إدارة ترامب تراهن الآن على استثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية؛ من تهميش للقضية الفلسطينية، ومن تفجير لصراعات إقليمية وحروب أهلية عربية، ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، من أجل دفع العرب والفلسطينيين لقبول مشروع صفقة القرن وليعمّ التطبيع العربي والإسلامي مع إسرائيل بدون انسحابها...
شهدت المنطقة العربية في العقود الثلاث الماضية ضغوطاً أميركيّة كثيرة من أجل تحقيق التطبيع العربي مع إسرائيل، كمدخل مطلوب أميركياً لمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وهو المشروع الذي جرى الحديث عنه علناً في مطلع التسعينات من القرن الماضي، بعد مؤتمر مدريد للسلام، وبما كتبه آنذاك شيمون بيريز، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، من دعوة لتكامل (التكنولوجيّة الإسرائيليّة والعمالة المصريّة مع المال الخليجي العربي) في إطار "شرق أوسطي جديد" يُنهي عمليّاً "الهوية العربية" ويؤسّس لوضع إقليمي جديد تكون إسرائيل فيه بموقع القيادة المتحكّمة بثروات المنطقة وبمصائر شعوبها.
إدارة ترامب تراهن الآن على استثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية؛ من تهميش للقضية الفلسطينية، ومن تفجير لصراعات إقليمية وحروب أهلية عربية، ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، من أجل دفع العرب والفلسطينيين لقبول مشروع "صفقة القرن"، وليعمّ التطبيع "العربي والإسلامي" مع إسرائيل بدون انسحابها من كلّ الأراضي العربية المحتلة في العام 1967، وقبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة!.
إدارة ترامب اعترفت بالقدس كعاصمة أبدية لإسرائيل ووافقت على ضمّ الجولان وأوقفت كل أشكال الدعم المالي للشعب الفلسطيني، وتدعم ضمّ إسرائيل غور الأردن وأمكنة المستوطنات، ورغم ذلك كلّه، تستمرّ علاقات معظم الدول العربية معها وكأنّ شيئاً لم يكن من هذه الإدارة! وهاهي عدة حكومات عربية تمارس التطبيع مع إسرائيل سراً وعلانية وهي تتواصل الآن مع حكومة نتنياهو الذي أكّد سعيه لضم غور الأردن وبأنّ "السلام هو مقابل السلام"، لا مقابل الأرض واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني!.
جملةٌ من المحطّات الهامّة تنتظر القضية الفلسطينية هذا العام، ولعلّ أهمّها هو ما الذي سيفعله الرئيس الأميركي ترامب بشأن خطته المعروفة باسم "صفقة القرن"، بعدما ولدت هذه "الصفقة" ميتة بسبب الرفض الفلسطيني لها وعدم التجاوب الدولي عموماً معها، ثمّ ما هو حجم الضغوطات التي سيمارسها ترامب، بتشجيع ودعمٍ من نتنياهو، على بعض الحكومات العربية من أجل التطبيع مع إسرائيل وتهميش الحقوق الفلسطينية واضعاف جدوى الرفض الفلسطيني للصفقة الأميركية-الإسرائيلية.
إنّ حقائق الصراع العربي/الإسرائيلي على مدار أكثر من سبعين عاماً تؤكّد أنّ مشكلة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية لا ترتبط بشخصٍ محدّد أو بحزبٍ ما في إسرائيل. فالجرائم الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني حدثت وتحدث بإشراف من حكوماتٍ مختلفة، بعضها ينتمي لتكتّلات حزبية متطرّفة في الكنيست كتجمّع "ليكود" وعلى رأسه نتنياهو، وبعضها الآخر كان يتبع لأحزاب تتّصف بالاعتدال كحزب "العمل" الذي قاد عدّة حروب على العرب خلال العقود الماضية.
الأمر نفسه ينطبق على الموقف من القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية وعلى الاتّفاقات الموقّعة مع "منظمة التحرير الفلسطينية"، ثمّ مع السلطة الفلسطينية، حيث لم تنفّذ الحكومات الإسرائيلية المختلفة هذه القرارت أو الاتّفاقيات، كما واصلت جميعها سياسة التهويد والاستيطان في القدس والضفّة الغربية والجولان رغم تعارض ذلك مع القوانين الدولية، ولم تقم أي حكومة إسرائيلية حتّى الآن بإعلان الحدود الدولية ل"دولة إسرائيل"، ولا بضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين ممّا يجعل أساس الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل مستمرّاً رغم تغيّر الأشخاص والحكومات فيها.
الواقع الآن أنّنا نعيش "زمناً إسرائيلياً" في كثيرٍ من الساحات العربية والدولية. "زمنٌ إسرائيليٌّ" حتّى داخل بلدانٍ عربية كثيرة تشهد صراعاتٍ تخدم المشاريع الأجنبية والإسرائيلية، زمن تتهمّش فيه "الهويّة العربية" لأمَّةٍ تفصل بين أوطانها حدودٌ مرسومة أجنبياً، وبعض هذه الأوطان مُهدّدٌ الآن بمزيدٍ من التقسيم والشرذمة، زمن لا توجد فيه مرجعية عربية فاعلة وملتزمة بالحد الأدنى من قرارات القمم العربية ومن ضمنها ما يُعرف باسم "المبادرة العربية"!، زمن تعطّلت فيه بوصلة القضية الفلسطينية التي كانت ترشد العرب إلى إدراك من هو عدوهم الحقيقي لقرنٍ من الزمن!.
