مكامن الأزمة قد تبدو في التركة التاريخية والاجتماعية التي أورثتها سنوات أو عقود من التغييب المستمر للشعب عن السلطة وعن مصالحه واحلال الحروب غير المنقطعة في تاريخه الحديث والمعاصر مما أورث ذلك البغض للدولة، هذا البغض أفقد قواعد التأسيس الاجتماعي والنفسي للدولة في الذات العراقية...
لم تنجل أزمة الدولة في العراق في تاريخه الحديث والمعاصر وقد تبدو في تاريخه المعاصر أشد تأزيما وأبعد حلا، وهو ما يؤثر حاضرا ومستقبلا على البعد الماهوي للدولة وهو المتعلق بالهوية، ويؤثر على البعدين السياسي والقانوني أخيرا، مما ينعكس على صيغ العلاقة بالدولة وماتنتجه من إمكانية إزاحة هذه الدولة التي لم تترسخ علاقتها الماهوية بالشعب وما يعقبه من تخلخل سياسي وغياب قانوني.
ومكامن الأزمة قد تبدو في التركة التاريخية والاجتماعية التي أورثتها سنوات أو عقود من التغييب المستمر للشعب عن السلطة وعن مصالحه واحلال الحروب غير المنقطعة في تاريخه الحديث والمعاصر مما أورث ذلك البغض للدولة، هذا البغض أفقد قواعد التأسيس الاجتماعي والنفسي للدولة في الذات العراقية وكان من نتائج هذا البغض وافتقاد قواعد التأسيس أن سعت هذه الذات الى تمزيق الدولة وبروح عدائية فيما عرف بظاهرة الحواسم وكان التعبير عنها بلفظ "الفرهود" تعبير عن التشفي بهذه الدولة الذي مارسته الذات المأزومة والمهزومة دائما في حلبة صراعهما غير المتكافيء مع الدولة.
وبعد سقوط النظام في 9/ 4/2003م بدا للعراقيين إمكانية إستعادة الدولة الى حضيرة الشعب، لكنها اصطدمت بهذه الدولة مرة أخرى بتغييب واضح لمصالح الشعب مما أعاد البغض الى تصورات هذه الذات المصدومة من جديد، ومن هنا عاد الحديث من جديد عن أزمة الدولة في العراق التي نظرت اليها الذات الشعبية والنخبوية بانها تكمن في الطبقة السياسية التي يعبر عنها دائما بالفاسدة للدلالة على حجم الادانة التي تتعرض لها أو حجم التسبب الذي مارسته في أزمة وخراب الدولة، وكانت هي ذاتها هذه الرؤية العراقية في تحميل نظام الدكتاتور ما قبل 9/ 4/ 2003م مسؤولية خراب وأزمة الدولة.
فأنظمة الحكم السياسية هي المسؤولة عن ما أصاب الدولة في العراق من تفريط بمفهوم وصيغة الدولة من خلال تفريط هذه الأنظمة بالعدالة الاجتماعية وبالحقوق السياسية والقانونية للفرد العراقي، وبذلك تم إقصاء مفهوم المواطنة عن آليات وممارسات هذه السلطات الدكتاتورية.
وهي رؤية في تفسير أزمة الدولة في العراق لازال يتداولها العراقيون منذ ظهور الحركات والأحزاب السياسية اليسارية ثم القومية ثم الاسلامية التي طرحت أفكارها حول فساد أنظمة الحكم هذه وبدائلها السياسية المقترحة، وكان فشل هذه البدائل المقترحة وعجزها عن تحقيق مشاريعها يطرح تساؤلات حول صحة وجدية أفكارها ونموذجية تلك البدائل رغم أنها كانت تحظى بتأييد شعبي في الداخل العراقي وأخر دولي أو اقليمي، وقد ترجم فشلها هذا صعود أجزاء منها مهمة وذات تاريخ نضالي الى سدة السلطة والحكم مما أحال التفسير في أزمة الدولة المعاصرة في العراق الى بنية وتركيبة هذا النظام السياسي الجديد.
فالتركيبة الطائفية هي التي سوغت هذا الفشل الذريع للنظام السياسي الجديد، بينما أحالها أخرون من النخبوية العراقية الى طبيعة وبنية الدستور، لكن هذا النقد تجاه الدستور يركز على الجوانب الفدرالية التي توظف باتجاه تقسيم العراق أو على المواد والفقرات التي توظف باتجاه الفائدة السياسية التي تجنيها الاحزاب المهيمنة على السلطة، لكن يظل مكمن الأزمة في الدولة هو في السلطة وليس بالضرورة القصوى بفسادها كما درج عليه التحليل السياسي الداخلي والخارجي، بل في كنه العلاقة بين السلطة والدولة في العراق مما يمكن أن نطلق عليه تورم السلطة.
