كل تلك القدرات العسكرية العالمية، والتي استغرقت لبنائها عقودا من البحث، والتطوير والشراء، والدمج والاندماج سقطت فعاليتها في بيئات التهديد البيولوجية الفيروسية المتجددة، بل تزايدت خطورتها عن كل مرة، لتحصد آلاف الأرواح البشرية، فقد تهاوت منظومة التسلح الأمريكية والأوروبية والعالمية أمام فيروس كورونا المجهري وعجزت...

كثيراً ما يُنظر إلى سباقات التسلح على أنها حوادث سلبية من الناحيتين الاقتصادية والأمنية لأن اقتناء الأسلحة يتطلب على نطاق واسع موارد اقتصادية كبيرة قد تكون على حساب البنية التحتية للدول مما يضعها في مأزق تحقيق التوازن الإنفاقي والتنموي، فإذا أنفقت دولتان مبالغ كبيرة من المال فقط لإلغاء جهود بعضهما البعض، قد يُعبر عن تلك النفقات على أنها هدر.

ومع ذلك، هناك جدل كبير حول التأثير الاقتصادي للإنفاق العسكري يختلف من دولة الى أخرى، فقد تعظم الفوائد لدى الدول المصدرة للأسلحة بالمقابل تضعف الفوائد للدول المستوردة من منطق المكسب والخسارة لأن الدول التي يجب أن تستورد الأسلحة ستشهد تأثيرات اقتصادية سلبية أكثر لسباق التسلح، كما أن واردات الأسلحة هي المساهم الرئيسي للديون في البلدان النامية، حتى منطق الربح والخسارة قد لا يستثني البلدان المنتجة للأسلحة، فمن المرجح أن يكون للإنفاق العسكري المفرط عواقب اقتصادية سلبية في نهاية المطاف.

ويعد سباق التسلح نمط اكتساب تنافسي للقدرة العسكرية بين دولتين أو أكثر، اذ غالبًا ما يستخدم هذا المصطلح بشكل فضفاض للإشارة إلى أي زيادة عسكرية، أو زيادة في الإنفاق من قبل مجموعة من البلدان على التسلح، حيث كثيرا ما تعكس الطبيعة التنافسية لهذا التراكم علاقة عدائية، كما يستخدم مفهوم سباق التسلح في مجالات أخرى، ففي العلاقات الدولية نجد هناك مجموعة واسعة من الأدبيات النظرية، والتجريبية تقدم نماذج تفسيرية لسباق التسلح -لا يسعنا المقام شرحها بل سنقوم بتقديم شرح تفصيلي لها في مقالاتنا المقبلة- تشمل هذه النماذج نماذج نظرية الألعاب القائمة على "معضلة السجين" (PD) Prisoner's Dilemma والنماذج الرياضية الديناميكية المستندة إلى نموذج ريتشاردسون Richardson والنماذج الاقتصادية التي غالبًا ما تعتمد على إطار تعظيم المنفعة.

لذلك، فإن المناقشة في هذه المقالة تقتصر على حقيقة فائدة سباقات التسلح العسكرية، وماذا جنت دول العالم منها في مواجهة الأزمات الاقتصادية، والبيئية والصحية، خاصة أزمة كورونا المستجدة حاليا ما يستلزم طرح أسئلة جوهرية أهمها: هل استطاعت الرؤوس النووية منع انتشار الفيروسات التاجية؟ هل انتهى وقت تحضير الجنود لحماية الحدود؟ هل فعلا بدأ عصر الحروب البيولوجية، وانتهى عصر الحروب العسكرية أمام قوة الفيروسات؟

