الوعي الاجتماعي هو عبارة عن جملة المفاهيم والأفكار والثقافات التي توجه حركة أفراد هذه المسألة ومتوالياتها المتعددة. لــهذا يختلف الوعي الاجتماعي من مجتمع إلى آخر، باختلاف المفاهيم المهيمنة على المسار الاجتماعي، وطبيعة الفهم الإنساني إلى تلك المفاهيم والحوافز القصوى التي تخلقها المفاهيم في حياة الناس...
يعتقد الكثير من الناس أن الوعي الاجتماعي، هو مجرد نصوص لفظية أو شعارات يلوكها لسان الإنسان، وامتلاك القدرة على توصيف الواقع الاجتماعي بجملة من الكلمات والألفاظ البراقة، يعتبر واعياً اجتماعيا ويضرب به المثال في هذا المجال، ولقد أضاع هذه الفهم ومتوالياته النفسية والاجتماعية والثقافية، الكثير من الفرص السانحة، التي كان بإمكان المجتمع العربي، لو كان يسوده وعي اجتماعي حقيقي، أن يغتنمها ويترجمها، إلى حــقائق اجتماعية وثقافيـــة تطور من واقعه، وتنهي الكثير من مشاكلــه و أزماته.
ومن جراء هذا الفهم المغلــوط للــــوعي الاجتماعي، تحولت فرص النمو والانطلاق، في المجتمع العربي، إلى مهاوي تزيد من تعقيد المشكلة وتضيف لها أبعاداً أخرى.
وتظهر أعراض هذا الفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي، في الكثير من الأعراض والمؤشرات والمسارات التي تسير على هداها المجتمع العربي. فهي أساليب التربية والتنشئة الاجتماعية، تسود قيم التلقين والتلقي والفردية القائمة على نفي حاجة الإنسان إلى التعاون والتآلف مع الآخرين، لذلك ينشأ الواحد منا وهو لا يفكر إلا في ذاته وفي حدودها الضيقة والآنية أيضاً.
وفي التنشئة الثقافية، تسود قيم الفرادة الموهومة ووهم امتلاك ناصية الحقيقة المطلقة وضرورة الاكتفاء بما عندنا من علم وثقافة، وكأن العلم والثقافة وصلا إلى حدودهما القصوى، وهي مخزنة في صندوق، وما علينا إذا أردنا العلم والثقافة إلا فتح الصندوق، ودورنا ينحصر في استهلاك ذلك العلم المكتشف من ذلك الصندوق.
لذلك ومن جراء هذا التركيب المجتمعي القائم، على فهم مغلوط أو ناقص لمفهوم الوعي الاجتماعي، نخسر فرص النمو والتطور وتنقلب علينا بشكل سلبي وتتراكم في محيطنا عناوين ويافطات تبرر لنا هذا الواقع المعاش، وبدون الاستطراد في بيان الأعراض والآثار السيئة للفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي، نحاول أن نوضح مقصودنا من هذه المقولة.
الوعي الاجتماعي هو عبارة عن جملة المفاهيم والأفكار والثقافات التي توجه حركة أفراد هذه المسألة ومتوالياتها المتعددة. لــهذا يختلف الوعي الاجتماعي من مجتمع إلى آخر، باختلاف المفاهيم المهيمنة على المسار الاجتماعي، وطبيعة الفهم الإنساني إلى تلك المفاهيم والحوافز القصوى التي تخلقها المفاهيم في حياة الناس، لذلك فإن الوعي الاجتماعي، هو وليد فهم الناس إلى تاريخهم وحاضرهم وقيمهم العليا، ونتاج التفاعل البشري مع الأطر النظرية المتاحة أو المتداولة.
وبهذا نستطيع أن نحدد مفهوم الوعي الاجتماعي بالعناصر التالية:
1) مجموع المفاهيم والقيم المتداولة في حياة الناس ونظام التفاضل الموجود بينها.
2) تفسير الناس وفق ظروفهم ومستوياتهم المختلفة، إلى تلك المفاهيم والقيم.
