q
وسط هذا الارباك العالمي الذي سببه فايروس لا يرى بالعين المجردة تدور في الاذهان الكثير من الأسئلة عن السبب وراء ما وصلت اليه البشرية والانهيار السريع الذي أصاب اغلب انظمتها الصحية والاقتصادية والتكنولوجية وحتى الأخلاقية التي وقفت عاجزة عن إيقاف تهديد فايروس كورونا لها وكيف...

في أواخر عام 2019 أعلنت الصين عن تفشي مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في ووهان (عاصمة مقاطعة هوبي) لينتقل بعدها الى أوروبا والامريكيتين وآسيا والمحيط الهادئ وافريقيا، لتعلن لاحقاً منظمة الصحة العالمية (11/اذار/2020) تحول الفايروس الى (جائحة) او وباء عالمي سريع الانتشار يهدد حياة المليارات من البشر في جميع القارات، وسط غياب لقاح فعال يحد من انتشاره السريع او يقضي على اعراضه التي قد تؤدي الى الوفاة، ليرتفع الذعر والخوف بين شعوب العالم الى اقصى درجاته بعد ان تجاوزت الإصابات عتبة (300) ألف والوفيات الى أكثر من (15) الف.

وقد دق هذا الفايروس ناقوس الخطر العالمي بعد ان امتدت آثاره المدمرة الى شل قطاعات رئيسية منها الصحة والاقتصاد والنفط والنقل والسياحة والعمل حتى وصل الامر الى توقع العديد من الخبراء ان العالم مقبل على تغيير شامل للنظام العالمي السائد بنظام عالمي جديد.

ما زال طريق القضاء على هذا الوباء في بدايته، وبحسب الخبراء والمختصين، ربما يحتاج العالم الى (12-18) شهرا لتطبيق اللقاح والقضاء على الفايروس بصورة نهائية، ومثلها او أكثر لمعالجة الاثار الاقتصادية التي تسبب بها، خصوصاً وانه ضرب وبقوة اقتصاديات دول رائدة مثل الصين والولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها، كما أطاح بأسعار النفط والبورصة وأحدث تباطأ تاريخيا في حركة نمو الاقتصاد العالمي التي لن يتعافى منها بسهولة مع استمرار ارتفاع اعداد الإصابات وفرض الحجر الصحي ومنع التجوال داخل العديد من الدول فضلا عن تقييد الحركة على المستوى العالمي.

وسط هذا الارباك العالمي الذي سببه فايروس لا يرى بالعين المجردة تدور في الاذهان الكثير من الأسئلة عن السبب وراء ما وصلت اليه البشرية والانهيار السريع الذي أصاب اغلب انظمتها الصحية والاقتصادية والتكنولوجية وحتى الأخلاقية التي وقفت عاجزة عن إيقاف تهديد فايروس كورونا لها؟ وكيف يمكن ان يجتاز العالم هذا الاختبار ويعبر الى بر الأمان بأقل الخسائر الممكنة؟

في البداية يمكن ان نقسم مدى تفاعل المجتمعات الانسانية مع هذا الحدث العالمي الى ثلاث فئات:

1. أصحاب الخرافة: وهم من يربط أي حدث بالخوارق ويؤمن بالخرافة ويدعو الناس الى الاستسلام واليأس ويكذبون العلم والعلماء ويحرفون الدين وفق مزاجهم وميولهم، بل وغالباً ما يربطون مثل هكذا احداث بنهاية العالم وزوال الدنيا.

2. السلبيون: وهم فئة استهزأت بالمرض واعتبرت ان التقدم والتكنولوجيا البشرية لا يمكن كسرها بفايروس بسيط واعتمدوا على قدرتهم الذاتية بعيداً عن إرادة السماء تدفعهم بذلك أنانيتهم ومصالحهم الخاصة.

3. المعتدلون: وهم من يؤمن بان الكون يسير وفق مبدأ الأسباب والمسببات، وان الجانب المادي في الوقاية والعلاج مهم بقدر أهمية الجانب الروحي الذي يمنح الانسان الوقار والسكينة والايجابية في زمن الكوارث.

الجانب الأول سعى الى الاعتماد على طقوسه الخاصة في دفع المرض عن اتباعه بعيدا عن النصائح والارشادات الطبية المتبعة، اما الجانب الثاني فقد أستهزأ بالمرض ولم يلتزم مطلقاً بالنصائح والارشادات الطبية، وكلا الجانبين مارسا الحياة الاعتيادية والاختلاط والتجمع حتى حلت الكارثة وصعبت مهمة احتواء انتشار الفايروس بأقل الخسائر، بينما تحمل الجانب الثالث أعباء تصرفات الجانبين (السلبية)، إضافة الى سعيهم في احتواء المرض والقضاء على الفايروس.