لقد تم تصميم هيكل الحد من التسلح في الحرب الباردة، الذي شارك فيه عشرات الآلاف من الأسلحة النووية، بشكل معقد على مدى سنوات من المفاوضات الشاقة بين قوتين عظميين - الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ساعدت مثل هذه المعاهدات المعقدة في منع العالم من الإبادة النووية، وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا إلا أن سباق التسلح لم ينته، فبعد انتهاء الحرب الباردة عام 1991 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1987 معاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF) للحد من نطاق، ومدى وصول جميع أنواع الصواريخ، تلتها معاهدة ستارت 1 في عام 1991 ومعاهدة ستارت الجديدة في عام 2011 كان هدفها في الظاهر الحد من قدرات الأسلحة البالستية لكلا البلدين، لكن هذا الحد كان أقرب للوهم منه إلى الواقع فقد انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى في عام 2019 متهمة روسيا بأنها كانت غير ممتثلة لبنود المعاهدة ليتشكل بعدها سباق تسلح جديد جذب المزيد من اللاعبين، والمزيد من الأموال، والمزيد من الأسلحة في وقت يزداد فيه عدم الاستقرار والقلق العالمي بشأن الانتشار النووي.

هكذا استمرت حمى التسلح في عديد الدول، منها الهند وباكستان وكوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية وإيران والصين، وإسرائيل، فبينما تتصدر الولايات المتحدة العالم في نفقات التسلح تليها ألمانيا ثم الصين حسب احصائيات تقرير التوازن العسكري الذي يصدر سنويا عن مركز الدراسات الإستراتيجية الدولي (آي آي أس أس) سنة 2019 تأتي السعودية في طليعة الدول العربية، أما حسب الترتيب القاري تتزعم آسيا سباق التسلح تليها القارة العجوز، وللتحليل أكثر وتقريب الصورة يتحتم علينا القاء نظرة على آخر احصائيات سباق التسلح في العالم.

ينفق العالم ما يقرب من 3 تريليون دولار سنويًا على النفقات العسكرية، وتدير الولايات المتحدة الجزء الأكبر من تجارة الأسلحة في العالم - حوالي 79٪ وفقًا للأرقام التي جمعتها وزارة الخارجية الأمريكية حسب تقرير الإنفاق العسكري العالمي وعمليات نقل الأسلحة الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في ديسمبر 2019 وهو أحدث تقييم أمريكي للإنفاق العسكري العالمي من عام 2007 إلى عام 2017.

في حين احتلت دول عربية، لسنوات، مواقع متقدمة في قوائم الأكثر استيرادًا للسلاح عالميًا، واستحوذ هذا القطاع على جزء كبير من موازنات حكومات المنطقة، وبطبيعة الحال، شكلت الأزمات الإقليمية المتلاحقة سببا أساسيًا لزيادة الإنفاق على التسلح، ولكن مع ازدياد أهميته الاقتصادية للدول المنتجة والمصدرة، وهي في الغالب ذات ثقل على الساحة الدولية؛ بات ذلك الإنفاق يشكل أيضًا ورقة تستخدمها الأنظمة لشراء مواقف سياسية أو دبلوماسية.

وقد بلغ إجمالي الإنفاق العسكري للمنطقة العربية نحو ترليون دولار في السنوات الـ10-15 الأخيرة، وهو رقم هائل بكل المعايير، سيما لمنطقة تفتقر إلى الكثير من مقومات التنمية الأساسية، وتتصدر السعودية بشكل خاص والخليج بشكل عام الدول العربية في هذا القطاع، وقد ارتفع الإنفاق الدفاعي في العالم في عام 2019 بنسبة 4 في المئة عما كان عليه في عام 2018، وتعد تلك أعلى زيادة سنوية خلال عقد كامل حسب تقرير التوازن العسكري الذي يصدر سنويا عن مركز الدراسات الاستراتيجية الدولي (آي آي أس أس)، وقد زاد الإنفاق الدفاعي الأوروبي أيضا ليصل إلى مستويات لم تشهدها الدول الأوروبية منذ الأزمة المالية العالمية، إذ وصلت نسبة الزيادة إلى 4.2 في المئة مقارنة مع عام 2018 لتعكس كل هذه الزيادات في الإنفاق الدفاعي عودة التنافس بين الدول، والتسابق على التسلح في عالم متغير مليء بعدم اليقين.

