الدعوة الى حماية الحرية الفردية وتحريك الاقتصاد اثناء العملية هو اكثر الحاحا من البيانات والاحصاءات. الناس كان مطلوبا منهم اتخاذ خيار زائف بين انتعاش اقتصادي سريع وحماية ارواح الامريكيين الأكثر حساسية للمرض. في بلد حيث تكون فيه فكرة الحرية مقدسة، يجب ان تسود الحجة المقنعة...
حتى الآن بلغ عدد ضحايا كورونا في الولايات المتحدة اكثر من 90 ألف امريكي واكثر من مليون ونصف مصاب، وفي كل يوم تُسجّل اصابة 25 ألف شخص او اكثر. وعلى الرغم من هذا، هناك اندفاع متزايد في عموم البلاد للمطالبة برفع قيود التباعد الاجتماعي. ولايات فلوريدا و ويسكونسن وغيرها بدأت التحرك لإعادة فتح الاقتصاد. معظم خبراء الصحة العامة يؤكدون ان الوقت لازال مبكرا جدا، وان تخفيف القيود سيقود الى تصاعد الاصابات بالعدوى.
العديد من الناس يضغطون لإعادة فتح البلاد وينظرون الى القضية من منظور الحرية. هم يجادلون بان الحجر الصحي واجراءات الحكومة القسرية في الإغلاق يشكل انتهاكا لحقوقهم الفردية في اتخاذ الخيارات المناسبة لهم حول المخاطر الصحية. ان الولايات المتحدة تأسست على فكرة ان الحرية الفردية -للانسان الابيض في ذلك الوقت– هي مقدسة، هذه الحجة وجدت صدى عميقا لدى العديد من المواطنين.
لكن هناك اكثر من طريقة واحدة لفهم الحرية. اصلاحيو الصحة العامة في انجلترا قبل 150 سنة وجدوا الكثير من الاختلاف. اتجاههم قد يوفر مخططا او برنامج عمل فعال لكيفية المواجهة الفعالة لـفرضية "جسمي، خياري" وحجة مقاومة الحجر الصحي اليوم.
في القرن التاسع عشر، لم يواجه مسؤولو الصحة العامة فقط مرضا معديا واحدا، وانما العديد من الامراض: الحمى القرمزية، الخناق، التيفو، الكوليرا، السل، الجدري، والتي قتلت مجتمعة عشرات الآلاف من الناس كل سنة. الاوبئة كانت شائعة، والاطباء لم يكن بوسعهم وقفها، اللقاحات كانت متوفرة فقط لمرض واحد وهو الجدري، الاختبارات لم تكن موجودة، ولم تكن هناك علاجات فعالة عدى الراحة والترطيب، وكان لدى الاطباء فهم قليل عن مسببات المرض. في الشطر الاكبر من القرن، كانت النظرية الشهيرة ان المرض نتج عن "بخار سام"، أبخرة غامضة من النباتات المتعفنة والمواد العضوية.
وعبر عدة عقود، ادركت مجموعة من العلماء المبدعين والاطباء ومسؤولو الحكومة ان الانعزال والتعقيم والتعقّب وغيرها من اجراءات الصحة العامة المتعارف عليها الان ربما تقلل من انتشار المرض. علماء امثال روبرت كوخ و لويس باستور طوّرا نظرية الامراض الجرثومية التي بيّنت ان الامراض المعدية نتجت عن ميكروبات انتقلت من شخص الى آخر. هذه الفكرة وفرت الكثير من الدعم للاجراءات التي شجعها الاصلاحيون.
ولكن كما هو الحال اليوم، اقلية هامة من الناس عارضت بقوة، مجادلة ان هذه الاجراءات تنتهك حريتهم. فمثلا، في عام 1890 قدّم 16000 شخص في نوتنغهام طلبا يعارضون فيه العلاج الاجباري في المستشفيات للمرضى المصابين بالعدوى. الطلب وصف العزلة في المستشفى "كسجن يحرم الناس من حقهم في معالجة مرضاهم والمطالبة بموتاهم ". احيانا، المعارضة لمثل هذه الاجراءات تصبح عنيفة. خلال مرض الكوليرا عام 1832، اندلعت اضطرابات في ليفربول ومدن انجليزية اخرى عندما ثار الناس ضد الاطباء ومحاولاتهم نقلهم من بيوتهم الى المستشفيات. الشائعات انتشرت على نطاق واسع تفيد بان المرضى قد يُقتلون وتُشرّح اجسادهم لأغراض البحوث الطبية. حينذاك تشكلت مختلف الجماعات المدنية مثل مؤسسة اليقظة للدفاع عن الحقوق الفردية وجمعية ضد الاكراه. تلك الجماعات عكست طابع القرن التاسع عشر، لكن رؤيتهم لقيت القبول لدى كل من يعارض الحجر الصحي الحالي.
صوت بارز في هذه الحركة كان شارلس بيل تايلور الجراح الشهير في طب العيون من مدينة نوتنغهام. "حكومتنا المحلية اصبحت لعنة" هو كتب في مجلة نوتنغهام عام 1883. "الاثرياء المتطفلون والاكراه المتعجرف تمكنا سرا من إضعاف المؤسسات، ولم يضعا اي شيء للحقوق العادلة والحريات القانونية للناس.. لم يكن هناك شر أكبر من خسارة الحرية، لا شيء يمكنه تعويضها". اللغة ربما تبدو قديمة الطراز، لكن المشاعر مألوفة تماما. استجابة لهذه الاعتراضات العنيفة المساندة للحرية الفردية، طوّر قادة الصحة العامة في لندن وليفربول ومانشستر واماكن اخرى جدالا مضادا قويا. هم ايضا اطّروا جدالهم بعبارات من الحرية – الحرية من المرض. حسب رؤيتهم، لكي نحمي حقوق المواطنين في ان يكونوا احرارا من المرض، فان الحكومات والمسؤولين يحتاجون للسلطة في عزل اولئك المرضى، وتلقيح الناس، واتخاذ خطوات اخرى لتقليل مخاطر الامراض المعدية.
كان من بين اهم المصلحين جورج بوكانان George Buchanan، المسؤول الطبي الرئيسي في انجلترا من عام 1879 الى عام 1892. هو جادل بان المدن والبلدات لديها السلطة لاتخاذ الخطوات الضرورية لضمان الرعاية الصحية المجتمعية. هو ومعه عدد آخر من المصلحين اعتمدوا في حججهم على فكرة طوّرها الفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت مل في القرن التاسع عشر، الذي من المفارقة يُعد المدافع القوي عن الحرية الفردية. أعلن (مل) بوضوح عما اسماه "مبدأ الاذى"، والذي يدّعي فيه انه بينما الحرية الفردية هي مقدسة للغاية، لكنها يجب ان تُقيّد عندما تؤذي الاخرين. كتب مل عام 1859 في (حول الحرية)، "الغاية الوحيدة التي تبرر للبشرية التدخل فرديا او جماعيا في حرية وافعال الافراد، هي الحماية الذاتية". اصلاحيو الصحة العامة جادلوا بان مبدأ الاذى منحهم السلطة في متابعة اهدافهم.
في مقال نُشر في لانسيت عام 1883 يلخص هذه الرؤية بدقة: "نحن لا نستطيع ان نرى اي عنف غير ملائم للحرية الفردية في عمل السلطات الصحية لأجل كامل الجماعة، عندما يتطلب الامر ابلاغهم بوجود مرض خطير على الاخرين. حرية الفرد لاتستلزم مخاطرة للآخرين". المؤلف كتب "الانسان المصاب بمرض الجدري يمتلك الحرية الطبيعية للسفر في تكسي او باص، لكن المجتمع يمتلك الحق الذي يتجاوز حرية الفرد الطبيعية، ويقول له يجب ان لا يقوم بذلك ".
اعتمادا على هذه الحجج وبالاضافة الى العلم الجديد بالمكروبات، فان الاصلاحيين قد انتصروا. من عام 1860 الى 1890، استعملت الحكومة البريطانية والعديد من المدن والبلديات الانجليزية هذا التفسير للحرية لتمرير سلسلة من القوانين تسمح للسلطات لتعقّب والابلاغ عن الامراض المعدية، وعزل الناس ونقلهم الى المستشفيات وفحص وتعقيم بيوت الناس والبنايات الاخرى لضمان مطابقتها للمعايير الصحية.
وبسبب هذه التدخلات، انخفضت نسبة الاصابات بالامراض المعدية في انجلترا. اليوم، قادة الصحة العامة الامريكيون والسياسيون يتجاهلون هذا الاتجاه، بدلا من ذلك، هم بنوا حججهم على الأرقام وبالذات على التصاعد المستمر في الاصابات والوفيات في كوفيد 19. هذا بالتأكيد جواب مقبول وعقلاني. ولكن بالنسبة للبعض، الدعوة الى حماية الحرية الفردية وتحريك الاقتصاد اثناء العملية هو اكثر الحاحا من البيانات والاحصاءات. الناس كان مطلوبا منهم اتخاذ خيار زائف بين انتعاش اقتصادي سريع وحماية ارواح الامريكيين الأكثر حساسية للمرض. في بلد حيث تكون فيه فكرة الحرية مقدسة، يجب ان تسود الحجة المقنعة بان اختزال الحريات الفردية احيانا ضروري لضمان الحرية لكل فرد.
خلال بضعة اشهر، اضيف كوفيد 19 الى امراض مثل الحمى القرمزية والخناق والكوليرا كمثال على التهديد الذي يتطلب التخلي عن نوع من الحرية لكي يتمتع الناس في كل مكان بحقوقهم بالصحة. الامراض المعدية والقاتلة حتى الان لايمكن معالجتها او التلقيح ضدها. اولئك الذين يريدون تجاهل الابتعاد الاجتماعي، ويزدرون الاقنعة ويزدحمون في الاسواق وعلى السواحل ربما يدافعون عن الحرية الفردية، لكنهم ايضا وبلاشك يتسببون بالضرر لحرية الالاف من الناس الآخرين.
الحرية بالنهاية مفهوم مرن، وحرية الناس بالتأكيد تتضمن فرصة تقليل الخطورة الجماعية للموت العشوائي على نطاق واسع.
اضف تعليق