طبعاً، ليست الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأجنبية بمثابّة "قضاء وقدر"، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية. فالحديث عن "مقاومة إسرائيل" و"مواجهة الهيمنة الأجنبية" ليس هو الأولويّة الآن لدى أطرافٍ كثيرة على امتداد الأرض العربية، بل إنّ بعض هذه الأطراف لم يجد حرجاً في العلاقة مع إسرائيل نفسها والتطبيع معها!.
لقد أقامت عدّة أطراف عربية "علاقات تطبيعية" أو معاهدات مع إسرائيل، رغم ما عليه الوجود الإسرائيلي من طبيعة عدوانية توسّعية، وما مارسه من قتل وتشريد لملايين من الفلسطينيين والعرب. أليس أولى بهذه الأطراف وغيرها من الدول العربية أن تبحث أيضاً عن "أرضية المصالح المشتركة" مع دول الجوار الإسلامي قبل الارتماء في احضان من يعمل على جعل كل أرض فلسطين، وما عليها من مقدسات إسلامية ومسيحية، دولة عنصرية يهودية؟!.
لكن هل كان ممكناً أن يحصل هذا الانحدار في المواقف العربية عموماً من القضية الفلسطينية لو لم تحصل المعاهدات والإتفاقيات مع إسرائيل منذ "كامب ديفيد" وصولاً ألى "أوسلو"!؟ فهذه المعاهدات والإتفاقيات هي التي أعطت الأعذار والمبررات لدول كثيرة في العالم لكي تعترف بإسرائيل وتُطبّع العلاقات معها.
ربّما ما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ لحروب المائة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف المصري/الأردني/الفلسطيني بها، بعد معاهدات "كامب ديفيد" و"أوسلو" و"وادي عربة"، ثمّ "تطبيع" بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها كانت غير كافية لتثبيت "شرعية" الوجود الإسرائيلي في فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية، فهذه "الشرعية" تتطلّب بالمنظور الإسرائيلي تحقيق "قناعة شعبية عربية" بأنّ إسرائيل ليست هي "العدوّ" وبأنّ العدوّ هو الآن إمّا في داخل الأوطان العربية أو في جوارها الإسلامي!.
فالمطلوب إسرائيلياً منذ حقبة الخمسينات هو قيام دويلاتٍ في محيط "إسرائيل" على أسس دينية، كما هي الآن مقولة "إسرائيل دولة لليهود". فما قاله "نتنياهو" بأنّ (المشكلة مع الفلسطينيين هي ليست حول الأرض بل حول الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية) يوضّح الغاية الإسرائيلية المنشودة من المتغيّرات العربية الجارية الآن في مشرق الأمَّة العربية ومغربها. فكلّما ازدادت الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق في أن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى في منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفية. فالمراهنة الإسرائيلية هي على ولادة هذه "الدويلات" التي بوجودها لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلّة، ولا تقسيمٌ للقدس، ولا عودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، بل توطينٌ لهم في "الدويلات" المستحدثة وتوظيف سلاحهم في حروب "داحس والغبراء" الجديدة.!
إنّ بعض الحكومات العربية التي تمارس التطبيع مع إسرائيل عليها أن تأخذ الدروس والعبر من تجارب من أقاموا معاهدات "كمب ديفيد" و"أوسلو" و"وادي عربة"، حيث لم "تستقرّ" الحكومات فيها ولم يتحقّق "الرخاء والازدهار" ولم تتوقّف الضغوطات الأميركية عليها، والأهمّ من ذلك كلّه الفشل في إقناع شعوبها بأنّ إسرائيل لم تعد عدوّاً!.
لكنّ ما تحتاجه القضية الفلسطينية هو أكثر ممّا حدث ويحدث حتى الآن من رفض للتطبيع مع إسرائيل ولمشروع "صفقة القرن" ومن ردود فعلٍ فلسطينية وعربية ودولية حدثت في السابق على قرار ترامب بشأن القدس وافتتاح السفارة الأميركية فيها، وعلى القتل الإجرامي العشوائي الذي تمارسه إسرائيل على الحدود مع غزّة. ففلسطين تحتاج الآن إلى انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة تضع حدّاً لما حصل في ربع القرن الماضي من تحريفٍ لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقزيمٍ لهذه القضية التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين "سلطة فلسطينية" في الضفّة الغربية وبين "الدولة الإسرائيلية" التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
فالمطلوب فعلاً وحالياً هو وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كلّ المنظّمات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، ففي ذلك يمكن أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كلّ المناطق الفلسطينية.
إنّ مشعل الحرية والمقاومة جرى حمله في البلاد العربية على مدار مائة عام ضدّ الاستعمار والانتداب وضد المشروع الصهيوني المدعوم غربياً، وهذا المشعل لا يجب أن يخمد أبداً، فالحفاظ على نهج المقاومة هو تأكيد لمقولة (الأرض مقابل المقاومة) بعدما ثبت فشل المقولات الأخرى، وفي هذا الأمر أيضاً إعادة الحيوية لنهج تحتاجه المنطقة العربية الآن، وهو نهج رفض الذلّ والهوان مع العدوّ الإسرائيلي، نهج يقدر على استعادة الأرض والكرامة. نهج يضع خطّاً فاصلاً بين اليأس من واقع الحكومات وأسلوب المفاوضات، وبين اليأس من الأمة وشعوبها وحقها في استعادة حريتها وأرضها المغتصبة. لكن الخروج من هذا الحال العربي الرديء يتطلّب أولاً فكّ أسر الإرادة العربية من الهيمنة الأجنبية كيفما كان لونها ومصدرها.
اضف تعليق