ما زلنا في اول الطريق بالنسبة لحكومة الكاظمي، فاما ان تسير في طريق الاجراءات الترقيعية الفوقية الجزئية، او ان تختار بعلم وشجاعة طريق الاصلاحات الكلية الحضارية. الخيار الثاني يعني ان تتبنى الحكومة اطروحة الدولة الحضارية الحديثة، وتضع وصفة للعلاج على ثلاثة ابعاد: قصير ومتوسط وبعيد...
لست مختصا بعلم الاقتصاد، لكني سوف استعير مصطلحي الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي للحديث عن الاصلاح الكلي والاصلاح الجزئي، يعرف البنك الدولي الاقتصاد الكلي بانه "منظومة تربط بين عدد لا حصر له من السياسات والموارد والتقنيات التي تحدث من خلالها التنمية الاقتصادية. ومن دون الإدارة الصحيحة للاقتصاد الكلي، يتعذَّر الحد من الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية".
اما الاقتصاد الجزئي فهو "فرع تابع لعلم الاقتصاد، ويهتم بدراسة السلوكيّات الاقتصاديّة لكل وحدة من وحدات الاقتصاد، مثل: الأفراد، أو الشركات، أو القطاعات الصناعيّة، ويهتم بالعوامل المؤثرة في خيارات الأفراد، وتأثير التغيّرات الاقتصاديّة في صناعة القرار في الأسواق، هذا كما يدرس مكونات اقتصاديّة معينة؛ كالعلاقة بين السعر والتكلفة على الشركة المُنتجة".
منذ عام 2003 شهد بلدنا ثلاث دعوات اصلاحية، يمكن تصنيفها كالآتي: اولا، الدعوات الاصلاحية الكلية، التي سوف اطلق عليها اسم الدعوات الاصلاحية الحضارية، وقد انطلقت هذه الدعوات فور تشكيل مجلس الحكم الذي أعده اصحاب الدعوة الاصلاحية الحضارية انحرافا عن الرؤية العلمية لبناء الدولة الحضارية الحديثة، بعد سقوط الدولة التسلطية المتخلفة، وركزت هذه الدعوة على ضرورة معالجة "عيوب التأسيس" والقضاء على "التخلف العام" الذي يعاني منه المجتمع العراقي كمقدمات ضرورية وشرطية لبناء الدولة الحضارية الحديثة.
ثانيا، الدعوات الاصلاحية الجزئية التي طرحتها حكومة المالكي الثانية بعد تظاهرات عام 2011، وواصلت طرحها حكومة العبادي، ثم عادل عبد المهدي،
ثالثا، الدعوات الاصلاحية الشعبية المطلبية والخدمية، التي ترفعها على شكل شعارات التظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها البلاد بين فترة واخرى، واخرها تظاهرات تشرين الاول الماضي. دلت التجربة العملية ان النوعين الثاني والثالث من الدعوات الاصلاحية لا يحققان المطلوب وهو الاصلاح الشامل لاوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لانها تتعامل مع القشور، والنتائج الظاهرية، وتقترح حلولا ترقيعية، تسكّن "النشلة" بينما المريض مصاب بالسرطان! والسبب ان هذه الدعوات لا تنطلق من صورة شاملة للمشكلة، وبالتالي لا تستطيع وصف علاج شامل لها. ولهذا فشلت الورقة الاصلاحية التي اقترحها المالكي في حكومته الثانية، وارتدت اصلاحات العبادي عليه سلبيا، وكانت حكومة عادل عبد المهدي اعجز من ان تواجه المشكلة ببعديها الكلي والجزئي. اما حكومة مصطفى الكاظمي، فيبدو حتى الان تسير على النهج نفسه، رغم انني رجوته في رسالة خاصة الا يكرر اخطاء من سبقه، ويبدو انها تعاني من امرين، الاول انها تفكر في اطار الدعوة الجزئية للاصلاح، والثاني انها تتصرف بموجب الدعوة المطلبية له، وكلا الامرين لا يوصلان للمطلوب. بمعنى: ان التاريخ يعيد نفسه، والحكومات تكرر اخطاءها.
ليس من الصعب ان تدرك الطبقة السياسية الحاكمة ان المشكلة في العراق تأسيسية: بنيوية ووظيفية، وان جوهرها اقتصادي باطارات ثقافية وتربوية واجتماعية، وان المعالجات، حتى الجزئية منها، يجب ان تتم في اطار وضمن الوصفة الكلية للعلاج والحل. ومن امثلة ذلك مشكلة البطالة، التي هي أحد افرازات الخلل الحاد في المركب الحضاري. فقد تعودت الحكومات ان تفتح باب التعيين في الدوائر الحكومية كلما انفجر الشارع ضدها. وغني عن البيان ان هذه معالجة زبائنية تؤدي الى استمرار التضخم في الجهاز الوظيفي للدولة، وتزيد من اعباء موازنتها، من دون ان تحقق ايرادا انتاجيا لها. هذه معالجة جزئية. اما المعالجة الكلية فتتمثل بخلق فرص عمل انتاجية للشباب، في الزراعة والصناعات المختلفة، وهذا ما يمكن ان يتم عبر فكرة المشاريع الذكية التي طرحناها اكثر من مرة.
ما زلنا في اول الطريق بالنسبة لحكومة الكاظمي، فاما ان تسير في طريق الاجراءات الترقيعية الفوقية الجزئية، او ان تختار بعلم وشجاعة طريق الاصلاحات الكلية الحضارية. الخيار الثاني يعني ان تتبنى الحكومة اطروحة الدولة الحضارية الحديثة، وتضع وصفة للعلاج على ثلاثة ابعاد: قصير ومتوسط وبعيد، وتتصرف على هذا الاساس. كل ماعدا ذلك ليس الا وصفة اخرى للفشل، واطالة اضافية لمعاناة العراقيين الممتدة منذ خمسين عاما او يزيد.
اضف تعليق