بالمقابل زاد الإنفاق الدفاعي في كل من الولايات المتحدة والصين بنسبة 6.6 في المئة، على الرغم من تصاعد معدل النمو في الولايات المتحدة وتباطؤه في الصين، و ارتفع الإنفاق الدفاعي العالمي بنحو 4٪ عام 2019 مقارنة بعام 2018 وهي أعلى زيادة على أساس سنوي منذ عقد من الزمان، طبعا وفق التقرير السابق ذكره دائما، وبذلك فإن الإنفاق الدفاعي في أوروبا آخذ في الارتفاع أيضًا، حيث وصل إلى مستويات لم نشهدها قبل الأزمة المالية بزيادة قدرها 4.2٪ مقارنة بعام 2018، وارتفع الإنفاق الدفاعي في كل من الولايات المتحدة والصين بنسبة 6.6٪ في عام 2019 وفي آسيا ازداد الإنفاق الدفاعي الإجمالي بنسبة 50٪ خلال عقد من الزمن، مدعومًا بارتفاع مستويات الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة، وفي أوروبا تمثل ألمانيا وحدها ثلث الزيادة الإجمالية في الإنفاق الدفاعي الأوروبي، حيث ارتفع الإنفاق الدفاعي الألماني بنحو 9.7٪ بين 2018 و 2019، ومن هذا المنطلق الاحصائي يطرح سؤال أكثر أهمية وهو

هل يمنع سباق التسلح انتشار الفيروسات التاجية؟

كل تلك القدرات العسكرية العالمية، والتي استغرقت لبنائها عقودا من البحث، والتطوير والشراء، والدمج والاندماج سقطت فعاليتها في بيئات التهديد البيولوجية الفيروسية المتجددة، بل تزايدت خطورتها عن كل مرة، لتحصد آلاف الأرواح البشرية، ومما لا شك فيه فقد تهاوت منظومة التسلح الأمريكية والأوروبية والعالمية أمام فيروس كورونا المجهري، وعجزت كل الأسلحة بما فيها الرؤوس النووية بل حتى أعتى الجيوش العالمية من حد قوة انتشار الفيروس.

وبدل أن نشاهد رؤوسا نووية توجه ضد فيروس كورونا أصبحنا نشاهد مسدسات الحرارة توجه نحو جبهة كل انسان يتحرك في الصين، وكاميرات الأشعة تحت الحمراء التي يمكنها الكشف عن الحمى، ومستشعر درجة الحرارة الدقيق من أجل الكشف عن أعراض الفيروس، وخوذات الرأس التي تكشف عن المصابين بالفيروس لينتقل بذلك الصراع والتنافس من امتلاك أكثر الأسلحة تطورا الى من يمتلك تكنولوجيا مخبرية أكثر قدرة، وأجهزة كشف ومنع انتشار الفيروسات أكثر سرعة.

وهو ما استوجب على الدول اعادة النظر في قصور معادلات الانفاق على سباق التسلح، والتوجه أكثر الى تعزيز معادلة "استغلال الفرصة" لوقف انتشار الفيروسات في العالم من خلال بناء منظومات دفاعية صحية قوية، واعادة التخطيط للمستقبل لتوقع احتياجات القدرة الانسانية المستقبلية، والتكيف مع الوتيرة السريعة للتغيير في التكنولوجيا -التي أبانت عن مشاهد درامية متخلفة ومحزنة في الدول النامية وحتى بعض الدول التي وضعناها على سلم التطور- عن طريق النمذجة الاقتصادية القياسية، والأساليب الأكثر نوعية بيئيا وصحيا للحفاظ على التواجد البشري.

فمثل بناء هذا السيناريو المستقبلي لم يكن يُرى دائمًا قبل أزمة فيروس كورونا بوضوح لدى معظم الدول، وبالتالي مسألة كسب حرب الفيروسات لن يكون بمدى امتلاك الأسلحة النووية، ولا بحجم الانفاق العسكري وتجهيز الجيوش، ومعارك التسابق نحو التسلح طالما أن المعركة انتقلت من بيئة أرضية واقعية الى بيئة بيولوجية غير مرئية بأسلحة مجهرية، انها حتما حروب خفية لا عدو يرى فيها، وسباق الزمن، وليس سباق التسلح، فهل من معتبر؟

* باحثة متخصصة في الإدارة الدولية-باتنة الجزائر
samia20171935@outlook.fr

اضف تعليق