3) تجربة الناس اليومية في الالتزام بهذه المفاهيم، ونظام علائقهــم الســـائد في أوساطهم، وبينهم وبين الآخرين.
ووفق هذا المنظور، فإن الوعي الاجتماعي ليس مفهوما ناجزاً ومكتملاً، وإنما هو دائم التحول والتطور من جراء تحولات المجتمع المختلفة، لذلك فإن بقاء الوعي الاجتماعي ثابتاً والواقع الاجتماعي متحركاً ومتغيراً هو الذي يؤسس لفهم مغلوط ومشوه لمعنى الوعي الاجتماعي، من هنا فإن شرط الوعي الاجتماعي الفعال هو وجود فكر نقدي، يدعم هذا الوعي، ويرفده بالآفاق الجديدة، ويؤسس لحالات تحول اجتماعي متواصل بهدف الرقي والتقدم الاجتماعي، لهذا ينبغي أن لا نتشاءم أو ننظر بريبة وشك إلى كل الأفكار النقدية للعوائد والمسارات الاجتماعية وإنما من الأهمية بمكان أن نستوعب هذه الأفكار النقدية ونوفر لها الأطر الاجتماعية الطبيعية، لكي تأخذ هذه الأفكار مسارها الطبيعي في التفاعل مع الواقع الاجتماعي وبهذا التفاعل تنضج الأفكار وتتبلور المسارات وتعم الحيوية الجسم الاجتماعي كله.
وتجارب المجتمعات ذات الوعي المتميز، تؤكد لنا أهمية حركة النقد وضرورتها القصوى في خلق الوعي الاجتماعي الجديد فلولا الأفكار النقدية، التي بثها فلاسفة التنوير في أوروبا وما أحدثته من وعي اجتماعي جديد لبقي الظلام والجمود سائدا في أوروبا فشيوع مفاهيم النقد البناء في المحيط الاجتماعي يبدد الجمود وينهي الرتابة ويبث الحيوية والحياة في أرجاء المجتمع ويزيد من مستوى المسؤولية العامة ويساهم في بلورة وإنضاج قوى اجتماعية جديدة، تأخذ على عاتقها دور التجديد والتطوير في المحيط الاجتماعي.
وإن شيوع حالات الاضطراب والفوضى في بعض المجتمعات، ليس من جراء حركة النقد السائد وإنما هو في حقيقة الأمر من جراء غياب أطر الاستيعاب لأفكار النقد الجديدة أو من ردود الفعل السلبية وذات الطابع الارتجالي تجاه الأفكار الجديدة. أما المجتمع الذي يوجد لنفسه القنوات الطبيعية لاستيعاب أفكار أبنائه الجدية، فإنه سيتمكن من إضافة قوة جديدة إلى قوته وسيدخل دماء جديدة تنهي السكون وتحول دون تبلد وتكلس الحياة الاجتماعية.
لهذا فإننا نؤكد على ضرورة، توفر الأطر المناسبة لاستيعاب وامتصاص الأفكار الجديدة، والرؤى النقدية الهادفة إلى التطوير وإعادة صياغة وتشكيل الوعي الاجتماعي بما ينسجم ومتطلبات العصر وضرورات التقدم الاجتماعي.
ولا بد أن لا نستعجل في إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف، تجاه من اجتهد في سبيل تطوير وتجديد الوعي الاجتماعي. وأن التحليل العلمي النقدي للسائد اجتماعيا وثقافياً هو الذي يوفر الأرضية العقلية والنفسية لتجاوز البائد من ذلك السائد، وإنهاء ما فيه من أنماط بالية ولقد حاول الدكتور (هشام شرابي) في كتابه "البنية البطركية.. بحث في المجتمع العربي المعاصر" أن يوضح الصلة الضرورية بين الوعي الاجتماعي والفكر النقدي.
