عندما قررت الذهاب إلى جنة التفاؤل كنت قد قطعت مسافات طويلة في جحيم التشاؤم، ليس على طريقة الفيلسوف آرثر شوبنهاور، لكن بطريقة العراقيين المعتادة التي خُلِطَت بالحزن والحروب والأزمات، حتى أنهم يبكون في أغانيهم، ويطلقون الرصاص في أعيادهم ومناسباتهم السعيدة، تلك هي الحياة التي أنبتت بذرة التشاؤم في كتاباتي وكتابات زملائي...
كتبت حوالي 600 مقالٍ سياسي منذ دخولي مجال الكتابة السياسية في شبكة النبأ المعلوماتية وحتى الآن، وغالبية المقالات تلك إما نقدية صارخة أو تحليلية تخرج بنتائج غير مشجعة على التفاؤل، هذه المرة حاولت الخروج من صندوق التشاؤم والمسير عبر طريق التفاؤل.
عندما قررت الذهاب إلى جنة التفاؤل كنت قد قطعت مسافات طويلة في جحيم التشاؤم، ليس على طريقة الفيلسوف آرثر شوبنهاور، لكن بطريقة العراقيين المعتادة التي خُلِطَت بالحزن والحروب والأزمات، حتى أنهم يبكون في أغانيهم، ويطلقون الرصاص في أعيادهم ومناسباتهم السعيدة، تلك هي الحياة التي أنبتت بذرة التشاؤم في كتاباتي وكتابات زملائي.
ولكني ابدأ أول خطوة نحو الكتابة بعد تحديد الفكرة هي فتح الحاسوب الشخصي (اللاب توب) وزرع الكلمات واحدة تلو الأخرى، في بعض الأحيان أقوم بنثر الأفكار مثل الفلاح، وفي أحيان أخرى أضع لها خطة مسبقة، وبناء الأساسات مثل المهندسين ثم أقوم بتثبيت الإسمنت وإلى آخر العملية التي تنتهي ببناء مقال سياسي متكامل ينشر في الصحف والمواقع الإلكترونية.
عملت مثل المهندسين وكتبت الخطة في قائمة المهام الموجودة في الهاتف الذكي، عملت ذلك خلسة خلال جلسة مع الزملاء، عدت إلى المنزل وأنا مرتاح، فلم يبقى لدي سوى تنفيذ الخطة على شكل مقال متكامل، فتحت الحاسوب الشخصي وأخرجت سلك الشحن لتوصيله في مقبس الكهرباء، لكن الكهرباء كانت غائبة عن البيت منذ تسع ساعات متواصلة، كتبت جزءاً من المقال مستفيداً من الشحن المتبقي، بعد مدة ليست بالطويلة رن جرس التنبيه ليبلغني عن نفاذ بطارية الحاسوب، لم أكن أملك ترف الوقت للغضب، فكرت بسرعة في خطة بديلة، نقلت المادة المكتوبة عبر تطبيق تلغرام إلى جهاز "آي باد"، وأغلق الحاسوب نفسه تلقائياً معلناً فراغ البطارية من الشحن بشكل نهائي.
فتحت الجهاز اللوحي لإكمال مسيرة المقال التفاؤلي، شعرت بالصدمة فالمادة المكتوبة إليه لأن بطارية جهاز الإنترنت (الراوتر) قد نفذت وأغلق نفسه تلقائياً مثل أخيه الحاسوب. ومثل أغلب الناس ضربت الطاولة التي كنت أجلس عليها وتركت المقال وخرجت من البيت وينتابني شعور بالغضب، حاولت دفنه عبر ادعاء السعادة برسم الابتسامة بوجه أفراد أسرتي، شغلت السيارة لشراء بعض الحاجيات من السوق، ولأن تقاليد قيادة السيارة عندي تتطلب تشغيل الراديو سمعت بعض الأخبار في الطريق، منها تسريب مشروع الموازنة العامة للدولة والجدل الذي أثارته بتصريحات للنواب يدعون فيها إلى معاقبة الحكومة لعدم قدرتها على المحافظة على سرية المعلومات الواردة فيها.
فالموازنة المسربة تسببت بارتباك السوق العراقي وخاصة سوق صرف الدولار مقابل الدينار العراقي، الموازنة تقول شيء والنواب في البرلمان لهم حديث آخر، فالموازنة المسربة تقول أن الحكومة عازمة على رفع سعر صرف الدولار، بينما هناك تصريحات نيابية تؤكد عدم موافقتها على تمرير قانون الموازنة بهذه الطريقة.
وما بين الإثبات والنفي عاشت اسعار الدولار موجة من الصعود والنزول، ارتبك على اثرها السوق ارتباكاً خطيراً، وكادت العملة العراقية أن تصل إلى مرحلة السقوط الحر كما حدث للتومان الإيراني والليرة التركية نتيجة العقوبات الأميركية.
في هذه اللحظات الفاصلة كنت واثقاً تماماً أن الحكومة تخطط لشيء ما، والخطة تقضي بسلب الجزء المتبقي من محفظة العراقيين لكن بطريقة يقبلون بها، أو على أقل تقدير لا تثيرهم إلى درجة الخروج بتظاهرات، تذكرت هناك المثل الشعبي المشهور "الي يشوف الموت يرضى بالصخونة (ارتفاع حرارة الجسم)".
خلال يومين شاهدنا الموت، وأي موت؟ إنه موت العملة العراقية وفقدان كل شيء، الرواتب والأموال المخزنة والأصول المالية التي نملكها، وأكبر خسارة سيتحملها المواطن المعدم الذي لا يجيد قواعد اللعب، إنه يعيش وسط الموجة دون معرفته أسبابها وأوقات ثورانها وتوقفها، لكن في النهاية أعلن البنك المركزي في بيان مطول له أنه قرر تعديل سعر صرف الدولار وكما يلي:
1450 دينار لكل دولار سعر شراء العملة الأجنبية من وزارة المالية
1460 دينار لكل دولار سعر بيع العملة الأجنبية للمصارف
1470 دينار لكل دولار سعر بيع العملة الأجنبية للجمهور
بمعنى أن سعر الدولار ارتفع من 1119 دينار لكل دولار واحد كما كان يباع رسمياً إلى 1450 ديناراً، وتبين أن ما مكتوب في الموازنة المسربة هو صحيح، بل هي ليست موازنة مسربة أصلاً، إنما هو مشهد من مشاهد الموت من أجل أن يرضى الشعب العراقي بـ"الصخونة" التي تتسبب بها الحكومة العراقية عبر اصلاحاتها التي لا تمس إلا مصالح المواطن، أما الجهات المتنفذ والفاسدة فلا نسمع عنها سوى عبر بيانات هيأة النزاهة التي تتحفظ على أسماء الفاسدين وتتحدث ببيانات عمومية لا نفهم منها شيء.
المفهوم لحد الآن أن المواطن سوف يدفع ضربة جديدة لكنها قاسية وموجعة أكثر من وجع السوط على المحكومين بالجَلْد على الطريقة السعودية، المواطن الذي سوف يتحمل ضربة جديدة من أخطاء المنظومة الارستقراطية الحاكمة لن يهرب من مقصلة الاستقطاعات في الرواتب كما هو مكتوب في الموازنة المسربة.
لم ينتهي الحديث عن رفع سعر صرف الدولار، لكنني عدت الآن إلى البيت من أجل إكمال مقالي عن التفاؤل السياسي في العراق، دخلت إلى البيت وقد حل الليل فاضطررت إلى استخدام ضوء الفلاش في الهاتف الذكي لأن الكهرباء الوطنية غير موجودة وصاحب المولدة الأهلية امتنع عن تشغيلها لأنه أكمل نصابه التشغيلي وحل الظلام الدامس في المنطقة التي اسكن فيها وما زلت اتنقل بين غرف البيت عبر اضاءة الهاتف الخافتة.
أوقفت مشروع الكتابة عن التفاؤل السياسي وسجلته ضمن المشاريع المتلكئة، وأعلن انني سوف اكمله عندما تأتي الكهرباء الوطنية واستطيع فتح حاسوبي الشخصي، ويعمل الإنترنت بكامل طاقته، سوف اكتب مقالاً عن التفاؤل السياسي حينما يستقر سعر صرف الدينار العراقي وتتوقف الحكومة عن استقطاع رواتب الموظفين بشكل مباشر، أو استيفاء الضرائب القاسية من الموظفين وغير الموظفين.
وقد أكتب مقالاً عن التفاؤل السياسي عندما تجري الانتخابات المقبلة بطريقة نزيهة وبقانون انتخابي حقيقي وثابت لا يخضع للتعديل مع كل دورة انتخابية من أجل ضمان فوز جهات سياسية وتيارات شعبوية على حساب أخرى.
وقد أكتب مقالاً عن التفاؤل السياسي عندما أعمل في مؤسسة إعلامية تابعة للحكومة من ليس لأن الوضع قد تغير بل انني قد تغيرت وصرت بوقاً من أبواق السلطة، وهذا ما لا أتمناها، فالكاتب يبقى ناقداً للوضع السياسي العام وخاصة في البيئات المتأزمة. والكاتب المخلص لمهنته لا تتلون كتاباته بتلون المؤسسات التي يعمل فيها، ولا يحق له تغيير نبرته النقدية لأنه السلطة التي تحاكم الوضع العام للدولة، عبر الرصد والتحليل والاضاءة على المناطق المعتمة في مجتمعه.
انتظروني لأكتب لكم عن التفاؤل السياسي عندما استطيع إكمال مقال واحد دون أن تنطفئ الكهرباء الوطنية.
اضف تعليق