صراع الآن على الخطوط الحمراء الروسية والأميركية في القارّة الأوروبية، وهو أيضًا شبيهٌ إلى حدٍّ كبير ممّا حدث في فترة "الحرب الباردة" بين المعسكرين الشرقي والغربي عقب الحرب العالمية الثانية وانتهى بتوقيع اتّفاقية يالطا التي وضعت خطوطًا حمراء لكلّ طرف إلى حين سقوط الاتّحاد السوفييتي...
الرؤية الموضوعية للأزمة الأوكرانية تتطلّب المزج بين حاضرها وماضيها معًا. ففي حاضرها تقع مسؤولية الحرب على روسيا التي بدأتها من خلال غزو الأراضي الأوكرانية، أمّا في ماضي هذه الأزمة فيتحمّل "حلف الناتو" مسؤولية زرع بذورها من خلال التمدّد الذي قام به "الناتو" في الدول المجاورة لروسيا بعد سقوط الاتّحاد السوفييتي قبل ثلاثة عقود، وكان أخطرها بالنسبة للأمن الروسي محاولة إلحاق أوكرانيا بهذا الحلف العسكري الذي فقد مبرّرات وجوده أصلًا مع انتهاء "حلف وارسو" وتحرّر دول أوروبا الشرقية من الهيمنة الروسية وانضمام بعض هذه الدول للاتّحاد الأوروبي.
صحيح أنّ الأزمة الأوكرانية الحالية هي امتدادٌ لما حصل في العام 2014 من انقلاب سياسي وعسكري في كييف، وما تبعه من تدخّل عسكري روسي وسيطرة على شرق أوكرانيا وعلى شبه جزيرة القرم، لكنّ ما نشهده في الأسابيع الماضية من تصعيدٍ كبير هو صراع الآن على الخطوط الحمراء الروسية والأميركية في القارّة الأوروبية، وهو أيضًا شبيهٌ إلى حدٍّ كبير ممّا حدث في فترة "الحرب الباردة" بين المعسكرين الشرقي والغربي عقب الحرب العالمية الثانية وانتهى بتوقيع اتّفاقية يالطا التي وضعت خطوطًا حمراء لكلّ طرف إلى حين سقوط الاتّحاد السوفييتي.
لقد كان العالم في مطلع حقبة الستّينات من القرن الماضي على شفير حرب عالمية بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي بسبب وضع موسكو لصواريخ في جزيرة كوبا المجاورة للحدود الأميركية، ثمّ انتهت هذه الأزمة الدولية الخطيرة بسحب هذه الصواريخ الروسية مقابل سحب صواريخ أميركية من تركيا المجاورة للحدود الروسية. فلماذا كان من حقّ واشنطن الاعتراض على صواريخ روسية على حدودها ولا يكون لموسكو الحقّ الآن بالاعتراض على نشر الصواريخ و"الناتو" على حدودها!.
فهذا المزيج من حاضر الأزمة الأوكرانية وماضي العلاقات الروسية/الأميركية هو الذي سيحدّد مصير ومستقبل أوروبا والعالم ككل. لكن ما الذي تريده واشنطن الآن من التصعيد الخطير في علاقتها السيئة مع موسكو، ومن سيكون المنتصر والمنهزم في الصراع الدائر الآن، وما هي معايير النصر والهزيمة لطرفيْ الصراع: روسيا والغرب؟!
حسب تقديري، فإنّ واشنطن كانت تدرك أنّ القيادة الروسية ستقدم على غزو أوكرانيا بعد رفض الإدارة الأميركية للمسودّة الروسية التي قدّمها الرئيس بوتين في شهر ديسمبر الماضي، والتي جرى التفاوض بشأنها في جنيف، وحيث تزامن هذا الرفض الأميركي مع تأكيد الرئيس بايدن عدم نيّة "الناتو" بمواجهة القوّات الروسية حينما تغزو أوكرانيا!.
في المقابل، نجد القيادة الروسية تؤكّد مرارًا الآن على استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا إلى حين تحقيق جملة مطالب هي: إعلان حياد أوكرانيا وضمان عدم دخولها لحلف "الناتو"، وتعديل دستورها لتكريس الحياد وللاعتراف بجمهوريتيْ دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين كدولتين مستقلّتين، والاعتراف بأنّ شبه جزيرة القرم أرضٌ روسية. وهذه المطالب لا يمكن تحقيقها عمليًّا من دون تغيير نظام الحكم الحالي في "كييف" والسيطرة العسكرية الروسية الشاملة على أوكرانيا. إذن، معيار "النصر الروسي" في الحرب الأوكرانية هو تحقيق هذه المطالب والتي سيتمّ فرضها طبعًا طالما أنّ روسيا لن تفتح أي جبهة عسكرية أخرى في أوروبا، وطالما أنّ "الناتو" لن يتدخّل!.
على الطرف الأميركي، سيكون معيار "النصر" هو عزل روسيا دوليًّا وعن أوروبا تحديدًا، وإضعاف كبير للاقتصاد الروسي، وتشجيع المقاطعة لروسيا حتّى في المجالات الفنّية والرياضية كما بدأ يحدث مؤخّرًا، إضافةً إلى الدعم المالي والعسكري الكبير لمن سيقاومون القوّات الروسية في أوكرانيا حتّى لو جرى احتلالها روسيًّا بشكلٍ كامل، وحيث الباب قد شُرّع أمام "المتطوّعين الأجانب" للقتال ضدّ الجيش الروسي وما قد ينضمّ إليهم من عناصر مرتزقة وعاملين في أجهزة مخابرات غربية!.
ويبدو أنّ المراهنة الأميركية هي على إطالة الأزمة الأوكرانية وعلى استنزاف القوّات الروسية فيها وعلى بقاء الأسباب الداعية لعزلة روسيا ومقاطعتها. فإدارة بايدن استفادت وتستفيد من تداعيات الأزمة الأوكرانية في المجالين الخارجي والداخلي حيث أعادت واشنطن الآن اللحمة بين ضفّتيْ الأطلسي بعد التصدّع الذي حصل في ظلّ إدارة ترامب، كما أعادت الاعتبار لدور "حلف الناتو" في أوروبا. أيضًا، في المجال الخارجي، تريد واشنطن الآن توجيه رسائل عديدة للعملاق الصيني في قضية "تايوان" والدول الحليفة للولايات المتّحدة في شرق آسيا.
أمّا على المستوى الداخلي، فالرئيس بايدن يريد في المواجهة السياسية والاقتصادية مع موسكو أن يُحسّن من مستوى شعبيته المنخفضة لدى الأميركيين ومن فرص فوز حزبه الديمقراطي في الانتخابات النصفية القادمة.
طبعًا، يتوقّف ذلك كلّه على مدى صمود أطراف الصراع وعموم العالم أمام العواقب الاقتصادية الخطيرة لما يحدث الآن من صراع غربي/روسي ستدفع شعوبٌ كثيرة ثمنًا باهظًا له!
اضف تعليق