أزمة الدولة وتورم السلطة
لقد رافقت عملية بناء الدولة في العراق بعد 9/4/2003 م تغير السياقات الخاصة حول مفهوم الدولة، فقد بدا مفهوم الدولة الحداثية مفهوما تقليديا وغير صالح للتكيف مع التغيرات التاريخية والزمنية الاجتماعية التي رافقت عصر ما بعد الحداثة.
فقد برزت في اعقاب الحرب الباردة عوامل دولية عديدة يقف في الصدارة منها العولمة الاقتصادية واتساع مديات المؤسسات الدولية الاقتصادية منها والسياسية في التأثير على سياسات الدول التي لم تتطور الى مستوى هذه التحديات التاريخية غير المتوقعة في ظل أنظمة الدولة القومية التي تعرضت الى اهتزازت بنيوية وسياسية واقتصادية، ولم يكن العراق بمنأى عنها أو هو الوحيد في معترك هذه الأزمة بل تشاركه دول العالم الثالث التي فشلت فيها التجربة الحداثية للدولة وافتقدت إمكانات البناء الذاتي للدولة مما جعلت من الاعتماد في بناءها على قدراتها الذاتية امرا غير ممكن بل وعبث يشتت الخطط التي تهدف الى إعادة بناء الدولة.
وفي تلك السياقات فيما يتعلق بالعراق كانت مقترحات بناء الدولة تعتمد فكرة دولة كبرى ضامنة تناط بها هذه المسؤولية وكانت الدولة الكبرى المقترحة هي أميركا وفي هذا السياق ذاته نظر الى أميركا بأنها دولة محررة –مقتبس من مقابلة مع حسن علوي- وهو يدخل في سياق اليأس من بنية العراق الداخلية في قدرتها على انتاج دولة مما يضطر معه العراق الى الاستعانة الدولية بالدولة الضامنة أو المحررة أو اللجوء الى الدولة الاقليمية الحليفة من أجل التوازن في القوى المؤثرة والفاعلة في بناء الدولة.
وبذلك تمت شرعنة التدخل الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية وفي جزء منه مهم صنعته الأمم المتحدة، وكان عبارة عن نسق سياسي حديث شهده العالم بعد الحرب الباردة وعرف اختصارا أو تحريفا باسم المجتمع الدولي، وكان مشروع الحل أو التدخل الذي قدمه المجتمع الدولي في أزمات هذه الدول الثالثية او الدول الفاشلة ومنها العراق هو النموذج الديمقراطي الذي يستند الى استراتيجية بناء الأنظمة السياسية ومن خلالها يتم بناء مؤسسات الدولة التي تنتج لاحقا بناء الدولة، ومن هنا كان التركيز على بناء السلطة في مشروع الشرق الأوسط الكبير أكثر من الاهتمام ببناء الدولة.
لكن الديمقراطية التي تجيء في تجربتها التاريخية دائما في أعقاب نشأة وتكوين الدولة تنقلب الى الضد من التوقعات في حالة سبقها أو تقديمها على بناء الدولة فيما كان يحذر منه أرسطو بانقلاب الحكم الديمقراطي أخيرا، الى الحكم الشعبوي الذي يسميه أرسطو الحكم الشعبي، وهو أحط أنواع الحكم في نظره، ولعل انحطاطه في ما يؤدي اليه من تضخم السلطة على حساب الدولة التي تشهد اضمحلالا لها على مستوى المصالح القومية العليا لصالح مستوى متدن للمصالح الفئوية والحزبية ذات المناحي الضيقة في الحياة السياسية، وقد تم ذلك من خلال النموذج الديمقراطي المحلي الذي قاد الى الفشل السياسي الفاضح الذي أبرز ملامحه السياسية والاجتماعية هو تضخم السلطة في ما تتمثله من سياسات خارج وظيفتها السياسية والقانونية.
فالنموذج الديمقراطي الذي هو أهم آليات بناء السلطة وليس بناء الدولة كان مصيره الفشل في العراق كما هو مصيره في دول المنطقة العربية، بل كان في أخطر انقلاباته على الدولة هو الدفع باتجاه مستويات أعلى وأخطر في العنف.
