الدرس المستفاد من كانط هو لا يهم عدم احتمالية حصول ذلك، نحن يجب ان لا نفقد الأمل بإمكانية المجتمع العادل تماما، وان العداء الاجتماعي والصراعات التي نراها هي خطوات نحو هذا الهدف. بدون هذا الأمل سنبقى محبطين وعاجزين عن تغيير أي شيء. يدعونا كانط للكفاح...
في جميع أقسام الفلسفة في العالم، ناقش وحلل الطلاب والباحثون نقد العقل الخالص(1781) والأعمال البارزة الاخرى لعمانوئيل كانط مثل نقد العقل العملي. فلسفة كانط النقدية عادة اشير اليها في الأفلام الشعبية، مثل فيلم السوبرمان 2 الذي يشير في أحد مشاهده لنقد العقل الخالص. بالمقابل، بقيت فلسفة كانط في التاريخ غائبة الى حد كبير عن وعي الناس وهو ما يقود للتساؤل هل ان مفهوم كانط للتاريخ يمكن ان يعلّمنا شيئا عن العالم الذي نعيش فيه؟ يقول تيرنس ثومسن استاذ الفلسفة في جامعة كينجستون ان فلسفة كانط في التاريخ هي حديثة جدا ويمكن ان تعلّمنا شيئا هاما عن ثقافة وسياسة اليوم.
في عام 1784، وبعد ثلاث سنوات من نشر كتابه نقد العقل الخالص، نشر كانط مقالا غير عادي في احدى الصحف الثقافية البارزة بعنوان "فكرة عن التاريخ العالمي من منظور كوزموبولتيني". المقال المكوّن من تسع فرضيات، حاول طرح العناصر الاساسية التي يجب ان ينظر بها مؤرخو المستقبل ان ارادوا جمع وتصنيف التاريخ الانساني العالمي.
قد لا تبدو هذه فكرة غريبة اليوم، لأننا نرى دائما هذا النوع من التاريخ يُنشر في مختلف المواضيع. فمثلا، Jared Diamond في كتابه (Guns, Germs and steel) 1997، و Haran’s Sapiens 2015 كلاهما يحاولان بناء تاريخ عالمي من وجهة نظر معينة. لكن ما هو غريب في مقالة كانط القصيرة هو نقاشها للصراع في التاريخ بالاضافة لدور الطبيعة في ذلك الصراع.
يتسم عصرنا بالزيادة الكبيرة في الصراعات سواء كانت عسكرية او رقمية او حتى صراعات من كلا النوعين مثل الاستخدام العسكري للطائرات المسيرة. الارهاب في جميع مظاهره يمكن اعتباره ايضا تحت هذا العنوان، وهو عنصر للحياة اليومية للعديد من دول الشرق الاوسط، وأحد العناصر المهيمنة دائما على الوعي الامريكي والاوربي. حتى التدافع على مقعد في باص مزدحم او قطار يمكن اعتباره شكلا من الصراع الاجتماعي.
رؤية كانط في التاريخ تقول لنا ان الصراع ليس مجرد مجموعة من الأفعال الطائشة التي تحدث عشوائيا، ولا هو رمز لكابوس او اتجاه نحو نهاية للعالم. بل، هناك شيء ما مكمّل في جميع تلك الصراعات مهما كانت متنوعة او السياق الذي تبدو فيه.
في الفرضية الرابعة، يطرح كانط فكرة ارتبطت دائما بمفهوم "مكر الطبيعة" (تفكير هيجل اللاحق في "مكر العقل" هو اشارة واضحة لكانط). ان مكر الطبيعة يستلزم خاصية التفاعل الاجتماعي للانسان التي يسميها كانط بـ "نزعة التفاعل والتصادم مع المجتمع" unsocial sociability، (1) التي يعرّفها "بميل الفرد للدخول في المجتمع، وهي نزعة ترتبط بالمقاومة المستمرة التي تهدد باستمرار نسيج ذلك المجتمع". انها ميل الانسان الطبيعي للارتباط بالناس الآخرين وليكون جزءاً من كل اكبر، لكنها مع ذلك هي جزء من ميلنا الطبيعي لتحطيم هذه الروابط الاجتماعية من خلال الانعزال والانقسام.
