تحديداً تاريخياً بدأ مفهوم التعدد الثقافي او الثقافات المتعددة، حين اصطدم الارساليون المسيحيون في آسيا وافريقيا بثقافات من نوع آخر تتميز بقوة الرسوخ في مجتمعاتها، مما اعاق حركة التبشير الديني بالمسيحية في هذه المناطق، وعلى أثرها بدأ الجدل المسيحي بشقيه الكاثوليكي والبروتستانتي يتناول مفاهيم الثقافة والحضارة وعلاقتهما الجدلية مع الدين من وجهة نظر المسيحية، وقد اشار أوليفيه روا الى أن مثل هذا الجدل كان قد بدأ في القرن السابع عشر الميلادي، وبينما كان الكاثوليك اشد مشاكلة للدين مع الثقافة والحضارة، وأن تفوق الثقافة في انتاج الحضارة إنما يكون حين يكون الايمان ماثلاً في هذه الثقافة - وطبعاً يعنون به الايمان المسيحي - بينما كان البروتستانت الانكليز يرون الجانب الدنيوي بتقدير أكبر في الحضارة الغربية، ويرون ان المعادل لهذه الحضارة من ناحية الدين هو التفوق الاخلاقي المسيحي الذي منح الثقافة الغربية هذا التفوق الحضاري.
اذاً فالجانب الذي اشتغلت عليه المسيحية في الحضارة الغربية هي تلك الاخلاق المثالية للمسيحية، بينما من وجهة نظر الكاثوليك فان المسيحية وثقافتها الدينية هي التي انتجت الحضارة الغربية، وبذلك تكونت فكرة التفوق الثقافي لمجتمعات الحضارة الغربية، وانه تفوق ذاتي من وجهة نظر مسيحية غربية، ترى انها حضارة أتت من المسيحية وهناك وجهة نظر اخرى تعزو تفوقها الى كونها حضارة عامرة وملهمة بالدين على الدوام (اوليفيه اورا/الجهل المقدس 101).
لكن اوربا او روما تحديداً وقبلها اثينا قد عرفت ذلك التفوق الذاتي بالحضارة، او الاحساس بهذا التفوق الذاتي قبل وصول المسيحية من مناطق الشرق وشواطئ البحر المتوسط الى روما والغرب.
لكن استمرارية انتاج الحضارة في الغرب هو الذي اكسب مجتمعاتها وافرادها هذا الاحساس المستمر بالتفوق المعنوي والثقافي تجاه المجتمعات الاخرى. لقد كانت المسيحية في روما مدعاة الى ترسيخ هذا الشعور او الاحساس القديم بقوة في الذات الاوربية.
إصطدم هذا الاحساس بملاقاة رجال التبشير المسيحي والارساليات الكنسية لمجتمعات وثقافات نائية وبدائية، في مجتمعات الهنود في امريكا، وفي اسيا، وفي افريقيا. لقد وجدت ثقافات لم يكن من السهل ازالتها واستبدالها بالثقافة الغربية المشبعة بالمسيحية، او المماثلة للايمان المسيحي، مما اضطرهم الى اعادة الخطط او المخططات التبشيرية في التعامل مع هؤلاء الوثنيين والضالين البعيدين عن الغرب واوربا. وبدأت تتراجع عندهم المشاعر العنصرية والاحساس بالثقافة المتفوقة، فكان بعض الارساليين يشجعون الزيجات المختلطة مع الهنود ويتجنبون إحياء اي مشاعر عنصرية سواء كانت دينية ام ثقافية.
وقد ادرك هؤلاء الارساليون في العام 1615 م ان نجاح التنصير يتوقف على تضافر جهود الكنيسة والدولة على حمل الهنود نحو العيش بتحضر وتبني أنماط حضارية في عيشهم... (م ن ص 102).
ويتحدث اوليفية روا عن وسائل عديدة في حركة التنصير التي مارسها هؤلاء الارساليون، وهي وسائل في غالبها الاعم تنتمي الى انماط من التحضر وفق مقاسات الغرب المسيحي، وامكانات البناء الثقافي المسيحي الارسالي وفق تقاليد وعادات هذه الشعوب، او وفقاً للثقافات المحلية لهؤلاء السكان غير المنتمين الى جغرافية وثقافة الغرب المسيحي – الاوربي، وهو ما يطلق عليه عملية التثاقف، والتي حاولت ان تصنع مزيجاً مسيحياً ثقافياً محلياً لكنه غير منقطع الجذور عن روما المسيحية بما تمثله من راسب عميق لثقافة الغرب التاريخية والمسيحية.