فقد كان هذا النموذج هو المسؤول عن أزمة العنف التي ضربت الدولة في العراق بمقتل خطير، وكان المتضرر الأكثر فيها هي المجتمعات التي رأت في الديمقراطية خلاصا سياسيا مذهلا لها وكانت ردة الفعل بما شكلته من ضغوط تاريخية عليها لا تقل ضراوة من جانب هذه المجتمعات الحالمة بالديمقراطية مما أفسح مجالا اضافيا لزيادة التورم في السلطة من خلال توظيف السلطة لاتجاهات العنف لصالحها خارج وظائفها السياسية والقانونية وصيغة التورم هذه حين تحولت وظيفتها الى حارسة للمطالب الطائفية والمناطقية.
وحين يتأجج العنف بسبب الديمقراطية في دولة العراق فانه يجعل من الديمقراطية أزمة مضافة الى أزمات العراق البنيوية والسياسية، وما يؤكد انسياقها في مجرى الأزمات هو صعود الجهات والأحزاب التي حملت معها أخطارا اجتماعية وسياسية وعن طريق الانتخابات الديمقراطية الى المناصب العليا في السلطة مما يحيل الى أزمة السلطة البنيوية في دولة العراق وصورة من صور تضخمها التي تكون الشرعية الانتخابية قد بلورتها بشكل فاعل، مما أعاد الشرعية التي توفرها افتراضا الانتخابات الديمقراطية الى واجهة الجدل أو ضرورة إعادتها الى واجهة الجدل من أجل بلورة مفهوم أخر عن الشرعية يتناول المساندة الجماهيرية القانعة والفاعلة ولا يكتفي بما توفره صناديق الاقتراع، لا سيما وأن الديمقراطية تمر بمرحلة مراجعة ضمنية لدى الفكر السياسي الليبرالي الذي يقف خلف بلورة الشرعية في صناديق الاقتراع.
فقد شعر المجتمع الدولي بالخطر الكامن في الديمقراطية في دول العالم الثالث لكنه لم يفصح عنه صراحة وانما لجأ الى استحضار بدائل قد تشكل بديلا مناسبا ومتطورا عن الأطر التقليدية للدولة الحداثية ومنها الاتجاه الى اصلاح البنية الداخلية للدولة منظورا الى مركزية أو بنية الدولة في المؤسسات وهو ما طرحه الكاتب الأميركي فوكوياما ودعا الى (تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وهو ما يعني النقيض لتحجيم الدولة وتقليص قدراتها) وهو ما يجعل الدولة في الفكر السياسي الليبرالي ضرورة يتوقف عليها استيعاب الراهن والطاريء من الاحداث والوقائع، بينما نجد لدى تشارلز تيلي دعوته الى (عملية إقامة منظمات مركزية مستقلة ومتمايزة لها سلطة السيطرة على أقاليمها وتمتلك سلطة الهيمنة على التنظيمات شبه المستقلة) وفي سياق التبني الدولي لمفهوم الدولة كأولوية تعرف مؤسسة التعاون الاقتصادي والتنمية بناء الدولة بانها (عملية ذاتية لتعزيز قدرات ومؤسسات وشرعية الدولة من خلال علاقة الدولة بالمجتمع) -راجع بحث.. بناء الدولة، المفهوم والنظرية وأسئلة الراهن، المعهد المصري للدراسات والسياسات الاستراتيجية، إعداد محمد أمين بن جيلالي–.
هذه العلاقة التي بدت في العراق تكرس أزمة أخرى في افتقاد المساندة الجماهيرية للنظام السياسي في العراق، وهي تشكل أخطر مأزق يمر به النظام السياسي والسلطة التي أنتجها في دولة العراق، ورغم مرور هذا النظام السياسي بصناديق الانتخابات واكتسابه الشرعية الديمقراطية التي ركزت عليها الجهات والمؤسسات الدولية والمشرفة على بناء هذا النظام السياسي في العراق، وكان هذا الدعم الدولي للنظام السياسي باعتباره يستجيب الى التركيبة الدينية والاثنية للعراق هو الذي أدى بالنتيجة الى تعقيد وتضخم السلطة التي أنتجها هذا النظام وسمة هذا التضخم هو خروج السلطة على وظائفها السياسية وسياقاتها القانونية مما نتج عنه ضعف وعدم استقرار الدولة وضعف مؤسساتها وهيكلتها العامة، ولعل أخطر صور هذا التورم في السلطة هو تفرع السلطات المتورمة في سياقاتها الخارجة على القانون في المجتمع.
اضف تعليق