كانط يجادل بان هذا الانشطار هو اصل ومصدر جميع صراعات الانسان، حتى الصراع بين الدول ينبثق من "نزعة التفاعل والتصادم مع المجتمع "، الدول التي تدخل في صراع تكسر الروابط الاجتماعية، مما يؤدي الى حالة الحرب. الحرب الباردة هي مثال صارخ عن نزعة التفاعل والتصادم مع المجتمع التي تدفع الدول الى جمود خطير ومأزق غير قابل للحل. غير ان كانط يعزو ايضا التقدم التاريخي الى تلك النزعة – ويعني ان نزعة التفاعل والتصادم مع المجتمع مسؤولة عن تطور الانسانية نحو حالة اكثر تنورا. بدون المظهر العدائي للانسانية، يعتقد كانط اننا سوف لن نُجبر لننمو ثقافيا او فكريا.
في هذا المعنى، نزعة التفاعل والتصادم مع المجتمع هي القوة الرائدة التي تقف خلف كل مظاهر التاريخ الانساني. طبقا لكانط، الصراع يلعب دورا رئيسيا هنا، في تضاد مع الكثير من فكر ما بعد عام 1945 حول التقدم. كيف نستطيع القول ان الصراع بالنهاية يساهم في التقدم، خاصة في ضوء الرعب المخيف للقرن العشرين؟ بالتأكيد نحن لا نستطيع الحكم على تلك الاشياء طبقا لمفهوم التقدم الذي صيغ عام 1784؟ في الحقيقة، كانط يستطيع تفسير هذه الصراعات. طبقا للفرضية الخامسة لكانط، النقطة التي يتجه نحوها التطور التاريخي الانساني هي دساتير عادلة تماما، بما يعني مجتمع متساوي او "عالمي" حيث الجميع يُرحب بهم ومتساوون.
كانط يعزو هذا الهدف الطوباوي ايضا الى نزعة التفاعل والتصادم مع المجتمع، لأننا قد نتعلم من الصراعات التي تقذف بنا تلك النزعة نحوها. هذه هي جوهر مقالة كانط وربما خاصيتها الاكثر غرابة اي ان نزعة التفاعل والتصادم مع المجتمع تدفع الناس للنزاع ضد بعضهم، تجبرهم ليتعلموا كيف يتعاملون او لا يتعاملون مع الاخر، وبهذا يطورون قوانينا اخلاقية. كذلك، طبقا لكانط، هذا سيقود الى حالة يصبح فيها من الضروري بالنهاية إلغاء الصراع.
ومن هنا، يأتي مكر الطبيعة حيث يحدث الصراع في السعي نحو غايات تطورية نجهلها وذلك من خلال مساعدتنا في التعلم من الأخطاء التي حصلت في التاريخ على المستويين الفردي والعالمي. في ملاحظة من عام 1776، كان لدى كانط سلفا رؤية واضحة عن هذه الفكرة، هو يكتب "الهدف المفيد من التاريخ الفلسفي يتمثل في الحفاظ على النماذج الجيدة وعرض الاخطاء التعليمية".
ان هذا يعلّمنا درسا مهما حول الحاضر. من السهل ضياع الرؤية في مقدرتنا على بناء قوانين ومؤسسات تمنع الأذى عن الآخرين. من السهل النظر للموقف السياسي والاجتماعي عالميا او في بلد معين، ونقرر ان الاشياء لن تتحسن ابدا- ذلك اننا في طريقنا للاصطدام مع كارثة. الدرس المستفاد من كانط هو لا يهم عدم احتمالية حصول ذلك، نحن يجب ان لا نفقد الأمل بإمكانية المجتمع العادل تماما، وان العداء الاجتماعي والصراعات التي نراها هي خطوات نحو هذا الهدف. بدون هذا الأمل سنبقى محبطين وعاجزين عن تغيير أي شيء.
يدعونا كانط للكفاح نحو مجتمع اكثر عالمية لأننا اذا لم نقم بذلك، عندئذ سوف لم نتعلم اي شيء من الرعب الذي أخاف تاريخنا، وسنبقى بلا مصابيح تضيء الطريق الى ليل مجهول.
اضف تعليق