحيرة الضلالة، لأن العرب كانوا في غاية البؤس، كما يصفهم وصيه وربيبه وأخوه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) بقوله: (إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا (صلّى الله عليه وآله) نَذيرًا لِلعالَمينَ، وأمينًا عَلَى التَّنزيلِ، وشَهيدًا عَلى هذِهِ الأُمَّةِ، وأنتُم يا مَعشَرَ العَرَبِ يَومَئِذٍ عَلى شَرِّ دينٍ وفي شَرِّ دارٍ، مُنيخونَ عَلى حِجارَةٍ خُشنٍ وحَيّاتٍ صُمٍّ وشَوكٍ مَبثوثٍ فِي البِلادِ، تَشرَبونَ الماءَ الخَبيثَ، وتَأكُلونَ الطَّعامَ الجَشيبَ، وتَسفِكونَ دِماءَ كُم، وتَقتُلونَ أولادَكُم، وتَقطَعونَ أرحامَكُم، وتَأكُلونَ أموالَكُم (بَينَكُم) بِالباطِلِ، سُبُلُكُم خائِفَةٌ، وَالأَصنامُ فيكُم مَنصوبَةٌ، (وَالآثامُ بِكُم مَعصوبَةٌ)، ولا يُؤمِنُ أكثَرُهُم بِاللهِ إلّا وهُم مُشرِكونَ، فمنّ اللَّه عزّ وجلّ عليكم بمحمّد(صلى اللّه عليه وآله) فبعثه إليكم رسولاً من أنفسكم).
وكذلك وصفتهم سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها الفدكية المشهورة حيث قالت: (وكنتم على شفا حفرة من النار، مِذْقَة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ (والورق)، أذلَّة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ(ص).
فكم كان عظمياً شخصه، وعظيمة رسالته إلى البشرية، لأن العرب كانوا فيما يُسمونه بالجاهلية الجهلاء التي تتصف بكل هذه الصفات التي هي أشبه بمجتمعات البهائم والحيوانات كما نرى اليوم حيث الجاهلية الحديثة في عصر الحضارة الرقمية، التي تخلَّى أصحابها عن قيمهم، وفضيلتهم، وحتى عن إنسانيتهم، لا سيما بعد أن فضحتهم أزمة كورونا العالمية.
رسول الله (ص) رائد الحضارة
ومن هنا كانت انطلاقة السيد الفقيه في حديثه ونظرته لجده رسول الله (ص) الذي وجده رسول القيم والفضيلة وتلك هي أسس بناء الحضارة الإنسانية، فيسأل سماحته مع بعض المتفلسفين "أسئلة تطرح نفسها كلّما جاء الحديث عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) على بساط البحث قائلة: ماذا قدّم الرسول (صلى الله عليه وآله) لنا؟
وما هي الفائدة التي جنيناها منه (صلى الله عليه وآله)؟ ولماذا نفضِّل الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) على المكتشفين والمخترعين؟
ثم يجيب عليها بالجواب الشافي الكافي حيث يقول: "إن الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) قد تحملوا أعباء رسالة الله إلى الإنسان، وهم قد بينوا للإنسان خرائط السعادة والرفاه، في الدنيا والآخرة، ولولاهم لكان البشر يتيهون ويضيعون في طرق هذه الحياة الملتوية.
ومن الواضح.. أن بيان سبل السعادة للإنسان، هو أفضل بكثير من إيجاد حياة مادية فحسب.
فانظر إلى ما قدّمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) إلى البشرية! فلقد كانت الجزيرة العربية في منتهى الاضطراب.. وكانت الحروب تنشب أظافرها فيهم.. وكان الجاهليون يدفنون بناتهم في التراب وهنّ بعدُ أحياء، ويقتلون أولادهم خشية الفقر..
قال الله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) (التكوير: 8 -9)
وقال عزّ شأنه: (وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ مّنْ إمْلاَقٍ نّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ) (الأنعام: 151)
ولقد انتشرت الرذيلة، في أرجاء الجزيرة العربية، ورفرف الجهل بأجنحته على رؤوسهم.. وخيّم المرض عليهم، وانتظرهم الموت جاثياً عن كثب.. فجاء رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) بأرفع القوانين، وأعلاها، وأعظمها شأناً، وأنقذ الإنسانية من السقوط، ومن الجهل والمرض والرذيلة.. أما المكتشفون.. أما المخترعون.. فإنهم لم يخططوا برنامجاً ودستوراً للحياة السعيدة المقرونة بالرغد والهناءة.. صحيح.. إنهم هيئوا الوسائل الأحسن للعيش، ولكنهم لم يكونوا ليخططوا للحياة السعيدة". (الكتاب: ص17)
منظومة القيم الحضارية
نعم؛ رسول الله (ص) جاء بمنظومة متكاملة من القيم التي تبني الإنسان السليم، والمجتمع الصحيح، والحضارة الإنسانية الراقية، فلولا رسول الله (ص) لكان الناس في هذه الدنيا كما الحياة في الغابات، أو المحيطات القوي يأكل الضعيف كما حالنا اليوم في ظل الحضارة الرقمية، فما نشهده في أمها الولايات المتحدة وتصرفات كبيرها الذي ضرب بكل القيم والأعراف عندهم عرض الحائط وراح يتصرف كرئيس عصابة لا رئيس أقوى دولة في العالم.
فعظمة الرسول الأعظم (ص) كانت في شخصه الكريم، وفي قرآنه العظيم، ورسالته الإسلامية بما فيها من تشريعات، ونُظم، وقوانين، قمينة وأمينة أن تُعطي الحياة برمتها كل أسباب التقدم والتطور والرقي الحضاري لو أخذوا بها وأقاموا حدودها كم أمر الله وبيَّن رسوله (ص).
فآلاف التحية والسلام عليك يا رسول الله (ص)، وعلى آلك الأخيار الأبرار، وعلى ذريتك المظلومة ومنهم هذا السيد الجليل والفقيه النبيل المرحوم محمد رضا الشيرازي في يوم وفاته.
اضف تعليق