ولو اخذنا هذا التقسيم على محمل الجد فسنعرف حجم الإخفاق الكبير الذي تمر به المجتمعات الإنسانية، وان وباء (كورونا) ما هو الا واحد من مجموعة اوبئة تعاني منها (الإنسانية)، او مجرد إشارة لما يمكن ان يسبب لنا المزيد من الألم والمعاناة مستقبلاً، خصوصاً وإننا (البشرية) في مركب واحد لكنه مقسم الى فئات تحكمها اغلبية الانانية والمصلحة والخرافة فيما يقاتل القلة من أصحاب العقل والمنطق والحكمة لمنع الجميع من الغرق.

يقول المرجع الراحل اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله): "أن القوانين الإلهية في هذه الحياة مبتنية على أساس الأسباب والمسببات مما توجب أن تعود النتائج على المجموع من حيث الأفراد العرضية والطولية، في الخير والشر"، بمعنى ان سنة الله في ارضه وبين عباده مبنية على اتباع الأسباب في الوصول الى النتائج الحقيقية (السببية) وعدم الاتكال على الغيب او الخالق (الذي جعل الموت والحياة والرزق والكون وكل شيء يجري ضمن الأسباب) من دون السعي في الموارد المخصصة لها، وقد أشار القران الكريم الى هذه الحقائق في العديد من الآيات الكريمة كقوله تعالى (انا مكنا له في الأرض واتيناه من كل شيء سببا* فاتبع سببا).

والاهم ان عليك (فرد، مجتمع، مؤسسة، شركة، دولة، البشرية) حصد ما قمت بزراعته (السبب والنتيجة)، أي ان المخرجات تتناسب طردياً مع المدخلات، ان كان خير فخيرا او كان شر فشرا، ولو أدرك المجتمع الإنساني هذه الحقيقة لوصل الى أسباب تفشي هذا الوباء وفشله في التصدي المريع له:

1. ان المجتمع الدولي تحكمه المصالح الخاصة بعيداً عن مبدأ "وحدة الجنس البشري" او "المصالح الإنسانية المشتركة"، وهذا ما ثبت فشله امام كائن مجهري صغير لم يفرق بين دولة وأخرى او مجتمع واخر.

2. النظام العالمي القائم على احتكار التكنولوجيا وافتعال الازمات والحروب والصراعات الداخلية للسيطرة على الأسواق وإخضاع الشعوب وتحويل الافراد الى مستهلكين أدى الى فوارق طبقية واجتماعية وثقافية هائلة بين الشعوب انعكس سلباً على التعاون والتكاتف العالمي امام الازمات والاوبئة.

3. تركيز الاقتصاد ورؤوس الأموال بيد قلة (1%) من البشر تتحكم في حركة الاقتصاد العالمي وتقسيم المجتمعات البشرية الى أصناف متقدمة وأخرى نامية، ما ادى الى خلق أزمات اقتصادية مدمرة فاقمت من الاوضاع الإنسانية وأدت الى فشل الإنسانية في التصدي لأي ازمة مشتركة على مستوى العالم.

4. حجم الأموال المصروفة على الصناعات الحربية لا يمكن مقارنته بما يتم صرفه على قطاع الصحة العالمية، كما ان ضعف التواصل العالمي في مجال الصحة وتبادل الخبرات العالمية جعل العالم يقف متفرجاً امام هذا الوباء.

5. عدم احترام الطبيعة وتدميرها بعد ارتفاع نسب التلوث والاحتباس الحراري والتغيير المناخي بسبب سوء استخدام الموارد الطبيعية في عمليات التصنيع والاستهلاك غير المبرر لهذه الموارد.

ان العبور الى بر الأمان من هذه الازمة الصحية العارضة لا يعني بالضرورة اننا وصلنا الى النهاية السعيدة، وان أزمات او اوبئة أخرى يمكن ان تكون اشد وأقسى منها احتمال وارد في أي وقت ومكان، إذا لم يصحح العالم مساره ويستمع الى أصحاب المنطق والحكمة في انقاذ المجتمعات الإنسانية، وضمان حياة كريمة وتكافل اجتماعي عالمي لا يفرق بين انسان واخر وبين بلد متطور وغني واخر تحت خط الجهل والفقر فالجميع في مركب واحد.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2020Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق