وبدون إرساء قواعد وتقاليد السلوك الديمقراطي في واقعنا وفي مختلف الدوائر، لن نتمكن من استيعاب الفرص المتوفرة، ومواجهة التحديات الضخمة التي تواجهنا. هذا السلوك الديمقراطي الذي يجعل الدولة دولة لكل مواطنيها، ويجعل المجتمع متحدا مع تنوعه ومتوافقا مع اختلافه ومتصالحا مع نفسه، دون أن يعني...
عديدة هي المهام والوظائف، التي ينبغي أن يقوم بها المجال الإسلامي على ضوء التطورات والتحولات الأخيرة. ويبدو أنه بمقدار التزام هذا المجال بهذه المهام والوظائف، تنتظم حالة الاستجابة وتتبلور طرق الإفادة التي تجري في العالم بوتائر سريعة ومتلاحقة.
إلا أن القاعدة الكبرى، التي ينبغي أن تتوفر في المجال الإسلامي على ضوء تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي تأسيس فعلي وتعميق متواصل للسلوك الديمقراطي في مختلف مجالات الحياة العربية والإسلامية.
إذ أن هذه التحولات بتأثيراتها العميقة على واقعنا ومسارنا الخاص والعام، لا بد أن تساهم في خلق ذهنية جديدة قوامها الديمقراطية والانفتاح والتواصل مع الآخر واحترام الآراء والتعبيرات المتعددة، وفسح المجال للحوار المتعدد والمفتوح على كل القضايا والأمور للوصول إلى نهاياته المنطقية. وبدون إرساء قواعد وتقاليد السلوك الديمقراطي في واقعنا وفي مختلف الدوائر، لن نتمكن من استيعاب الفرص المتوفرة، ومواجهة التحديات الضخمة التي تواجهنا. هذا السلوك الديمقراطي الذي يجعل الدولة دولة لكل مواطنيها، ويجعل المجتمع متحدا مع تنوعه ومتوافقا مع اختلافه ومتصالحا مع نفسه، دون أن يعني هذا الجمود والترهل.
بحيث يشترك الجميع في الحياة العامة، فلا يظل ّ طرف خارج عملية البناء الوطني، ولا يشعر أحد بالغبن والحيف. بل يقتنع الجميع وعلى نحو فعلي وواقعي، بأن الوطن لهم جميعا على حد سواء، وأن التفاوت والتمييز والحقائق المضادة لمفهوم الوحدة، والتي أثارت العقد والضغائن والتوترات بين مكونات الوطن الواحد، قد انتهى وبدون رجعة. فالعدل والوفاق، هو الذي يحافظ على الوحدة بكل مستوياتها، وهو الذي يصون الاستقرار ويعمق من جذوره وقواعده في المجتمع.
والاستقرار السياسي في أوطاننا العربية والإسلامية في ظل الظروف والتحولات المعاصرة، لا يمكن أن ينشأ أو يستمر إلا في ظل شرعية وطنية جديدة، تولد من جراء الانخراط في الإصلاحات السياسية وتوسيع المشاركة السياسية وتثبيت حقائق ومؤسسات ديمقراطية في العلاقة بين السلطة والمجتمع والإدارة العامة للوطن. وهذا المشروع بحاجة إلى نواة صلبة، تأخذ على عاتقها ترجمة هذه التطلعات والعمل على تجسيدها في الحياة السياسية والوطنية. وفي تقديرنا أن هذه النواة، هي المواطن الممتلئ وعيا وحركة وحرية. وهذا لا يتم إلا بإعادة الاعتبار السياسي والحقوقي للمواطن في بلادنا ومناطقنا المتعددة، بحيث يمارس دوره وينال حقوقه الوطنية، ويقوم بواجباته ووظائفه. فلا مواطنة بدون حقوق سياسية ودستورية، فهي بوابة إنجاز مفهوم المواطنة. وهذه الدراسة هي محاولة لبلورة مفهوم المواطنة وإعادة الاعتبار السياسي والحقوقي للمواطن، حتى تتوفر كل الظروف والمعطيات المفضية لمشاركة جميع المواطنين في عملية البناء والتطوير.
قضايا في الإصلاح السياسي:
إن الوصول إلى مبدأ المواطنة، وتجسيد مقتضياتها ومتطلباتها في الحياة الاجتماعية والسياسية، يتطلب على المستوى العملي، الكثير من العمل والكفاح للإنعتاق من كل الدوائر والممارسات التي تحول دون الوصول إلى هذا المبدأ الجامع، الذي يؤكد على الحرية والمساواة بصرف النظر عن المنابت والأصول. ويبدو من العديد من المعطيات والتداعيات، أن تراخي الإرادة السياسية في البلدان العربية والإسلامية تجاه هذه القيم، هو المسئول إلى حد بعيد عن تدهور الأوضاع وتقهقرها في مختلف المجالات والميادين. وذلك لأنه إذا لم يشعر الإنسان بإنسانيته، وتحمى حقوقه من الضياع والتلاعب، لا تتوفر لدى هذا الإنسان العلاقة المطلوبة مع واقعه السياسي والاجتماعي.
وحينذاك تبدأ الفجوة بالاتساع بين النخب السياسية السائدة وعموم المجتمع بمكوناته المتعددة، وتتبلور مستويات التناقض وحالات عدم الثقة. فتتباين من جراء ذلك الأجندة والمصالح والعلاقات والأولويات. فتعاظمت من جراء ذلك المحن والأزمات، وتصاعدت التوترات والاحتقانات وبرزت في المشهد السياسي والاجتماعي، العديد من العناوين واليافطات، التي تسهم في المزيد من التشظي والتفتيت وخلق الحواجز بين أبناء المجتمع والوطن الواحد. وتحوّل المجالين العربي والإسلامي من جراء هذه الوقائع وتأثيراتها المتعددة، إلى ساحة للصراعات المفتوحة على كل الآفاق والوسائل، واشتد أوار الخصام السياسي والتناقض الأيدلوجي.
وبتنا جميعا حكاما ومحكومين نعيش الأزمة بكل ضغوطاتها وإحباطاتها وتأثيراتها. ولا خيار أمام الجميع إلا الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي والثقافي والاجتماعي، الذي يعيد للعرب والمسلمين دورهم الحضاري، ويخرجهم من ظلمات التخلف والتعصب والاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. وينقلهم من واقع الاحتراب الداخلي بعناوينه المختلفة إلى رحاب الوحدة والمواطنة الكاملة. وحجر الأساس في هذا المشروع الإصلاحي، هو إعادة الاعتبار للفرد والتعامل معه على أساس المواطنية بصرف النظر عن انتماءاته التاريخية والراهنة، وأن تتعامل معه مؤسسة الدولة على أساس انتماءه الوطني.
وفي هذا الإطار من الأهمية التأكيد على النقاط التالية:
1. إن العدالة في مجالات الحياة المختلفة، هي سبيل إنجاز مفهوم المواطنية في الواقع الاجتماعي. وذلك لأن المواطنة لا تعني التجاور المادي والجغرافي، وإنما هي بناء نفسي وروحي وثقافي، يتجاوز كل عوامل التباغض والتناحر والشكوك المتبادلة. وهذا الطموح والتطلع، لا يمكن أن يتحقق إلا بالعدالة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. حيث لا مواطنة بدون عدالة ومساواة وتكافؤ للفرص.
والأمم والمجتمعات التي استطاعت أن تكرس مفهوم المواطنة في تجربتها السياسية والحضارية، هي تلك المجتمعات التي قطعت شوطا طويلا في بناء الديمقراطية والمشاركة العامة والعدالة المجتمعية. إذ بدون هذه القيم، لا يمكن أن يتطور حس المواطنة، وتتبلور قيم الانتماء الوطني الصحيح. وعليه فإن العنصرية والطائفية والديكتاتورية وتكميم الأفواه وانعدام الحريات العامة، كلها حقائق وعوامل مضادة ومناقضة لمبدأ المواطنة. ولا يمكن أن يتطور هذا المفهوم في مجتمع يعاني من الأمراض والآفات المذكورة أعلاه. وذلك لأنها كلها تناقض مفهوم العدالة، وتشرع للتمييز وممارسة الظلم بكل صنوفه وأشكاله. وهذا بطبيعة الحال، يقتضي التزام برنامج وطني شامل، لإصلاح وتطوير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تتأمن كل ضرورات المواطن، ويشعر بالأمن والثقة بوطنه راهنا ومستقبلا.
والعدالة في أحد وجوهها، تعني التحرر من الفقر والجهل والمرض، وتحقيق مستوى معيشي، اقتصاديا واجتماعيا مطرد التقدم ولا يميّز بين المواطنين. والعمل على صياغة ثقافة وطنية جديدة، تصقل روحية المواطن، وترسم اتجاهاته المقبلة، وتعلي من شأن التعايش السلمي والمصير المشترك والمسؤولية العامة، وتهدم جدران العنصرية والطائفية والاستبداد.