لهذا من الضروري أن نتعامل مع التحليلات النقدية لمسار المجتمعات العربية برؤية منفتحة -مستوعبة بعيدة كل البعد عن لغة النفي والتخوين- وإن النقد الهــادف في أحــد وجوهـــــــه الرئيسة، يشكل شرطاً ضرورياً لتحقيق التطور الاجتماعي المأمول.
فلا وعي اجتماعي متجدد، إلا بفكر نقدي، ولا فكر نقدي بنــــاء، إلا بــوجود أطر مجتمعية، تستوعب تلك الأفكار وتموجاتها. وهكذا يصبح الفكر النقدي شرطا من شروط الوعي الاجتماعي الجديد، بمعنى أن وعي المجتمع بذاته وبالآخرين وبدوره التاريخي، لا ينجز إلا على قاعدة نقدية مستديمة، تسائل السائد، وتجعله على طاولة التشريح والتقويم. وضرورة الحفاظ على الوئام الاجتماعي، لا تعني بأي شكل من الأشكال قسر الجميع وإرغامهم على نمط اجتماعي محدد. وإنما تعني حيوية التنوعات وفاعليتها في أثراء مفهوم الوئام الاجتماعي، بأفكار ورؤى وآفاق جديدة.
وبالتالي فإن الإصرار على إيجاد مسافة تفصل الوعي الاجتماعي السائد، عن الفكـــــر الـــنقدي، يؤدي فيـــــما يؤدي إليه، إلى شيوع حالة العجز التي تنتاب المجتمع تجاه مشاكله وتحدياته المصيرية.
وعليه فإنه لا مبرر للخوف من النقد وفحص المسلمات الاجتماعية، لأن هذا النقد والفحص، هو الذي يطرد العناصر السلبية والميتة من الفضاء الاجتماعي. والخوف الحقيقي ينبغي أن يكون، حينما تغيب عمليات النقد، وحينما تتضاءل فرص الفحص على وقائع المسيرة الاجتماعية. فالنقد ضرورة قصوى لسلامة المجتمع، لأنه يتجه صوب نقاط الضعف ويعمل على تعريتها وفضحها، ويشحذ الهمم لتوفير الإرادة المجتمعية القادرة على سد تلك النقاط. فلا قوة حقيقية لأي مجتمع تغيب فيه عمليات النقد والتقويم. فالقوة مرهونة بقدرة أبناء المجتمع على مساءلة سائدهم، وفحص قناعاتهم العامة، وذلك ليس من أجل إشاعة الفوضى والهدم، وإنما من أجل طرد كل الأمراض التي قد تبرز في الفضاء الاجتماعي.
لهذا كله فإننا ندعو إلى عدم الخوف من النقد الاجتماعي، بل من الضروري أن نوفر الأطر البحثية التي تقدم لنا دراسات وأبحاث جادة عن واقعنا الاجتماعي. لمعرفة عناصر قوتنا وضعفنا، ومن ثم العمل على تأكيد عناصر القوة وطرد عناصر الضعف. فلا حيوية في المجتمع بلا نقد، ولا قدرة للمجتمع للتخلص من عيوبه بدون تشجيع الباحثين والمختصين على قراءة الواقع الاجتماعي ونقده.
والنقد الاجتماعي لا يؤسس للفوضى والانفلات أو تضخيم السلبيات، وإنما هو ضرورة من ضرورات تحقيق الأمن الاجتماعي.
وجماع القول: إننا بحاجة دائمة إلى ممارسة النقد والفحص، حتى يزداد وعينا الاجتماعي وتنضج قدراتنا المجتمعية، وتتمكن من طرد كل عناصر الضعف والاهتراء من فضائنا الاجتماعي. وعليه فإن الخوف من النقد يضر بالواقع الاجتماعي حقيقة. ولا سبيل أمامنا إذا أردنا الحيوية والفعالية الدائمة، إلا مواصلة الفحص الدائم والنقد المستمر لكل وقائعنا وحقائقنا الاجتماعية. النقد الذي لا يستهدف التقويض، بل التقويم وتصحيح الاعوجاج.
اضف تعليق