بل ان واحداً من نتائج هذا المثاقفة التاريخية أن وطأه الاحساس بالواجب الديني تجاه التنصير بدأ يتراجع لصالح قيم انسانية عليا. فقد ذكر أوليفيه روا أنه وعلى مدى القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين، كانت حركة تعاطف انساني تسري في الارساليات التبشيرية، فلم يكن التنصير أهم من المستقبل وليس كنيسة حجر اهم من دار الايتام. ولم يعد هناك تزمتاً في قبول المسيحي فقط في المؤسسات التعليمية التابعة للكنيسة، ونتيجة قوة الثقافات المحلية وايمان الارساليات المسيحية برسوخ هذه الثقافات وكيفية استيعابها كان سؤال يطرح بصدد الطقوس في هذه الثقافات غير الغربية - المسيحية والى أي مدى يمكن المضي للمسيحية ان تقدم تنازلات.
وهو مؤشر على قوة تجذر الثقافات في مجتمعاتها الام والمتعددة، وكان واحداً من وسائل المسيحية الكاثوليكية في مهمة التنصير (والتنصير كلمة تستخدمها ادبيات الكنيسة الحديثة في بياناتها المتعلقة بالموضوع) هو اقتراح مفهوم الاندراج الثقافي، والذي يعني دخول المسيحية من خلال الثقافات المحلية واستخدام لغتها وادواتها ورموزها الثقافية في ايصال المسيحية الى قناعة هذه الشعوب البعيدة عن اوربا وسياقاتها الثقافية المعتادة. ويستدل اللاهوتيون المسيحيون على فكرة الاندراج الثقافي بما كان من تبني المسيحية الاولى للثقافات التي عبرت من خلالها من هيلينية بولس الرسول واغريقية ورومانية المسيحيين الاوائل في القرون الاولى للمسيحية.
ومن المؤكد فأن إمكانية التعددية المسيحية التي كان يكفلها مفهوم الاندراج الثقافي كان يتضمن نقاشاً مسيحياً حول العلاقة بين الدين والثقافة.
والنظر الى امكانية الثقافة في التعبير عن ارادة الوحي مما يمهد الى امكانية الفهم المتعدد للوحي على ضوء نظرية الاندراج الثقافي الكاثوليكية، على الرغم من وجود منتقدين عديدين لها في الكنيسة الكاثوليكية وعلى مستويات عالية في القيادة الكنسية – راجع (الجهل المقدس – اوليفية روا - ص 109 - 110).
وبذلك نكتشف الجذر الديني المسيحي في اثارة مبدأ او مفهوم التعددية الثقافية، لكن في اعقاب بروز مبدأ التعددية الدينية الحديث عند جون هيك والذي انتقل بالنقاش المسيحي من امكانية تعددية مسيحية (لازالت مترددة) الى امكانية تعددية دينية لازالت في طور إشكاليتها الثقافية والدينية.
إن الاب اليسوعي فرانسوا فاريون (1905- 1978) يتحدث عن خصوصية او فرادة الكنيسة في المرور عبرها الى الله، ويصف الكنيسة بانها تجسّد عطية الله.
لكنه يعود ويتساءل أيمكن الذهاب الى الله بدون المرور بالكنيسة؟
وكيسوعي تقليدي فأنه يؤشر فخاً في هذا السؤال وفق قوله، والفخ الذي يعنيه هو امكانية المرور الى الله عبر اديان اخرى تنتشر في العالم وفي التاريخ البشري، مما يجعل المعادلة المسيحية في تجسيد الكنيسة لعطية الله في حرج عقائدي وفكري. ويمهد الاب فاريون في مناقشته بالإشارة الى الايمان البدهي في قلوب الناس بوجود كائن متعال قدير وراء العالم. وقد سعت الاديان الاخرى من وجهه نظره الى محاولة رفع الانسان ليذهب الى ذاك الاله او تلك الآلهة.
وهو مالم تشاركها فيه الديانة المسيحية، وهي تبدو نظرية كنسية منحازة لازالت تمارس ذلك التمييز المقصود للمسيحية عن اديان العالم، لكنه يكشف عن سر تمييز عنصري في متبنيات لازالت قائمة في الكنيسة المسيحية من وجهة نظرية التعددية الدينية او استنتاجاً عن متبنى هذه النظرية الديني.
ان التمييز الذي يطرحه الاب اليسوعي فاريون وهو تمييز دقيق يحصن الديانة المسيحية او الكنيسة من نقد العنصرية والتمييز.
ان الاديان اذا كانت هي التي تريد ان تذهب بالانسان الى الله، فان المسيحية او الكنيسة هي تأتي بالله الى الانسان او بعبارة فاريون (ان الكنيسة هي الطريق الذي يستخدمة الله ليلحق بنا.... ان الله يهب نفسه) للبشر والكنيسة، هكذا تجسد عطيه الله. وفي المسيحية التقليدية فانها تجسد الخلاص، وهي العقيدة التقليدية التي اسسها او ركز عليها اوغسطينوس في عبارته الشهيرة (لا خلاص خارج الكنيسة).
وبذلك تم الحكم الابدي على غير المسيحيين بالحرمان من نعمة الحياة الابدية والمصير الى الجحيم في جهنم، وقد تبنته رسمياً الكنيسة المسيحية في عصورها المتعاقبة.
ولان الاب فاريون تأثر الى حد ما بالتعددية الدينية قال ان (الكنيسة تجسد عطية الله) وترك مجالاً للخلاص خارج الكنيسة، لكنه ذلك المجال الذي يعود اخيرا الى الكنيسة، او انه رغم اختلافه عن الكنيسة او المسيحية شكلاً لكنه منسجم مضموناً و متداخل مضموناً مع الكنيسة، ومن اجل ان لايتخلص من انتمائه التقليدي الى الكنيسة فأنه يستشهد لتوثيق مقولته بعبارة اوغسطينوس (هناك من يعتقدون بأنهم من الداخل وهم من الخارج وهناك من يعتقدون بأنهم في الخارج وهم في الداخل).
ويرى اللاهوتي البريطاني جون هيك في هذه المواقف المترددة في التخلي بعمق عن حصرية الخلاص بالكنيسة، بأنها لاتشكل استجابة قلبية لمقتضيات الحقيقة الانسانية العامة وانتهاء بالتخلي العميق عن هذه الفكرة الخلاصية – المسيحية، ويرى وجيه قانصو ان جون هيك انتقل بالتعددية الدينية من كونها اشكالية لاهوتية ومعرفيه الى كونها اشكالية اخلاقية. (التعددية الدينية عند جون هيك/ترجمة: وجيه قانصو، ص—46) وفي اشكالها اللاهوتي والمعرفي ومن ثم الاخلاقي تبدو اشكالية عصرية لم تعهدها الكنيسة المسيحية في كل عصورها المتقدمة، وذروة الاشكال فيها انها قد تخرج على التعاليم الكنسية الاصلية في المسيحية وعدم الايمان بها قد يؤدي الى (تشوية حقيقة الله المحب لكل البشر) م ن ص46.
هكذا بدت اهمية التعددية الدينية من وجهة نظر رائدها في العصر الحديث اللاهوتي جون هيك، والتي يضعها في مقاربات ثلاث يسهل الايمان بها دينياً وثقافياً. فالمقاربة الاولى تجريبية واقعية يستشفها هيك عبر محاولة استقرائية تظهر ايمان الاديان الكبرى في العالم بالكائن الاسمى (الله تعالى).
واما المقاربة الثانية فأنها معرفية تستند الى تعميم ايمانويل كانت (الشيء في ذاته والشيء لذاته) وهي تؤسس في نظره الفرق بين الحقيقة الالهية (الله) والتعبير عنه بتعدد صفاته واسمائه ضمن امكانات الادراك البشري واختلاف كل ادراك بشري عن ادراك بشري اخر.
بهذا ينتهي الى المقاربة الثالثة وهي التي تتعلق بالثقافة او المقاربة الانثروبولوجية ويفسر التعدد بفهم الحقيقة الالهية او (الله) الى تعدد اللغات والثقافات ويرى انه تعدد انساني لحقيقة الهية واحدة. (م ن، ص 66- 67).
وهكذا ينتهي جون هيك الى تأصيل التعددية الدينية في التعددية الثقافية، التي تحمل امكانية الانسجام والتقارب الديني كلما تكشفت المضامين المشتركة بين الاديان لاسيما الكبرى والتوحيدية فيها، وهي امكانية تحمل نصوص دينية عديدة معناها ومغزاها.
لكن التعددية الثقافية بالإمكان ان تنكفئ على نفسها وتدمر كل الانسجام بين المجتمعات البشرية وتعيق فرص السلام بين افراد البشر، حين تتحكم وجهات النظر السياسية والمصالح الدولية والاقليمية في المسارات التاريخية للتعددية الثقافية، وتعبئتها ايديولوجيا وفق وجهات النظر السياسية هذه لتعيد اللعبة من جديد. وتحريف المقولة المسيحية القديمة والتقليدية بأن (لاخلاص الا في الكنيسة) بمقولة لاخلاص الا بالسوق الحرة التي اشترطت في سيرورتها التاريخية الحديثة مبدأ التعددية الثقافية وراعية مقترح الخلاص الحديث في كلا المبدأين، التعددية الثقافية، والسوق الحرة، هي الولايات المتحدة الاميركية.
اضف تعليق