وغياب العدالة في الواقع الوطني، هو الذي يهدم مستلزمات الوحدة الوطنية ويدق إسفينا في مشروع العيش المشترك والوفاق الوطني. فالحقوق والواجبات لا تتم على قاعدة فئوية أو قومية أو طائفية، وإنما على أساس المواطنة. فهي المعيار والضابطة الوحيدة لترتيب نظام الحقوق والواجبات.
والاختلافات السياسية والعقدية والقومية والمذهبية في الدائرة الوطنية، ينبغي أن لا تشرع وتسوغ للعداء والافتراق والانكفاء بل للتحاور والتبادل المعرفي وإثراء الثقافة الوطنية بالمضامين الحية والقادرة على إجتراح تعايش حيوي وفعال بين مجموع مكونات الحالة الوطنية.
2. إن المجتمعات الإنسانية ولاعتبارات عديدة، هي بحاجة بشكل دائم إلى تشريع قانون ودستور، ينظم حياتهم في شؤونها المختلفة، ويحدد المسؤوليات، ويجعل كل مؤسسات الدولة خاضعة لهذه القوانين الدستورية. ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن تضخم مستوى الاستبداد السياسي والاستفراد بالرأي في العديد من الدول العربية والإسلامية، يرجع في أحد وجوهه إلى غياب المؤسسات الدستورية، التي تأخذ على عاتقها ضبط نزعات الاستفراد والغطرسة وأشكال الحكم المطلق. وإن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يكون بمجرد التصريحات المناسبة أو الخطوات التكتيكية المقبولة شعبيا. وإنما هو بحاجة إلى دستور يترجم إرادة الإصلاح ويجعل مؤسسة الدولة في إرادتها منسجمة والإرادة العامة للأمة. فالإصلاح السياسي بحاجة دائما إلى قاعدة قانونية، وهذه القاعدة هي الدستور الوطني الذي ينظم العلاقات ويحدد المسؤوليات. وإن القانون هو المرجعية الوحيدة لمعالجة كل المشاكل والأزمات. وإن كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، ينبغي أن تكون خاضعة لمقتضيات القانون ومواد الدستور الوطني.
وبالتالي فإن مشروع الإصلاح السياسي، يقتضي توفر مرجعية دستورية، وشفافية في الأداء والسياسات، وخضوع كل قوى المجتمع ومراكز القوى في مؤسسة الدولة إلى القانون والدستور. ولا يمكن أن نتصور إصلاحا سياسيا حقيقيا بدون الدستور ونظام قانوني يكفل الحريات ويصون الحقوق، ويحافظ على المكتسبات، وينظم عملية التنافس والصرع. فالدستور حصانة ضد تكرار أخطاء ومآسي الماضي، كما هو مطلب وطني عميق، ينسجم ومقتضيات العصر الحديث، وأصالة المجتمع.
3. لا ريب أن الوحدة الوطنية في ظل الظروف والتحديات الكبرى التي تواجه واقعنا السياسي من الضرورات التاريخية التي ينبغي أن نوليها الأهمية القصوى. ولكن من الخطأ التعامل مع هذا المفهوم بعيدا عن ضرورة الإصلاح وإعادة صياغة هذه الوحدة بما ينسجم وقيم العدالة والحرية والتسامح. فالوحدة التي تبنى بوسائل قسرية لا تدوم، كما أن الوحدة الوطنية التي لا تحترم حقوق الإنسان وخصوصيات التنوع الثقافي في المتوفر في المجتمع، لا تستند على قاعدة صلبة ومتينة.
لذلك من الضروري التأكيد على ضرورة تجديد أسس الوحدة الوطنية، والعمل على صياغة الذات الوطنية وفق أسس أكثر عدالة وإنسانية. فالتحديات التي تواجهنا، ينبغي أن لا تصرفنا عن هذه الضرورة، وذلك لأن البناء السليم، هو القادر على مجابهة التحديات والاستجابة الفعالة لمقتضيات الراهن. فالوحدة الوطنية ضرورة قصوى، كما أن الإصلاح السياسي وتجديد أسس الوحدة الوطنية ضرورة قصوى أيضا، وتحولات الراهن تدفعنا إلى الإيمان العميق بضرورة التجديد والإصلاح وصياغة الذات الوطنية على قاعدة الوحدة والتعايش السلمي بين مكونات الوطن والمجتمع.
اضف تعليق